ملخص
الجيش الروسي يسعى بشدة إلى السيطرة على بوكروفسك، المدينة الإستراتيجية في منطقة دونيتسك، لأن ذلك سيؤدي إلى تقسيم خطوط الدفاع الأوكرانية وإضعاف الإمدادات.
مدينة بوكروفسك التي تعد مركزاً رئيساً للسيطرة على منطقة دونيتسك في شرق أوكرانيا، تمثل منذ فترة هدفاً يقاتل جنود فلاديمير بوتين من أجله طوال أشهر، وهي هدف ضحت موسكو في سبيله بالآلاف من جنودها.
منذ اجتياح أوكرانيا عام 2022، ومسألة السيطرة على كامل منطقة دونيتسك التي شهدت أطول المعارك وأعنفها في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، تمثل أولوية غالباً ما يتم الإعلان عنها من قبل الكرملين.
ويركز رجال بوتين بعناد على استهداف بوكروفسك، وقد خصص خلال الأشهر الماضية مصادر هائلة لمحاولة كسر الدفاعات الأوكرانية هناك. كما جردت قوات موسكو على تلك المنطقة هجمات مشاة، "انتحارية" في الغالب، من دون الالتفات إلى الخسائر البشرية التي تتكبدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد أكد مصدر عسكري رفيع لـ "اندبندنت" بأن قواتاً تضم في الأقل ثلاث كتائب ذات خبرة، بينها كتائب آزوف وكاراداه، نُشرت في المنطقة لتعزيز القوات الأوكرانية المتواجدة حول بوكروفسك، والتي، بحسب المصدر المذكور، يقل عددها في بعض المواضع بمعدل 10 إلى واحد مقارنة بالقوات الروسية.
والمصدر ذاته، وهو كولونيل على صلة بهيئة الأركان العامة الأوكرانية، قال إن المعارك تستعر قرب بوكروفسك على امتداد خط من البلدات الصغيرة، مثل ميرونوهراد، نوفوهروديفكا، سيلدوفو، أوكراينسك، وهيرنياك، عند جنوب شرق بوكروفسك وكوراخوف وفوهليدار في الجنوب.
وتستخدم في إطار المعارك معدات ثقيلة لحفر أقواس من الاستحكامات الدفاعية كالخنادق وغيرها من التحصينات التي تشق طريقها عبر هذه البلدات والقرى أو فيما بينها، وقال المصدر إن الألغام التي زرع بعضها بواسطة المسيرات ستعوق هجمات "الأمواج البشرية" التي يشنها الروس.
والإثنين الماضي قالت هيئة الأركان الأوكرانية إن المعارك الأعنف تدور حول بلدة كوراخوفه الصغيرة حيث قامت القوات البرية والجوية الروسية بشن عشرات الهجمات يومياً طوال الأسبوع الماضي، مستخدمة فيها تكتيكات الأمواج البشرية التي باتت روتينية بالنسبة للروس، وهذه تكتيكات تفترض زج أفواج من جنود المشاة بأرض المعركة مدعومين أحياناً بالدبابات والناقلات المدرعة، وقد جرى إخلاء معظم المدنيين من المنطقة، لكن يوم الأحد الماضي قتل أحد السكان جراء القصف الروسي هناك.
وأوكرانيا في المقابل مصممة على الصمود والتمسك بالمنطقة لأطول فترة ممكنة، لذا من المرجح تحول المعارك إلى حصار مطول آخر يتضمن معارك طاحنة ضمن قطاعات متقاربة، من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت، وذلك على ما شهدناه في باخموت التي لم يدخلها الروس في نهاية المطاف إلا بعدما غدت كتلة من الركام.
من جهته، القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية الجنرال أولكسندر سيرسكي، أفاد بأن الدفاعات حول بوكروفسك عُززت بعدد من ألوية الاحتياط وقد جرى بالفعل إبطاء التقدم الروسي.
أما الكولونيل، المصدر الذي تحدث إلى "اندبندنت"، فقال إن "القوات الأوكرانية تتحضر لقتال شوارع، ومن المؤكد أن الروس لن يتمكنوا من السيطرة على بوكروفسك قريباً وسنكون قادرين على وقف تقدمهم لأسابيع أو أشهر، وحتى حلول الشتاء، كما نأمل، حيث لن يكون بوسعهم تحقيق تقدم أكبر".
وفي حال سيطر الروس على بوكروفسك فسيؤدي ذلك إلى شق خط الدفاع الأوكراني في المنطقة وإلى تعقيد عمليات إمداد القوات الأوكرانية في الجزء الشرقي من منطقة دونيتسك إلى حد كبير. وذاك بدوره سيضعف قدرة كييف على الصمود في مواقعها الحصينة الباقية هناك، مثل سلوفيانسك، وكراماتورسك، وكوستيانتينيفكا، وتشاسيف يار، وتوريتسك.
كذلك فإن خسارة أوكرانيا لبوكروفسك قد تؤدي أيضاً إلى فتح الطريق أمام الروس باتجاه منطقة زابوريجيا الأوكرانية.
لكن حتى في هذه الحال فإن الوجود في بوكروفسك لا يعني بأن الروس سيتمكنون من استخدام شبكة الطرق والسكك الحديد المارة في تلك البلدة لأنهم سيكونون بمرمى المدفعية الأوكرانية، إذ إن الطريق الأكثر مباشرة عبر الأراضي الواقعة تحت السيطرة الأوكرانية هناك هي بالفعل الآن شديدة الخطورة على السيارات المدنية لأنها مكشوفة أمام المسيرات الروسية وعلى مرمى مدفعية الجيش الروسي، وذاك سيكون مماثلاً بالنسبة إلى الآليات الروسية التي تحاول الوصول إلى بوكروفسك إن وقعت الأخيرة في يد الروس.
ودخلت "اندبندنت" بوكروفسك من الشمال، عبر بلدة دوبروبيليا. آثار الزحف الروسي المكثف تبدو كبيرة وواضحة للعيان، ليس فقط من خلال الشوارع الخالية إلا من عدد قليل من العابرين، بل أيضاً من خلال الإغلاق العام الذي يشمل متاجر البقالة والمحال والأسواق والمطاعم والمقاهي التي كانت مزدحمة في السابق عندما زارت "اندبندنت" بوكروفسك في الربيع الماضي.
وتُسمع أصوات الانفجارات بشكل متواصل، ليس فقط من ناحية خطوط الدفاع الأوكرانية بل أيضاً من البلدة نفسها حيث هناك عدد كبير من المباني السكنية والتجارية المدمرة.
وثمة لافتات إعلانية كبيرة مكتوب عليها بأحرف كبيرة عبارة "إخلاء" ورقم هاتفي لمن يحتاجون المساعدة، وهذه اللافتات تذكّر من بقي من السكان بأن الحكومة تريد من المدنيين مغادرة المدينة، ولا يزال في المدينة نحو 38 ألف شخص من إجمال عدد سكانها البالغ 60 ألف نسمة ما قبل الحرب، وفق الإدارة العسكرية للمدينة.
وتجوب سيارات الشرطة الشوارع شبه الخالية مستخدمة مكبرات الصوت لدعوة من بقي من السكان إلى المغادرة ولإذاعة الرقم الهاتفي الذي يمكن لمن يحتاج إلى المساعدة الاتصال عليه، وما زالت البلدة تحظى بالكهرباء والغاز إلا أن مياه الصنابير باتت ملوثة وغير صالحة للشرب.
وبعض السكان مصممون على تحدي الواقع الذي يبدو محتوماً عبر محاولة التمسك بروتين حياتهم المعتادة لأطول فترة ممكنة. وفي هذا الإطار ثمة عدد قليل من محال الخضراوات التي تستمر بفتح أبوابها، وفي أحد المقاهي يجلس جنود خلف طاولات على رصيف المقهى يحتسون القهوة فيما أصوات الانفجارات تدوي في الأرجاء.
إيرينا بولينا، 66 سنة، تقول إنها لن تغادر بوكروفسك في الوقت الحالي لأن عليها الاهتمام بوالدتها البالغة من العمر 83 سنة والتي يصعب عليها التنقل والسفر، وتجر إيرينا دراجتها الهوائية المحملة بمؤنة تضم تفاحاً وخبزاً، وهي تعبر طريقاً تحيطه بيوت دمرتها القذائف الروسية في الآونة الأخيرة.
"أنا خائفة لكن لا يمكنني المغادرة وترك والدتي. كثير من جيراني غادروا لكن هناك جيراناً لا يزالوا هنا"، تقول إيرينا وتضيف "إننا ننتظر كي نرى ماذا سيحصل. إن تردى الوضع أكثر، أفترض أن علينا المغادرة. نعرف ما فعله الروس في الأمكنة التي احتلوها ونحن لن ننتظرهم حتى يصلوا، لكن لا نزال نأمل في أن يتمكن الجيش الأوكراني من إيقاف دخولهم".
امرأة أخرى اسمها الأول إيلينا تقول إنها تستقي الأخبار من التلفزيون الروسي ومن الإعلام على الإنترنت، وإنها قد تبقى حتى لو بدا الروس أنهم سيحتلون البلدة، "كثيرون منا تعبوا من الوضع ومن هذه الحرب ومن الدمار، فبتنا لا نبالي تجاه من يسيطر على الأرض"، تقول.
وتدرك السلطات الأوكرانية أن بعضهم ممن يصرون على البقاء في بوكروفسك والبلدات المحيطة يريدون سيطرة الروس. وهؤلاء يُطلق عليهم بازدراء لقب "جداني" zhdany، أي "جماعة الانتظار".
وكان هناك قرابة 200 شخص ينتظرون في محطة قطار بوكروفسك المكشوفة كي يستقلوا مجاناً قطار إخلاء يومي يقلهم غرباً إلى مدينة دنيبرو ثم إلى لفيف.
أوليكساندر، 63 سنة، وهو مهندس كان يعمل في محطة التدفئة المائية التي تؤمن التدفئة المركزية للبيوت والمكاتب وفق الطريقة السوفياتية يقول إن "الروس يطلقون النار علينا طوال الوقت. قبل يومين، سقطت القذائف على مقربة من بيتنا وبعدها قرب سوق كنا نذهب إليه".
ويضيف أوليكساندر أن زوجته فالينتينا، 65 سنة، غادرت قبله للإقامة مع أقارب في منطقة خميلنيتسكيي بغرب أوكرانيا، لكن ابنه دينيس، 35 سنة، بقي للقتال في صفوف الجيش الأوكراني. "نحن لا نريد المغادرة، وطبعاً سنعود إن كان بمقدورنا. لا أعتقد أن الروس سيبقون هنا للأبد والأمور ستتحسن".
أما إيرا أنتونينكو، 33 سنة، معلمة الرياضة البدنية والتاريخ، وابنتها تانيا، 15 سنة، فكانتا تجلسان على رصيف محطة القطار تنتظران الأخير والطقس شديد الحرارة. وقالت إيرا إنها قاومت لأسابيع فكرة مغادرة البلدة على رغم ارتفاع وتيرة القصف.
"أنا مطلقة ونحن نعيش بمفردنا. لقد صرفت كل ما ادخرته من عملي على بيتنا كي يغدو مسكناً جميلاً، والذي آمل في النهاية أن أبقيه لابنتي"، تقول إيرا وتتابع "لكن القصف كان شديداً قرب بيتنا وقد تعرض بعض جيراني وأصدقائي للإصابة. بدا الأمر وكأن الله يطلب منا المغادرة. أصبحت قلقة على حياة ابنتي، وأنا أيضاً أريد البقاء على قيد الحياة. لذا وفي لحظة حاسمة قبل بضعة أيام قررت المغادرة. وفي يوم واحد حزمنا أمتعتنا واستعددنا".
ومع حقائب قليلة وبرفقة كلبتهما سونيا، كانت الأم الشابة وابنتها تتوجهان إلى منطقة كيروفوهراد على بعد خمس ساعات إلى الغرب. "هذا الأمر كله يبدو بمنتهى الغرابة"، تقول إيرا، وتضيف "فأنا معلمة تاريخ والآن نحيا في ظل أحداث مريعة ستغدو جزءاً من تاريخ بلدنا. أتمنى أن يكون هناك خاتمة سعيدة لما يحصل، لكن في الوقت الحالي لا أعلم ماذا يخبئه المستقبل. أشعر بالقلق لأنني لا أعرف ماذا سأعمل وأين سنعيش. أشعر بأن كل ما بذلته ذهب سدى، وعليّ أن أبدأ من جديد مرة أخرى. لكن أعتقد بأننا سنكون بخير".
من جهته، يفهين ليبيدينتس، 24 سنة، كان جندياً متفرغاً في الجيش الأوكراني قبل الغزو الروسي. وقد أصيب في الثاني من مايو (أيار) هذا العام بانفجار قنبلة انزلاقية في منطقة كريفي ريه التي تبعد أربع ساعات غرباً بالسيارة، وقد فقد ذراعه اليسرى.
يفهين اليوم لديه طرف اصطناعي وهو ينتظر الحصول على طرف جديد أكثر تطوراً في وقت لاحق من هذا العام. عن حاله الراهنة يقول يفهين: "أن يفقد شخص ما ذراعاً أو ساقاً أو أكثر من طرف واحد، فإن ذلك لا يجعله عقيماً وعديم الفائدة. أريد من حياتي أن تكون طبيعية بقدر المستطاع. أريد مثلاً أن أعمل سائقاً مرة أخرى، إذ يمكنني بسهولة قيادة مركبة إن كانت تتمتع بنظام تغيير سرعة أوتوماتيكي. ليس علي سوى التكيف، وعلى الناس بدورها التكيف في التعامل معنا".
ويفهين، الذي ينوي الالتحاق بوالديه اللذين باتا يعيشان في كييف، يتابع قائلاً "قضيت الأيام القليلة الماضية وأنا أوضب بعض الأشياء التي يمكنني إرسالها لوالدي وإعداد بعض الأشياء الكبيرة، مثل البراد والتلفاز وغيرها من الأدوات، لمنحها إلى من يحتاج إليها. بعدها، وقبل بضع ساعات، أغلقت باب البيت ولا أعرف إن كانت هذه المرة الأخيرة التي أغادره بها".
ويشير يفهين إلى أنه تحدث مع الجنود الأوكرانيين في البلدة وكانوا منهكين لكنهم مصممين على مواصلة القتال. ويضيف "أعتقد أن بوسع بوكروفسك الصمود لستة أسابيع إضافية أخرى في أقل تقدير. وإن دخل الروس بوكروفسك بنهاية المطاف فإن ذلك سيحصل بعد أن تتحول البلدة إلى كتلة ركام كما حصل مع انتصارات روسية أخرى في باخموت وماريوبول وأفدييفكا. لكن حتى في هذه الحال فإننا سنعود وهم سيُطردون".
© The Independent