ملخص
الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك شن هجوماً علنياً كبيراً على إيران و"حزب الله" في 2009، ولم يذكر مبارك اسميهما بصورة مباشرة، لكن الجميع فهم من يقصد.
الدقيقة التي انتشر فيها خبر مقتل الأمين العام لـ"حزب الله" اللبناني حسن نصرالله، ساد الوجوم بين المصريين وظهرت علامات الدهشة والصدمة، وعلى رغم أجواء بدت شبيهة ألمت بهم قبل شهرين حين اغتيل رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية قبل نحو شهرين، فإن الدهشة والتعقيد وتناقض أسباب الوجوم ومرجعيته هذه المرة سيدة الموقف.
العلاقات والسياسات بين الأنظمة المختلفة، وكذلك المواقف الحكومية والتصريحات الرسمية الصادرة عن الدول في شأن الحركات والجماعات والأحزاب في دول الجوار لا تتطابق بالضرورة وتوجهات الشعوب، وأحياناً تضطر الأنظمة إلى انتهاج مواقف بعينها، ربما لتحقيق مصالح وطنية أو لضمان انتماء لكتل سياسية دولية أو ما شابه، تقف على طرف نقيض من المواقف الشعبية.
خطوط متعرجة
ومنذ أسس "حزب الله" في مطلع الثمانينيات، وعلاقاته بالدول وشعوبها تسير في خطوط متعرجة وأحياناً متناقضة، ومصر والمصريون ليسوا استثناءً، دهشة المصريين الحالية جراء نبأ اغتيال نصرالله تختزل العلاقة الملتبسة المعقدة بين الوجدان الشعبي المصري ومكوناته العاطفية ومعلوماته السياسية وأولوياته الحياتية من جهة، والحزب وأمينه العام من جهة أخرى.
فعلى رغم أن عمر "حزب الله يزيد" على أربعة عقود، فإن اهتمام المصريين بأخباره ومتابعة سياساته، يرتبط ببدء تولي نصرالله منصب الأمين العام في 1992.
الأحداث السياسية واشتعال الجبهات اللبنانية والفلسطينية والسورية عشرات المرات منذ مطلع التسعينيات، وضلوع الحزب في معظمها، وارتباطه بكلمات وعبارات مثل "المقاومة" و"الممانعة" و"الإسلامية" و"التحرير" و"قواعد الاشتباك" و"الموت لإسرائيل" وغيرها من الدول التي يقول الحزب إنها تناصب الإسلام والمسلمين العداء، وغيره من الكلمات التي تدغدغ المشاعر وتؤجج أدرينالين المقاومة الجماعية في وجه العدو جعل من نصرالله حاضراً غائباً في النقاشات الشعبية والخلافات الأيديولوجية والاختلافات السياسية بين المصريين.
موقف الدولة وإيران
وعلى مدى هذه السنوات ارتبطت هذه الاختلافات والخلافات بين جموع المصريين في ما يتعلق بنصرالله، بموقف الدولة المصرية من إيران تقارباً وتباعداً وما بينهما.
في زمن ما قبل سيادة الـ"سوشيال ميديا" تبنى المصريون مواقف تتشابه وتتطابق مع السياسة الرسمية حيناً، وتقف على طرف النقيض الشعبي منها حيناً.
حين شنت إسرائيل ما سمته بـ"عملية أمطار الصيف" في عام 2006 عقب أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في غزة، وهي العملية التي شملت قصفاً واسعاً وتوغلاً برياً في القطاع، برز اسم حسن نصرالله خطيباً مفوهاً قادراً على دغدغة المشاعر وتعويض ما دأب البعض من وصفه بـ"قلة الحيلة" أو "ضعف ردود الفعل" العربية أمام الاعتداءات الإسرائيلية، وذلك عبر الخطب النارية والشعارات الحماسية وصيغ التهديد والوعيد الكلامية الموجهة للأعداء.
حماسة نصرالله في تهديد "العدو الإسرائيلي" ووعيد "من يناصر الصهاينة" ووعود النصر والحسم والردع، دغدغت قلوب قطاعات من المصريين في ذلك العام، وملأ كلام "السيد" وحماسه وأقواله فراغات السياسة وإملاءاتها المكبلة على أرض الواقع.
الكلام والدغدغة
واستمرت علاقة الكلام الحماسي ودغدغة المشاعر وملاعبة السياسة وأهلها لسنوات طويلة، هذه السنوات اتسمت بحلقات من الحرب والعمليات في غزة الواقعة على مرمى حجر من الحدود مع مصر، وكذلك تصاعد الاحتقان المكتوم بين النظام المصري في عهد الرئيس السابق الراحل محمد حسني مبارك و"حزب الله".
وكان مبارك شن هجوماً علنياً كبيراً على إيران و"حزب الله" في عام 2009، لم يذكر مبارك اسميهما بصورة مباشرة، لكن الجميع فهم من يقصد.
توتر وتعثر
وقتها، كانت العلاقات المصرية الإيرانية في أحد أطوارها الكثيرة المتوترة والمتعثرة وذلك في خضم أزمة "خلية حزب الله" التي تفجرت في نهاية عام 2008، وقتها ألقت مصر القبض على عدد من الأشخاص، 18 مصرياً ولبنانيين وخمسة فلسطينيين وسوداني، وذلك للاشتباه في تخطيطهم لاغتيالات وتنفيذ عمليات اعتداء في مواقع سياحية مصرية وأخرى ضد السفن العابرة لقناة السويس، وذلك لحساب "حزب الله"، واتهمت مصر إيران باستخدام "حزب الله" اللبناني ليكون وسيلة لوجودها على الأراضي اللبنانية والعربية.
في ذلك الوقت، عبر مبارك عن أسفه لاستخدام "هذه القوى" شعارات الإسلام والعبارات والوعود المتناقضة بهدف ما وصفه بـ"تعميق الخلافات العربية وشق الصف وتحقيق مصالح وأهداف".
في عامي 2008 و2009، وقبل أن تهدأ عملية "أمطار الصيف" ويخفت أثرها، تأجج "الرصاص المصبوب"، العملية التي استهلتها إسرائيل في غزة، وردت عليها حركات فلسطينية بما سمته "معركة الفرقان".
أجواء شعبوية
مرة أخرى، ملأت خطب نصرالله أجواء الشعبوية وفراغات الحماس ورغبات قطاعات من المصريين، إما ممسكون بتلابيب القضية الفلسطينية من ألفها إلى يائها من دون النظر إلى مصالح من يرفعون شعاراتها أو غايات من يقولون إنهم وكلاؤها، وإما متضامنون على طول الخط مع كل من أو ما يرفع شعارات ذات طابع إسلامي.
وتوالت العمليات الإسرائيلية، لا سيما في غزة، و"المقاومة" الفلسطينية، والخطابات الحماسية لأمين عام "حزب الله"، وردود الفعل المتضاربة بين المصريين.
عملية "عمود السحاب" الإسرائيلية في عام 2012 ورد "المقاومة" بـ"حجارة السجيل" وخطابات السيد الحماسية، ثم "الجرف الصامد" في عام 2014 وهو ما ردت عليه "حماس" بـ"العصف المأكول" وسرايا القدس بـ"البنيان المرصوص" وأيضاً خطابات نصرالله.
صور على السيارات
ووصل الأمر بقطاعات من المصريين، ولفرط وقوعهم تحت تأثير خطابات نصرالله النارية وتهديداته اللفظية الثأرية إلى وضع صوره على زجاج السيارات وواجهات المحال التجارية، إبان ما سمي "حرب تموز" في عام 2006، وذلك بعد ما تمددت رقعة الصراع الذي بدأ بالحرب في غزة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبدو أن لهجة التهديد التي أتقنها نصرالله، مع لغة الجسد التي تخدم الوعيد من تلويح بالسبابة وتغير ملامح الوجه بحساب بين هدوء وغضب وأمل وثقة وعودة إلى الغضب، إضافة إلى محتوى الخطب التي لن ينسى أن يدمج فيها حس السخرية اللاذع مع قدر من التنكيت المحسوب الذي يعطي انطباعاً بالثقة في النصر جميعها صنع لنصرالله قاعدة شعبية بين كثر في مصر في تلك الآونة.
ظلت الحلقة مستمرة، إسرائيل تضرب، "حماس" ترد، أو "حماس" تضرب وإسرائيل ترد، و"حزب الله" يهدد، وحسن نصرالله يخطب، ومصريون ينجرفون وراء لهجة الحماسة ولغة القوة، لكن شيئاً ما خدش الاستمرارية وشكك في الشعبية، وذلك حين خرجت جماعة الإخوان المسلمين في مصر من مخابئها إلى فسحة الشارع ورحابة الحكم، وهذا الخروج الذي أدى، وربما كشف عن اختلافات كبيرة واستقطابات عميقة في المجتمع المصري، تجلى كذلك في موقف المصريين من حسن نصرالله، وذلك بين تأييد مطلق ورفض قطعي.
قرون استشعار
أيقظت حالة التماهي الشديدة بين الجماعة و"حزب الله" إبان أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011 وما تلاها من أحداث قرون استشعار الحذر لدى قطاعات المصريين المناهضة للإخوان.
وعلى رغم أن هذا التماهي يعود إلى ما قبل عام 2011 بسنوات، فإن الأحداث الجسام في هذا العام وما تلاها سلطت أضواء شعبية على تلك العلاقة الحميمية، في عام 2006 مثلاً، حين أعلنت جماعة الإخوان في مصر رفضها فتاوى صادرة من علماء دين سعوديين تحظر دعم "حزب الله" اللبناني، خرجت رموز الجماعة "السنية" في مصر ليؤكدوا أن مثل هذه الفتاوى "تعطي انطباعاً بأن هناك خطراً شيعياً على المنطقة" وأنها "تهدد بإحداث انقسام في العالم الإسلامي" وأن "حزب الله" لا يدافع عن الشيعة فقط وأنه "مقاومة وطنية".
مجاهدون ومقاومون
في العام نفسه، مضت بلا صخب أخبار تأكيد المرشد العام للإخوان في مصر محمد مهدي عاكف استعداد الجماعة إرسال 10 آلاف مجاهد إلى لبنان للقتال إلى جانب "حزب الله"، لكنه عاد وقال إنه يعلم أن "هذه النية قد لا تترجم على الأرض بسبب غياب الدعم من الأنظمة العربية"، الصخب الوحيد جرى في دوائر الجماعة، إذ التأييد والتكبير والتهليل لـ"نية" إرسال المجاهدين للانضمام إلى المقاومين.
هذا التقارب لم يستوقف كثيراً من المصريين على مر السنوات، لا سيما مع تصدر حسن نصرالله ساحة الخطابة والشعبوية، جنباً إلى جنب مع رموز حركة "حماس" في سلسلة الحروب على غزة وفيها.
الكاتب والباحث هاني نسيرة يقول في دراسة عنوانها "إيران والإخوان المسلمين: المشتركات الأيديولوجية والعلاقات التاريخية" (2022) أن كثيراً من المشتركات الأيديولوجية والعلاقات التاريخية تجسد بنية وهوية التقارب بين الإخوان وإيران منذ إرهاصات "الثورة الإسلامية" عام 1979، إذ تتلاقى المفاهيم الأيديولوجية والأفكار والمرجعيات عند الإسلام السياسي، السني والشيعي، على رغم اختلاف مذاهبه، مشيراً إلى أن الإسلام السياسي في إيران تأثر بحسن البنا وسيد قطب والمودودي وغيرهم، كما انعكست الثورة الإيرانية على نهج ومسارات جماعات الإسلام السياسي السنية في المنطقة، وأن الطرفين يمتلكان المواقف والتصورات السياسية عينها تجاه العلاقة مع الغرب، والمقاربة من الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ويلتقي كلاهما في محورية البعد الديني والخطابي والموقف من الدولة الحديثة.
ويرى نسيرة في الطرفين ثلاثة عوامل مشتركة رئيسة هي الدعوة إلى الوحدة الإسلامية من أجل فرض مزيد من الهيمنة الإيرانية والنفوذ لخدمة مشروعها السياسي، والنظرة التوسعية التي تتجاوز الأوطان والحدود الجغرافية، وكذلك إقامة الخلافة الإسلامية باعتبارها الهدف النهائي والغاية من العمل السياسي.
في قلب القرن الـ20
ويرى نسيرة أن "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979 "شكلت حافزاً وزخماً راديكالياً غيَّر شكل المنطقة وتوجهاتها وأنماط حياتها وأنظمتها التشريعية والاجتماعية والاقتصادية، وشكلت تاريخاً فاصلا ًجوهرياً، ليس فقط في تاريخ إيران، ولكن في تاريخ المنطقة والعالم"، أو كما وصفها الكاتب الصحافي المصري الراحل محمد حسنين هيكل، "كانت (الثورة الإسلامية) كرصاصة انطلقت من القرن السابع واستقرت في قلب القرن الـ20".
يشار إلى أن الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله كان أرسل "وفداً رسمياً" إلى مصر في عام 2016 لتقديم العزاء في وفاة هيكل، ضم الوفد عدداً من نواب الحزب في البرلمان اللبناني، بينهما شخصان كانا ممنوعين من دخول مصر لسنوات إلى أن أزالتهما جماعة الإخوان المسلمين من على قوائم الممنوعين أثناء حكمهم في عام 2012.
الطائفة والحزب
في ذلك العام احتفت الجماعة كثيراً بـ"حزب الله" وكذلك إيران، ويمكن القول إن فئة من المصريين لم تكن على علم باختلاف الانتماء الطائفي بين الجماعة والحزب، وهناك من حاول أن يدق على أوتار الطائفية والحديث عن أن "الأصدقاء الجدد" (حزب الله وإيران) يختلفون في انتمائهم الطائفي الإسلامي عن غالب المصريين المسلمين.
صدمة اغتيال حسن نصرالله واضحة في الشارع المصري، المصريون يميلون إلى النأي بأنفسهم عن الشماتة في الموت، حتى لو كان المتوفى بعيداً من هواهم، لذلك فقد خفتت إلى حد كبير نبرة انتقاد "حزب الله" وأمينه العام الراحل باعتباره طائفياً، أو "دولة داخل دولة لبنان"، أو حاول التدخل في شؤون مصر الداخلية في سنوات سابقة، أو يخلط الدين بالسياسة من أجل السلطة، أو يتحالف مع من يعده غير متبع للدين الحق أو غيرها تسود محاولات الفهم وتطغى أمنيات دحض مزيد من التوسع لرقعة الصراع.
بعض المصريين على منصات التواصل الاجتماعي حذر من الانجراف أو الإفراط في التبجيل، ومنه ما يصل إلى درجة قريبة من التقديس لأشخاص وأفكار وجماعات تخصصت في تأجيج الغضب بالكلام، ودغدغة المشاعر بالخطابة، ووجهت اتهامات بالتقاعس من دون سند.
آخرون غرقوا في مشاعر الغضب والحزن على اغتيال أمين عام "حزب الله"، إما معتبرين إياه مناضلاً ومقاوماً وشهيداً، أو رابطين بين اغتياله وتغيرات كبرى توشك على الوقوع في منطقة الشرق الأوسط، أو خوفاً على لبنان من اشتعال صراع شرس المنطقة كلها في غنى عنه.
وتظل هناك فئة من المثقفين والكتاب ممن نصبوا الراحل حسن نصرالله إماماً للمقاومين وسيداً للمجاهدين، من دون النظر إلى الطائفة الدينية أو العلاقات العابرة للحدود أو المصالح السياسية.
وكان كتاب وصحافيون دأبوا في سنوات سابقة على زيارة مقار "حزب الله" وعقد لقاءات مع أمينه العام الراحل من باب "تسليط الضوء على المقاومة"، ومنهم الكاتب الراحل حمدي قنديل الذي نعاه الحزب يوم رحيله بقوله إن "الإعلام النزيه خسر رجلاً عصامياً عبر عن معاناة شعبه وتطلعاته، ووقف دائماً إلى جانب "المقاومة" وقضايا أمته المحقة".
حتى هذه اللقاءات ظلت محل اختلاف بين المصريين، بين منتقد يرى أن "حزب الله" حركة مسلحة تضر لبنان والمنطقة أكثر مما تنفع، ومؤيد على قناعة بأن "حزب الله" حركة مقاومة شريفة ووطنية ولا تنتظر مقابل أو فوائد.
يتداول المصريون خبر وتفاصيل اغتيال نصرالله وهم محافظون على اختلافهم في شأن الراحل، بعضهم حول صورة البروفايل إلى سواد الحداد، وآخر يسأل عن سبب الحداد.