أزمة الشرق الأوسط: أول اختبار كبير لستارمر فهل كان على قدر المتوقع؟

عادة ما تصيب أزمة السياسة الخارجية حزباً حاكماً وليس حزباً معارضاً، وعادة ما يكون من الأسهل على الأخير تجنب اتخاذ القرارات الصعبة. لكن الوضع انقلب رأساً على عقب بالنسبة إلى كير ستارمر الذي كان زعيماً للمعارضة آنذاك، بعد الهجوم الذي شنته "حماس" على إسرائيل قبل عام.

فبينما كان رئيس الوزراء ريشي سوناك يترأس حزب "المحافظين" الموالي لإسرائيل كان ستارمر بطيئاً في فهم التعاطف الطويل الأمد مع القضية الفلسطينية داخل حزب "العمال"، الأكثر انقساماً.

وقع الهجوم على إسرائيل خلال وقت كان فيه حزب "العمال" مجتمعاً أثناء مؤتمره السنوي في ليفربول. وفي خطابه، حظي ستارمر بحفاوة بالغة بعد أن أعلن أن "العمل الذي قامت به ’حماس‘ لا يقدم شيئاً للفلسطينيين. ويجب أن يكون لإسرائيل دائماً الحق في الدفاع عن شعبها".

كان فريقه يعتقد أن أزمة الشرق الأوسط تسلط الضوء على تناقض آخر مع عهد جيريمي كوربين - قوة ستارمر في مجال الأمن القومي - في حين أن حزب "العمال" لن ينظر إليه على أنه متعاطف مع الجماعات الإرهابية الإسلامية أو يسمح بأي تلميح لمعاداة السامية.

تغير كل ذلك في صباح اليوم التالي، عندما أجرى ستارمر المنهك جولة من المقابلات الإعلامية. وسأله نيك فيراري من قناة أل بي سي عما إذا كان رد إسرائيل في غزة متناسباً. "هل الحصار مناسب؟ قطع الكهرباء، وقطع المياه، يا سيد كير؟" فأجاب زعيم حزب "العمال" بقوله "أعتقد أن لإسرائيل الحق في ذلك".

وعلى رغم أنه أضاف أن كل شيء يجب أن يتم في حدود القانون الدولي فإن موافقته الواضحة على قطع الكهرباء والمياه انتشرت على نطاق واسع، مما تسبب في استياء كبير داخل حزب "العمال" وخارجه، ولا تزال هذه الزلة تطارد ستارمر حتى يومنا هذا.

وقد أدى تعامل فريقه مع هذا الجدل إلى تفاقم الأمور، واستغرق الأمر حتى سبعة أيام بعد المقابلة حتى ادعى حزب "العمال" أن ستارمر لم يقل ما اعتقد كثر أنه قاله: كان يجيب عن سؤال في شأن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وليس في شأن الكهرباء والمياه.

كان الضرر وقع بالفعل، واستقال عديد من أعضاء حزب "العمال" احتجاجاً على ذلك. وخلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عانى ستارمر من أخطر تمرد داخلي منذ أن أصبح زعيماً للحزب، عندما أيد 56 نائباً من حزب "العمال" اقتراحاً في مجلس العموم يدعو إلى وقف إطلاق النار في إسرائيل وغزة، متجاوزين بذلك الموقف الرسمي لحزب "العمال" المتمثل في "وقف إطلاق النار" وإلى "ممر إنساني". واستقال 10 وزراء في حكومة الظل بمن فيهم جيس فيليبس من مناصبهم، وكادت شبانة محمود وزيرة العدل الآن تنضم إليهم.

وأدرك ستارمر أن عليه الانخراط بصورة أكبر مع نوابه في البرلمان - وهذا ليس جزءاً من الوظيفة التي كان يحبذها خصوصاً. وكانت رئيسة موظفيه سو غراي عاملاً مهماً في بناء الجسور، إذ حرصت على عقد اجتماعات يومية حول قضية غزة مع وزراء الظل مما أبقى شبانة محمود على تواصل.

وقال لي أحد حلفاء ستارمر إنه "لم يكن متجذراً في تقاليد حزب ’العمال‘ في دعم الفلسطينيين. وربما أسهم ذلك في خطئه على قناة أل بي سي. وكان رده أن هذا لا ينبغي أن يحدث مرة أخرى، ولم يكن على دراية جيدة بالشرق الأوسط، لذا انغمس فيه وتعمق فيه وتعمق في الأمر".

وفي العلن لم يكن ستارمر نادماً، فقد رفض دعوات نواب حزب "العمال" إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار، قائلاً إن هذا غير منطقي خلال وقت تواصل فيه "حماس" التهديد بالعنف في إسرائيل. وقال ستارمر "عندما يكون لديك رهائن محتجزون تحت تهديد السلاح وعندما يكون لديك أطفال يموتون في غزة، فإن تركيزي ينصب عليهم وليس على الأصوات المختلفة في حزب ’العمال‘ لأن هذا هو مصدر القلق الحقيقي".

لقد حافظ ستارمر على نهج غير متحزب في شأن إسرائيل-غزة مع حكومة سوناك، والأهم من ذلك أنه اتبع نفس التوجه مع واشنطن مدركاً أنه سيضطر على الأرجح إلى العمل من كثب مع زعيم أميركي كرئيس للوزراء. وبالنسبة إلى ستارمر كان ذلك اختباراً لشعاره في وضع "البلد قبل الحزب" على لائحة الأولويات. ويتذكر أحد مستشاري ستارمر "كان من المهم جداً بالنسبة إليه أن يكون منسجماً مع التيار الرئيس للرأي العام الدولي في الولايات المتحدة ومعظم دول الاتحاد الأوروبي. فقد كان يعلم أن الناس هناك سيتطلعون إلى كيفية رد فعله".

وعلى رغم المذبحة المتفاقمة والأزمة الإنسانية في غزة فإن مساعدي ستارمر جعلوا من رفضه أن يرمش له جفن فضيلة. لكن كثراً في حزبه كانوا أقل تأثراً. حتى الحلفاء الطبيعيون مثل زعيم حزب العمال الاسكتلندي أنس ساروار ذهبوا إلى أبعد من الخط الرسمي لحزب "العمال"، داعين إلى إنهاء "العقاب الجماعي" للشعب الفلسطيني.

وخلال فبراير (شباط) الماضي تجنب ستارمر بصعوبة تمرداً ثانياً في مجلس العموم عندما أثار رئيس المجلس ليندسي هويل ضجة بعدم دعوته للتصويت على اقتراح الحزب الوطني الاسكتلندي الذي يطالب بـ"وقف فوري لإطلاق النار". وبدلاً من ذلك ناقش النواب اقتراح حزب "العمال" الذي نص على "وقف إطلاق نار إنساني فوري". واستنسخ ذلك الصيغة المستحدثة للأمم المتحدة والأعضاء الآخرين في تحالف "العيون الخمس" الاستخباري - الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.

عندما دعا ستارمر في نهاية المطاف إلى وقف فوري لإطلاق النار في مايو (أيار) الماضي -إلى جانب الإفراج الفوري عن الرهائن وإدخال المساعدات إلى غزة من دون عوائق- كان الأوان فات بحسب ما رأى منتقدوه.

وكان مسؤولو حزب "العمال" تجاهلوا التحذيرات من أن تعامل ستارمر مع كارثة غزة سيكلف الحزب أصوات المسلمين وغيرهم في الانتخابات العامة. وكان ويس ستريتينغ الذي يشغل الآن منصب وزير الصحة أحد أولئك الذين ضغطوا من أجل اتخاذ خط أقوى داخل حكومة الظل، وحذر من أن حزب "العمال" لديه مشكلة. وقد كان محقاً، فقد انخفضت غالبيته في إلفورد نورث إلى 528 فحسب.

وفي وقت فاز فيه خمسة مرشحين مؤيدين للفلسطينيين بمقاعد إذ خاضوا حملاتهم حول قضايا يسارية أخرى إضافة إلى غزة، كانت المفاجأة الأكبر هي هزيمة عضو حكومة الظل جوناثان أشوورث في ليستر ساوث. إن التهديد الذي يواجه حزب "العمال" لم ينته بعد، فالجماعات المؤيدة للفلسطينيين واثقة من تحقيق مزيد من التقدم في الانتخابات المقبلة.

وفي الحكومة، بدا ستارمر أكثر استعداداً للوقوف في وجه إسرائيل مما كان عليه في المعارضة. فقد أسقطت حكومته خطة إدارة حزب "المحافظين" السابقة للطعن في طلب المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بسبب جرائم الحرب المزعومة داخل غزة.

ثم وعلى غير العادة، انفصلت حكومة ستارمر عن واشنطن بوقف 30 من أصل 350 ترخيصاً لتصدير الأسلحة البريطانية إلى إسرائيل، وهي خطوة أدانها نتنياهو ووصفها بأنها "مخزية". وبدا الأمر وكأنه حل وسط بين طرفي النقاش حول إسرائيل، اللذين وجها نيرانهما مراراً وتكراراً إلى ستارمر. ولم يكن أي منهما سعيداً، إذ دعا اللوبي الفلسطيني إلى حظر كامل للأسلحة. ويصر رئيس الوزراء على أن القرار كان قانونياً وليس سياسياً ومستنداً إلى القانون الدولي، وهو أمر يعرف ستارمر كثيراً عنه كونه ألف كتباً في مجال تشريعات حقوق الإنسان.

وبعد مرور عام تقريباً على اجتياح السابع من أكتوبر خيم الشرق الأوسط كغيمة على مؤتمر حزب "العمال" في ليفربول الشهر الماضي للعام الثاني على التوالي، وهذه المرة مع شن إسرائيل هجمات على "حزب الله" في لبنان. وانطلقت "المسيرة الوطنية الـ19 من أجل فلسطين" في ليفربول عشية انعقاد المؤتمر. وانضم ستارمر إلى الدعوات الدولية لهدنة تمتد على 21 يوماً، لكن هذه الدعوات قوبلت بالرفض من نتنياهو المتعنت.

وفي خطابه خلال المؤتمر، دعا ستارمر مرة أخرى إلى "وقف فوري لإطلاق النار في غزة وعودة الرهائن وإعادة الالتزام بحل الدولتين، دولة فلسطينية معترف بها إلى جانب إسرائيل آمنة ومأمونة". وقاطع خطابه لفترة وجيزة أحد المقاطعين الذي هتف من على المنصة "أطفال غزة". وقام نشطاء برش عبارة "مؤتمر الإبادة الجماعية" على لافتة لحزب "العمال".

ومما لا شك فيه أن ستارمر سيستمر في إغضاب الطرفين بالنقاش الحاد الذي أثارته أزمة الشرق الأوسط التي لا تنتهي، لكنه تعلم درساً مؤلماً من خطئه المبكر.