ملخص
حين تتجاهل روسيا المحكمة الجنائية الدولية فمن الطبيعي ألا يفاجئنا ذلك، لأن موسكو غير مهتمة فعلياً بهذا النظام العالمي ولا تدعي عكس ذلك، لكن في المقابل حين ترفض الولايات المتحدة القرارات الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية حيال إسرائيل، فيما تقبل بقراراتها تجاه أوكرانيا فالرسالة التي توجهها إلى سائر دول العالم هي أن الدولة الأقوى في العالم غير متسقة في مواقفها.
منذ يناير (كانون الثاني) الماضي ومع إصدار محكمة العدل الدولية حكماً يأمر إسرائيل بمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها وضمان تدفق المساعدات الإنسانية لسكان قطاع غزة، تزايد الحديث عن انتهاك إسرائيل للقوانين الدولية وارتكابها جرائم إبادة جماعية في القطاع، وفي مايو (أيار) الماضي أصدرت المحكمة الدولية أمراً إلزامياً بوقف العملية العسكرية الإسرائيلية في مدينة رفح جنوب القطاع، لكن إسرائيل رفضت الامتثال للقرار.
أعقب قرار المحكمة الدولية تقرير أممي صدر في يونيو (حزيران) الماضي يتضمن تقييماً لست هجمات كبرى شنها الجيش الإسرائيلي في غزة العام الماضي، أدت كل منها إلى عدد كبير من الوفيات بين المدنيين وتدمير واسع النطاق للمرافق المدنية، وذكر مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان أن الجيش الإسرائيلي ربما يكون قد انتهك بصورة متكررة المبادئ الأساسية لقوانين الحرب، مستخدماً قنابل ثقيلة في المناطق المكتظة بالسكان. وقال المفوض الأممي آنذاك، إن "إسرائيل فشلت في ضمان التمييز الفعال بين المدنيين والمقاتلين".
وبعد مضى عام على أساليب ووسائل الحرب الإسرائيلية التي أسفرت عن مقتل ما يزيد على 40 ألف شخص، وفق وزارة الصحة في غزة، فإن مشاهد الدمار الكلي التي طاولت البنية التحتية المدنية وهو "مستوى من الدمار لم يعرفه العالم منذ حرب فيتنام" بحسب متخصصين أميركيين في الشأن العسكري، والأزمة الإنسانية المتفاقمة منذ أشهر في القطاع وتهجير مليوني شخص من منازلهم تدفع بتساؤلات عدة في شأن القوانين الدولية التي ضربت بها إسرائيل عرض الحائط، ومسار تلك المحاكمات الدولية التي تلاحق قيادات تل أبيب، لكن ثمة سؤالاً هو الأهم في ظل تلك المأساة التي عصفت بشعب كامل ألا وهو هل سقطت المؤسسات الدولية في اختبار حرب غزة؟
اتفاقيات جنيف
وفق اللجنة الدولية للصليب الأحمر فإن القانون الدولي الإنساني هو مجموعة القواعد الدولية التي تحدد ما يمكن وما لا يمكن فعله خلال نزاع مسلح، وتهدف بصورة رئيسة للحفاظ على شيء من الإنسانية في النزاعات المسلحة وإنقاذ الأرواح والتخفيف من المعاناة. وتعد اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 التي حظيت بانضمام وتصديق عالميين، واتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948 من المعاهدات الجوهرية للقانون الدولي الإنساني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتوجد معاهدات دولية أخرى تحظر استخدام وسائل وأساليب معينة للحرب وتحمي فئات معينة من آثار الأعمال العدائية، وهي بروتوكول عام 1925 الخاص بحظر الاستعمال الحربي للغازات الخانقة أو السامة أو ما شابهها، واتفاقية عام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حال اندلاع نزاع مسلح وبروتوكولاها لعامي 1954 و1999، واتفاقية عام 1972 لحظر استحداث وإنتاج وتخزين الأسلحة البكتريولوجية (البيولوجية) والتكسينية وتدمير تلك الأسلحة، واتفاقية عام 1976 لحظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأي أغراض عدائية أخرى، واتفاقية عام 1980 في شأن حظر أو تقييد استعمال أسلحة تقليدية معينة يمكن اعتبارها مفرطة الضرر أو عشوائية الأثر وبروتوكولاتها الخمسة.
هناك أيضاً اتفاقية عام 1993 في شأن حظر استحداث وإنتاج وتخزين واستعمال الأسلحة الكيماوية وتدمير تلك الأسلحة، واتفاقية عام 1997 في شأن حظر استعمال وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدمير تلك الألغام، والبروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل لعام 2000 في شأن اشتراك الأطفال في النزاعات المسلحة، والاتفاقية الدولية لعام 2006 في شأن حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، واتفاقية عام 2008 في شأن الذخائر العنقودية.
وتقول ناريمان ناجي من مشروع حلول للسياسات البديلة التابع للجامعة الأميركية في القاهرة، إنه بمطابقة مواد هذه الاتفاقيات بواقع الحرب في غزة، فإن إسرائيل خرقت على مدار الأشهر الماضية القواعد القانونية ذات الصلة. فإضافة إلى مخالفة المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية وانتهاك المواد 32 و33من اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحظر التدابير التي من شأنها أن تسبب معاناة بدنية أو إبادة للأشخاص المحميين تحت سلطتها، توضح ناجي أنه في ما يتعلق باستهداف المدنيين، فإن إسرائيل خالفت أيضاً المادة الثالثة المشتركة باتفاقيات جنيف الأربع التي يحظر فيها "الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وخصوصاً القتل بجميع أشكاله والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب". كما يعد استهداف إسرائيل الممتلكات الخاصة والمنشآت العامة مخالفاً للمادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة، لا سيما ما يتعلق بالمستشفيات وقد كان المستشفى المعمداني ومجمع ناصر الطبي ضمن مواقع لجرائم ارتكبتها القوات الإسرائيلية ضد مدنيين من المرضى والأطباء.
محاكم غير ملزمة
في سياق حرب غزة ثمة اثنتان من المحاكم الدولية تطارد إسرائيل وقادتها، فالمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان تقدم في مايو الماضي بطلب إلى المحكمة لإصدار مذكرات اعتقال بحق كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت على خلفية إدارة الحكومة الإسرائيلية للحرب في غزة والتقارير التي تفيد بارتكاب إسرائيل آلية "التجويع" والاشتباه بارتكاب "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية" في غزة.
ورفعت جنوب أفريقيا في ديسمبر (كانون الأول) 2023، دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل على خلفية انتهاكها اتفاقية الإبادة الجماعية، وإلى جانب السعي إلى إصدار حكم نهائي على الإجراءات الإسرائيلية في غزة طلبت الدعوى أيضاً فرض تدابير موقتة في غضون ذلك نظراً لمخاوف إنسانية طارئة. وفي يناير فرضت المحكمة بعض هذه الإجراءات على إسرائيل في ما يتعلق بتمكين تقديم المساعدات الإنسانية، ومنع ومعاقبة التحريض المحلي على الإبادة الجماعية وقضايا مماثلة. كما وافقت إسرائيل على تقديم تقارير مباشرة إلى المحكمة في شأن التزامها هذه الأوامر، مع العلم أنه لم تُنشر هذه التقارير.
تتعلق الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية بالأشخاص بينما تقوم محكمة العدل الدولية بتسوية النزاعات بين الدول. ووفق زميل برنامج القانون الدولي والأوروبي لدى جامعة فيرجي في أمستردام بهولندا ألكسندر لونغاروف، فإنه على الورق تعد أحكام محكمة العدل الدولية ملزمة قانوناً، لكن إذا اختارت الدول المتنازعة عدم الالتزام بها، فلا يمكن إنفاذها إلا من خلال قرار صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. كما يخول ميثاق الأمم المتحدة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والجمعية العامة للأمم المتحدة أن يطلبا من محكمة العدل الدولية آراء استشارية غير ملزمة في شأن مسائل القانون الدولي. ويتوقع لونغاروف أن تستخدم الولايات المتحدة حق النقض ضد أي محاولة لفرض أحكام ضد إسرائيل من خلال مجلس الأمن.
أحكام للضغط السياسي
وفي هذا الصدد، يعتقد مراقبون أن حرب غزة تكشف التناقضات المتأصلة في موقف الغرب باعتباره الضامن للنظام الدولي.
فعلى رغم الأرقام المأسوية التي أسفرت عنها الحرب سواء على صعيد أعداد القتلى وتدمير البنية التحتية أو في ما يتعلق بالمجاعة والأزمة الإنسانية التي تعصف بسكان القطاع، فإن الولايات المتحدة ظلت داعمة لإسرائيل في رفض دعوات الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار حتى الربع الأول من العام الحالي، ولعب الفيتو الأميركي داخل مجلس الأمن دوراً أساسياً في هذا الصدد، إذ استخدمت أميركا حق النقض (الفيتو) ضد ثلاثة مشاريع قرارات لمجلس الأمن وامتنعت مرتين عن التصويت، قائلة إن القرارات في بعض الأحيان لا تضمن إطلاق سراح الرهائن أو "فشلت" في إدانة هجمات "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على جنوب إسرائيل.
وبعدما رضخت واشنطن للضغط الدولي، ممتنعة عن التصويت في مارس الماضي ضد قرار مجلس الأمن رقم 2728 الذي ينص على الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار بين الجانبين، فإنها سرعان ما أكدت أن القرار غير ملزم لإسرائيل.
وفيما تمثل قضايا محكمة العدل الدولية ومجموعة الإجراءات الأخرى أمام المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية المختلفة، زيادة كبيرة في المشاركة القانونية الدولية في الساحة الإسرائيلية الفلسطينية، يقول لونغاروف إن هذه الحالات أكثر تسييساً مما كانت عليه في الماضي، وهو أمر غير مفاجئ نظراً لغياب المفاوضات السياسية الإسرائيلية- الفلسطينية المجدية على مدى عقد من الزمن، وتدهور الظروف على الأرض بالنسبة للفلسطينيين، وسياسة إسرائيل الاستيطانية الآخذة في التوسع. وتميل الأطراف التي ترفع هذه القضايا إلى تأطيرها بمفاهيم قانونية مجردة، متوقعة أن تساعد المعارضة العالمية لممارسات مثل الإبادة الجماعية في حشد الدعم الدولي، لكن هذا النهج لا يأخذ في الاعتبار التعقيدات العديدة على أرض الواقع، كما يبدو أن أصحاب المطالبات يدركون جيداً هذا الواقع، ويبدو أنهم في غالب الأحيان يرون إجراءات محكمة العدل الدولية وسيلة للتأثير في الرأي السياسي العالمي لا على إجراءات إسرائيل بأي صورة فورية.
ويعتقد المدافعون الحقوقيون أن الغاية من المعارك القضائية تتمثل في ثلاثة أمور هي، فرض كلفة على السمعة وربما اقتصادية على أولئك الذين يسفكون الدماء عمداً، وتعزيز يد ضحاياهم التفاوضية في المحادثات الدبلوماسية المستقبلية، وفي الأقل، إنشاء سجل تاريخي موثوق به للفظائع. وفي مواجهة "وباء اللاإنسانية"، يرى رئيس المحكمة الجنائية الدولية كريم خان، أن العالم لا بد أن "يتشبث بالقانون" بصورة أكثر إحكاماً. والخطر غير المعلن هو أنه إذا فشل هو وغيره في كبح جماح الأهوال فسينهار القانون ولن يتبقى سوى قليل للتمسك به.
النظام الدولي القائم على القواعد
بعد فترة من الحرب الباردة بدا العالم وكأنه يتجه نحو نظام دولي قائم على القواعد مع صراعات أقل وديمقراطية أكثر وتجارة مفتوحة. وتطلع المحامون إلى "الولاية القضائية العالمية" في إطار معركة بلا حدود ضد الإفلات من العقاب. حتى إن بعض القادة، مثل سلوبودان ميلوسوفيتش من يوغوسلافيا وتشارلز تايلور من ليبيريا حوكما بتهمة ارتكاب فظائع.
ويرى الزميل لدى معهد تشاتام هاوس في لندن رينارد منصور، أن النداءات القانونية والمؤسسية وحتى الأخلاقية التي تشكل النظام الدولي القائم على القواعد أثبتت أنها غير مناسبة لضمان حل مستدام للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. وبدلاً من ذلك، يتطلب تحقيق التغيير الجذري والحل الأكثر قابلية للتطبيق تجاوز العقيدة التقليدية للنظام الدولي القائم على القواعد وتحقيق تكافؤ الفرص. فعلى مدى أجيال كان النظام الدولي القائم على القواعد غير كاف على الإطلاق في التعامل بصورة عادلة مع الصراع الأكثر أهمية والأطول أمداً في الشرق الأوسط.
ويقول منصور، إن فشل ذلك النظام علناً مرة أخرى من خلال إثبات عجزه عن الاتفاق على إنهاء إراقة الدماء غير المسبوقة في غزة سيؤدي إلى تقويض ثقة العالم في المؤسسات التي بُنيت لخدمته، وربما يسهم في تفككه بالكامل. ومن ثم يجب على القادة الغربيين أن يفكروا ملياً في هذه اللحظة التاريخية وما قد يأتي بعد ذلك.
وعلى النقيض يقول زميل المعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن هـ أ هليير، "لا يزال ثابتاً في اعتقادي أن النظام الدولي القائم على القواعد ليس فقط ممكناً بل هو محبذ". لكنه يقتضي التزاماً جاداً من جانب الأطراف الأقوى في العالم، لذا من بالغ الأهمية أن تحتل الدول التي تدعي تمسكها بهذه الفكرة موقع الصدارة في هذا المسعى. ويوضح أنه حين تتجاهل روسيا المحكمة الجنائية الدولية، من الطبيعي ألا يفاجئنا ذلك، لأن موسكو غير مهتمة فعلياً بهذا النظام العالمي ولا تدعي عكس ذلك. لكن في المقابل، حين ترفض الولايات المتحدة القرارات الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية حيال إسرائيل، فيما تقبل بقراراتها تجاه أوكرانيا، فالرسالة التي توجهها إلى سائر دول العالم هي أن الدولة الأقوى في العالم غير متسقة في مواقفها. "فلماذا يجب إذاً أن يتوخى أي طرف دولي آخر الاتساق في مواقفه؟".
بالنظر لتلك الإجراءات القانونية ضد إسرائيل وغيرها ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في شأن حرب أوكرانيا، نادراً ما بدا الناشطون أكثر تشاؤماً في شأن محاسبة الحكام على أفعالهم الشنيعة. وتقول رئيسة منظمة العفو الدولية أنييس كالامار، "نحن على أبواب الجحيم". فالدول تدمر القانون الدولي الذي بني على مدى أكثر من سبعة عقود، في خدمة "الإله الأعلى للضرورة العسكرية، أو الهيمنة الجيوستراتيجية".
وتقول مجلة "إيكونومست" البريطانية، إن النظام الذي كان دائماً غير كامل ينهار بسبب التنافسات الجيوسياسية المتزايدة، فيما الجهود المبذولة لدعمه قد تكشف فقط عن نقاط ضعفه، انتهكت روسيا ميثاق الأمم المتحدة بصورة صارخة بغزو أوكرانيا، وتدعم الصين روسيا في الخارج وتقمع الأقليات في الداخل وتتنمر على جيرانها، فيما عملت أميركا المهندسة الرئيسة للنظام الحالي على تقويضه بتجاوزاتها في "حربها على الإرهاب"، لا سيما بعد غزو العراق في عام 2003، والآن يتهمها المنتقدون بالتواطؤ في الفظائع من خلال "دعم حرب إسرائيل على الإرهاب". لقد قتلت القوات الإسرائيلية الآلاف من الفلسطينيين في محاولة لتدمير "حماس" التي قتلت أو اختطفت نحو 1400 إسرائيلي في السابع من أكتوبر 2023. وتسخر الصين وروسيا من "النظام الدولي القائم على القواعد"، وهي العبارة التي يرددها الرئيس جو بايدن باعتبارها ستاراً للهيمنة الأميركية، ويقول وزير خارجيته أنتوني بلينكن، إنه النظام الواسع "للقوانين والاتفاقيات والمبادئ والمؤسسات" لإدارة العلاقات بين الدول ومنع الصراعات ودعم حقوق الإنسان، فيما يرى المنتقدون أن أميركا تتجنب الإشارة إلى "القانون الدولي" من أجل الحفاظ على حريتها في استخدام القوة.