Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أنظمة العمل من الثورة الصناعية إلى كير ستارمر

اتجاه حكومي بريطاني إلى إلغاء " ثقافة الحضور" في ظل التحولات السريعة التي يشهدها عالم الوظائف على الرغم من التحديات المتعلقة بإدارة الوقت والعزلة الاجتماعية للموظفين

فرضت الثورة الصناعة نظام العمل لخمسة أيام في الأسبوع (الموسوعة البريطانية)

ملخص

لم تعد أنظمة العمل الحديثة مقتصرة على نموذج الحضور التقليدي، بل باتت تشمل مجموعة متنوعة من الأساليب التي تهدف إلى تحسين الإنتاجية وتحقيق التوازن بين الحياة المهنية والشخصية

في السنوات الأخيرة، وبعد الهزة الكبيرة التي أحدثها وباء كورونا في العالم، تتصاعد حدة النقاش في دول عدة ومن بينها بريطانيا حول العودة إلى المكاتب بدوام كامل، إذ تصر شركات عملاق مثل "أمازون" على إعادة موظفيها إلى العمل من المكتب خمسة أيام في الأسبوع. في الوقت نفسه تعهد حزب العمال البريطاني الذي يتولى حاليا حكومة المملكة المتحدة برئاسة كير ستارمر إلغاء "ثقافة الحضور" واعتماد العمل المرن كحق أساس، مما أشعل جدلاً واسعاً حول الطريقة المثلى لتنظيم بيئات العمل. يعكس هذا الصراع بين التشدد في الحضور والتكيف مع الحاجات الحديثة التحولات العميقة في مفهوم العمل.

لم تعد أنظمة العمل الحديثة مقتصرة على نموذج الحضور التقليدي، بل باتت تشمل مجموعة متنوعة من الأساليب التي تهدف إلى تحسين الإنتاجية وتحقيق التوازن بين الحياة المهنية والشخصية. تتضمن هذه الأنظمة العمل من المنزل، والعمل المرن الذي يتيح تنظيم ساعات العمل بصورة تناسب حاجات الموظف، وأحياناً نموذج العمل الهجين الذي يجمع بين العمل المكتبي والعمل من بعد. تمثل هذه التحولات تطوراً ضرورياً في ظل التغيرات التقنية والاجتماعية التي نعيشها اليوم.

أنظمة العمل المختلفة

العمل بدوام كامل لخمسة أيام في الأسبوع هو النموذج التقليدي الذي ارتبط بتطور الثورة الصناعية في القرن الـ19، إذ استحدث لتنظيم ساعات العمل والحد من الاستغلال. بدأ هذا النظام في الولايات المتحدة وبريطانيا وانتشر عالمياً بعد ذلك، إذ اعتمد على توفير عطلة ليومين أسبوعياً للراحة. من أبرز مزاياه الوضوح والتنظيم، إذ يتيح هيكلة ثابتة لجدول العمل، ويعزز التواصل الفعال بين الموظفين في المكتب. ومع ذلك، من أبرز عيوبه تأثيره السلبي على التوازن بين العمل والحياة الشخصية، إذ يحد من قدرة الموظفين على إدارة وقتهم خارج العمل. أثبتت الدراسات، ومن بينها واحدة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2015، أن الالتزام الصارم بالدوام المكتبي التقليدي قد يقلل من الإنتاجية في بعض الحالات، إذ يفضل بعض الموظفين مرونة أكبر في إدارة مهامهم.

أما الدوام الهجين فهو نظام يجمع بين العمل من المكتب والعمل من بعد، إذ يقضي الموظفون بعض الأيام في المكتب وأخرى في المنزل أو أماكن خارجية. يتميز هذا النظام بمزايا متعددة، أبرزها تعزيز التوازن بين الحياة الشخصية والعملية، وتوفير بيئة مرنة تزيد من رضا الموظفين وإنتاجيتهم، لكن من بين التحديات التي يواجهها هذا النظام هو ضرورة وجود بنية تحتية تقنية قوية تدعم العمل من بعد، فضلاً عن الحاجة إلى إدارة دقيقة لضمان التواصل المستمر بين فرق العمل. ويتطلب تنفيذ الدوام الهجين بنجاح وضع سياسات واضحة حول الأيام المطلوبة في المكتب والتواصل من بعد، مع تعزيز ثقافة الشركة بحيث تستفيد من المرونة من دون التضحية بالجوانب التعاونية.

يخبرني ستيفن رئيس قسم الموارد البشرية في شركة هندسية في نيوكاسل أن الشركة من حيث المبدأ لا تعارض عمل موظفيها من خارج المكتب أو حتى خارج البلاد، لكن المشكلة تكمن في أن نظام التشغيل الذي تعتمده لا يدعم العمل من خارج مبنى الشركة، وأن كلفة تزويد كل موظفيها بأجهزة كمبيوتر تدعم هذا النظام تفوق إمكانات الشركة حالياً.

ومنذ وباء كورونا، بات العمل من المنزل خياراً شائعاً بصورة غير مسبوقة، إذ لجأ كثير من الشركات إلى هذا النظام للحفاظ على استمرارية العمل. أتاح هذا النموذج مزايا عدة، أبرزها القدرة على توفير الوقت والمال اللازمين للتنقل، فضلاً عن إتاحة المرونة للموظفين لتنظيم يومهم بما يناسب حاجاتهم الشخصية. بالنسبة إلى الشركات، يمكن أن يقلل العمل من المنزل من الكلف التشغيلية، ولكن التحديات الرئيسة تشمل العزلة التي قد يشعر بها الموظفون، وصعوبة الحفاظ على مستويات مناسبة من التواصل والتعاون. إضافة إلى ذلك، قد يواجه بعض الموظفين صعوبة في الانضباط والالتزام بالمواعيد المحددة في غياب الهيكل الواضح.

هذا بالنسبة لصور العمل، أما بالنسبة لساعات الدوام الرسمي فهي تختلف بصورة ملحوظة بين الدول بناءً على العوامل الثقافية والقانونية. على سبيل المثال، يبلغ متوسط ساعات العمل الأسبوعي في الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا، نحو 35-40 ساعة، بينما في الولايات المتحدة قد تصل إلى 40-45 ساعة أسبوعياً. في اليابان وكوريا الجنوبية، ترتبط ساعات العمل الطويلة بثقافة العمل المتشددة، إذ يمكن أن تمتد لأكثر من 50 ساعة أسبوعياً أحياناً.

في بعض الدول العربية، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ينتهي الدوام الرسمي عادة بين الثانية والثالثة عصراً. يعود هذا التقليد إلى عوامل عدة، منها الظروف المناخية القاسية في فترة الظهيرة، إذ تشهد درجات الحرارة ارتفاعاً ملحوظاً، مما يجعل العودة للعمل بعد استراحة الغداء غير فعالة. ويرتبط هذا النظام بالعادات الاجتماعية، مثل تخصيص وقت للعائلة والأنشطة الاجتماعية في وقت مبكر من اليوم.

في المقابل نجد دولاً مثل المغرب وفرنسا لا تزال تعتمد في كثير من القطاعات على نظام استراحة الغداء في منتصف النهار، إذ يمنح الموظفون استراحة تراوح ما بين ساعة وساعتين لتناول وجبة الغداء والاستراحة. في المغرب، يقسم اليوم عادة إلى فترتين، إذ ينتهي الدوام في بعض القطاعات الحكومية والخاصة في الساعة الخامسة أو السادسة مساءً بعد استراحة منتصف النهار. أما في فرنسا، في ظل احترام استراحة الغداء التقليدية، يستمر يوم العمل في عديد من القطاعات حتى السادسة أو السابعة مساءً، ما يمنح الموظفين فترة زمنية أطول لإنجاز مهامهم، مع تقليد قوي للاستمتاع بوجبة غداء مطولة ومريحة. العامل الرئيس الذي يؤثر في تحديد ساعات الدوام هو القوانين الوطنية التي تحدد عدد الساعات القصوى للعمل، إضافة إلى ثقافة العمل السائدة في كل دولة والقطاع الاقتصادي المعني.

ومن البديهي أن هناك بعض الأعمال، مثل خدمات الطوارئ، والرعاية الصحية، والإعلام، التي تتطلب العمل على مدار الساعة، إذ تفرض طبيعة هذه المهن ضرورة الاستجابة الفورية للمتطلبات الطارئة. لذا، لا تلتزم هذه الأنظمة بأي هيكل وظيفي تقليدي، بل تتطلب المرونة والتكيف مع الظروف المتغيرة لضمان تقديم الخدمات الأساس بصورة مستمرة.

تأثيرات أنظمة العمل المختلفة

تتأثر حياة الموظفين بصورة كبيرة بنظام العمل الذي يلتزمون به. فعلى سبيل المثال، أظهر العمل من المنزل تعزيزاً ملحوظاً في الإنتاجية والرضا الوظيفي لدى كثير من العاملين. توصلت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2020 إلى أن العمل من المنزل زاد إنتاجية الموظفين بنسبة 13 في المئة بسبب قلة التشتت والمرونة في إدارة الوقت. إضافة إلى ذلك، يتمتع الموظفون الذين يعملون بنظام العمل الهجين بتوازن أفضل بين الحياة العملية والشخصية، مما يسهم في تحسين الصحة النفسية والجسدية. ومع ذلك، فإن العودة القسرية إلى نظام المكتب الكامل قد تؤدي إلى انخفاض في الرضا الوظيفي. سارة، وهي موظفة قضت آخر 4 سنوات في العمل بنظام هجين، مما سمح لها بالانتقال للعيش في منطقة ريفية بعيدة من الحياة الصاخبة والمكلفة في لندن، أجبرت فجأة على العودة إلى المكتب في المدينة 5 أيام أسبوعياً، بعدما ألغت شركتها نظام العمل من بعد بالكامل، ما أثر سلباً على حياتها الاجتماعية والمالية.

بالنسبة إلى الشركات، تؤثر أنظمة العمل في الكفاءة والابتكار بصورة مباشرة. على سبيل المثال، يعزز نظام العمل الهجين الابتكار من خلال السماح للموظفين بالعمل في بيئات مرنة تشجع التفكير الإبداعي. وأشارت تقارير من شركة "ماكينزي" للاستشارات الإدارية إلى أن الشركات التي تطبق أنظمة العمل المرنة تشهد انخفاضاً في الكلف التشغيلية وزيادة في الإنتاجية، إذ تقل الحاجة إلى المساحات المكتبية الكبيرة. أما من ناحية سمعة الشركة، فإن تقديم أنظمة عمل مرنة يجذب المواهب الشابة وينظر إليه كعامل جاذب في سوق العمل التنافسية.

على الصعيد المجتمعي يسهم تبني أنظمة العمل المرنة في تعزيز الاقتصاد من خلال تقليل البطالة وزيادة فرص العمل من بعد. ويسهم في تعديل أنماط الحياة وتقليل الضغط على البنية التحتية للمواصلات. لكن من جهة أخرى يؤثر ذلك على أسواق العمل التقليدية، إذ تتغير ديناميكيات العمل وتتحول بصورة متزايدة إلى الرقمنة، مما قد يؤدي إلى تحولات جذرية في هيكل الاقتصاد العالمي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فرص وتحديات

في ظل التحولات السريعة التي يشهدها عالم العمل، تواجه أنظمة العمل الحديثة عديداً من التحديات، تبرز من بينها إدارة الوقت كإحدى أكبر الصعوبات، إذ يعاني الموظفون صعوبة تنظيم وقتهم بصورة فعالة في ظل الانشغالات المتعددة. وفقاً لدراسة شركة "ماكينزي" المذكورة سابقاً، فإن نحو 30 في المئة من الموظفين يشعرون أنهم غير قادرين على إدارة وقتهم بفاعلية في بيئات العمل الهجينة.

إضافة إلى ذلك، فإن العزلة الاجتماعية تمثل تحدياً آخر، إذ يشعر كثير من الموظفين بالوحدة بعد التحول للعمل من بعد أو النظام الهجين، مما يؤثر في صحتهم النفسية. ووفقاً لمسح أجرته "جمعية أطباء النفس الأميركية" أشار نحو 61 في المئة من العاملين من بعد إلى أنهم يشعرون بالعزلة، وأن نقص التواصل المباشر بين الزملاء يمكن أن يؤدي إلى تفاقم المشكلات، إذ يفتقر الموظفون إلى المحادثات العفوية التي تعزز التعاون والابتكار. من جانب آخر، فإن الانتقال للعمل من بعد يزيد من أخطار التعرض للاختراقات السيبرانية، إذ أظهرت دراسة من شركة "سايبر سيكيوريتي فينتشرز" أن كلفة الهجمات الإلكترونية ستصل إلى 10.5 تريليون دولار سنوياً بحلول عام 2025.

لكن على رغم هذه التحديات، فإن أنظمة العمل الحديثة تقدم أيضاً فرصاً كبيرة. فزيادة الإنتاجية أصبحت ممكنة بفضل المرونة التي توفرها نماذج العمل الهجينة، إذ أظهرت دراسة نشرت في "هارفرد بيزنس ريفيو" أن الموظفين العاملين من بعد كانوا أكثر إنتاجية بنسبة 13 في المئة مقارنة بزملائهم في المكاتب، وأن التنوع الثقافي والاستدامة البيئية أصبحا جزءاً لا يتجزأ من ثقافة العمل الحديثة، إذ تظهر دراسة "ماكينزي" أن الشركات ذات التنوع الثقافي تحقق عوائد أعلى بنسبة 35 في المئة مقارنة بنظيراتها.

وبالنظر إلى المستقبل، يبدو أن أنظمة العمل تميل نحو التوجهات الجديدة مثل العمل الحر والاقتصاد التعاوني. وتشير تقارير إلى أن 40 في المئة من القوى العاملة في الولايات المتحدة قد تتحول إلى العمل المستقل بحلول عام 2025، مما يبرز أهمية التكيف مع هذه التغيرات، وأن الذكاء الاصطناعي سيحدث تحولاً كبيراً في كيفية أداء المهام، إذ تتوقع شركة "غارتنر" الرائدة في مجال الأبحاث والاستشارات أن 80 في المئة من المهام التقليدية ستتم بواسطة الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030.

بصفتي شخصاً يعمل بصورة رئيسة من المنزل منذ أكثر من عقد من الزمن، بعد سنوات طويلة من العمل بمناوبات ليلية ونهارية وفي الأعياد والعطل الرسمية، أود أن أشد على يد كير ستارمر في تعهده بجعل العمل الهجين الركيزة الأساس للعمل في المملكة المتحدة. وعلى رغم أنني أفتقد الدردشات والتفاعلات العفوية مع الزملاء في المكتب، فإنني لن أستبدل الهدوء الذي أجلس فيه الآن وأنا أكتب هذه المقالة في وقت اخترته وأرتشف كوباً من الشاي أمام النافذة بأي بيئة أخرى تتسبب في تشتت أفكاري. لا يتيح العمل الهجين فقط تحقيق التوازن بين العمل والحياة، بل يمنحني أيضاً الفرصة لتعزيز إنتاجيتي في بيئة مريحة تناسب أسلوب حياتي.

المزيد من منوعات