Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البشر يريدون الحرب للبقاء ولكن ما ذنب الضحايا؟

يرى هيغل أن الحروب ضرورية بين الشعوب وفرويد يقترح إيجاد العدو من أجل توحيد المواطنين

خلد غويا عملية إعدام الثوار الإسبان في 3 مايو 1808 على يد الفرنسيين في لوحته التي أطلق تاريخ العملية كاسم لها (مواقع التواصل)

ملخص

السؤال عن جدوى الحروب لا يزال مطروحاً منذ فجر الإنسانية من دون أن يلقى جواباً شافياً. فالعنف متجذر في الذات البشرية ويمثل حافزاً على الديمومة.

لا يحتاج المرء إلى شديد تركيز، أو دقة ملاحظة كي يدرك غلبة الشر في العالم على الخير، وهي غلبة تكاد تكون ساحقة. وما الحرب إلا أحد تعبيرات الشر الأبرز سطوعاً والأشد إيلاماً.

الآن، في هذه القنطرة الراهنة، أينما وليت اهتمامك، فإن أخبار الحرب والدمار والإبادة تحتل المشهد، وتوشك أن تغطيه بالدم والغبار والجثث المتفحمة. ومن فرط الحروب، أضحى المتلقون، وكذلك أجهزة الإعلام، يقيمون أهمية الخبر بمقدار ما يتضمن من ضحايا. والأهم أيضاً هوية الضحايا، إن كانوا شقراً أو سمراً. فليس ثمة تساوٍ في الموت، وليس ثمة عدالة في الحزن على ضحايا دون سواهم.

خلق العدو

الحزن (ولو كان مصطنعاً) لكثرة تكراره، لا يستدعي الانهماك في الألم، والإغراق في تأنيب الروح. ربما يستدعي الحزن كخيار بديل التعايش مع الألم، والنظر إلى الحرب باعتبارها أحد التجسيدات الكبرى لقوى الظلام المحتشدة في طبقات النفس البشرية، فالإنسان، بحسب الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، "مجبول على نزعة عدائية متأصلة".

ويشارك فرويد، توماس هوبز نظرته إلى تجذر العنف في الذات الإنسانية، وحاجة الإنسان دائماً إلى عدو كي يحفظ بقاءه وديمومته. بل إن فرويد في مراسلاته مع أينشتاين يقترح إيجاد العدو وخلقه، لما في ذلك من أثر حاسم في وحدة الجماعة وانسجام الأمة.

 

 

أما أينشتاين (المسكين) فكان يصدر، في محاججاته مع فرويد، عن نزعة كانطية مثالية تدعو إلى السلام الدائم، من خلال "إقامة هيئة تشريعية دولية هدفها فض النزاع والخلافات بين الدول"، واستباق الحروب قبل اندلاعها، ومحاصرتها بعد اندلاعها كيلا تستفحل.

بيد أن هيغل سبق فرويد في التنظير إلى أهمية الحرب، حتى إن فيلسوف الجدل الألماني، صاحب "أصول فلسفة الحق"، يرى أن "الحرب حال ضرورية بين الشعوب، وأنها تلعب دوراً كبيراً في تاريخها، كما تعمل على توحيد المواطنين. ومن دونها تفقد الشعوب، تدريجاً، معنى الحرية وتتمسك بالحياة المادية وحدها". وفي اعتقاد هيغل أن الشعوب إذا عاشت في سلام زمناً طويلاً "فإنها تفقد حياتها ووجودها".

ما ذنب الضحايا؟

وإذا كانت الحرب تعني التقدم، والسلام يعني الركود، وفق التنظير الديالكتيكي لصراع الأضداد، فإن التبشير بعهد لا قتل ولا قهر ولا عدوان ولا احتلال فيه، يغدو ضرباً من الطوباوية، ولعل هذا ما حاول أن يلامسه كتاب المحاورات بين أينشتاين وفرويد، الذي جاء تحت عنوان موحٍ هو "لم الحرب؟".

ولكن، ما ذنب الضحايا؟ هذا السؤال يقع في قلب المشروع الكانطي الذي استهوى أينشتاين المؤمن بأن كانط بعد المسيح وغوته "من القادة الروحيين والمعنويين".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل السؤال السابق عن الضحايا لا يخطر في بال الصاروخ الموجه الذي يقتلع المباني السكنية الآن، كما لم يخطر في بال الرئيس الأميركي هاري ترومان، وهو يأمر في 6 أغسطس (آب) 1945 بإسقاط أول قنبلة ذرية في العالم على مدينة هيروشيما اليابانية.

ولاعتقاد الولايات المتحدة، آنذاك، بأنها ربما تلهو، أطلقت اسم "الولد الصغير" على القنبلة التي قتلت على الفور ما لا يقل عن 70 ألف شخص، في حين سمت القنبلة التي أطلقت بعد أيام عدة على مدينة ناغازاكي "الرجل البدين"، في إيحاءات تشي بالإنكار المطلق لفظاعة ما جرى، وامتداداته على أجساد الضحايا وذريتهم حتى الآن.

تاريخ الصيحات المخنوقة، وهي تنصهر في ذروة حريق القنبلتين التي بلغت قوة تفجير أولاها 20 ألف طن من مادة "تي إن تي" شديدة الانفجار، خلدته قبة هيروشيما المسماة أيضاً "قبة غنباكو" الشاهدة على توحش الإنسان، والمتطلعة إلى عالم يشبه عالم كانط الخالي من الحروب والمشبع بالأمل والسلام.

الأدب الياباني خلد ذلك التاريخ المظلم، على رغم أنه لم يحظ، على أهميته وفرادته، بما حظيت به الأعمال الأدبية والفنية التي تناولت "الهولوكست". لكن الصرخة اليابانية ما تزال تقض جدران الصمت واللامبالاة، على رغم عودة اليابان، أخيراً، إلى العسكرة والتسلح وبناء الأحلاف، وكأن خيار هيغل لا مندوحة عنه.

الحب والحرب

وثمة من يذهب إلى أنه لولا القنبلتان الذريتان على هيروشيما وناغازاكي لما عرفنا بالأدب الياباني، أو ربما تأخرت الصناعات اليابانيّة العملاقة، لكن هذا الافتراض (الذي تعوزه الأدلة) يغدو غير ذي قيمة مع حجم الدمار والرعب اللذين عصفا بروح اليابان، وجردا المشاعر الإنسانية من أبسط قيمها: التعاطف.

هل نحتاج إلى حرب كي نبدع؟ وهل الكتابة الخلاقة تتغذى على التراجيديات الكبرى، أي لابد من موت كي تحيا النصوص، ولابد أن ينتصر السيف كي تفيض الكتابة بدم البلاغة والتشابيه؟ لو أن فرويد سئل عن ذلك فقد لا يتردد في القول بالإيجاب. إن السلام كما عبر هيغل يشبه بحيرة راكدة تحتاج إلى ريح عاتية كي تخلصها من الشوائب. وما هذه الريح إلا الحرب.

 

 

ذات مرة اقترح متفائل، كانطي النزعة، أن تبدأ نشرات الأخبار بأنباء سارة، وأن تتصدر الأحداث السعيدة مانيشتات الصحف والمنصات الرقمية، فكان المعلقون يسخرون من ذلك، وراحوا من دون تنسيق مسبق يعبرون عن نتيجة شبه موحدة: فرط الأخبار السارة يصيبنا بالسأم.

وحتى لو أردنا أن نتحدث عن الحب، فمن غير تراجيديا، يغدو الأمر أشبه بقصص ما قبل النوم، لمن قيض له أن يجد مأوى وقصة وقارئاً يهدهد سريره المترف. بيد أن الحب المضرج بالدماء هو الذي يهز أركان الضجر ويعانق الخلود، ولنا في "روميو وجولييت" و"آنا كارنينا" و"مدام بوفاري" موعظة حسنة.

وإذا كانت حكايات الحب ذات النهايات المأساوية توقظ في النفس مشاعر التضحية والنبالة، وتحرض الروح على ارتياد الدروب الصعبة، فإن الحرب في مآلاتها التي نشهد فصولها الآن، تجعل الكتابة أمراً مستعصياً. لأن الكاتب المحايث للأحداث، كما هو شأننا نحن الكتاب الشرق أوسطيين، يحتاج إلى قوة خارقة لاستعادة ما جرى وترتيب الشظايا، بعد انتزاعها، في هيئة نص أو قصيدة. والأهم من ذلك هو استعادة الجدوى، وهذا أمر إن وقع المرء في بئره، فمن الصعب أن يخرج من دون أثلام عميقة، لأن الشعور بالعدم سيصاحبه، ويشل قلمه و"كيبورده" وعقله.

المزيد من ثقافة