ملخص
دعوات لاستغلال الغرب التململ في الداخل الروسي من الأوضاع الاقتصادية والحربية
في أوائل أغسطس (آب) الماضي مع اقتحام القوات الأوكرانية الحدود الروسية في طريقها للسيطرة على نحو 385 ميلاً مربعاً من الأراضي الروسية في منطقة كورسك أكد الكرملين أن الوضع كله تحت السيطرة: فقد أفادت وسائل الإعلام الحكومية بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان ينظم بجدارة جهود الإغاثة لسكان المنطقة ويعطي توجيهاته للجيش من أجل سحق الغزاة. وبعد يوم من بدء الغزو ذكرت شبكة "آر تي" التي تديرها الدولة أن "الجيش يقول إن كييف فشلت في تحقيق هدفها المتمثل في تأمين موطئ قدم لها في المنطقة الروسية".
لكن الجو كان أقل تفاؤلاً على وسائل التواصل الاجتماعي الروسية. فقد باغتت القوات الأوكرانية القيادة العسكرية الروسية بصورة كاملة، إذ اجتاحت الحدود وأخذت مئات الأسرى الروس. فلاذ عشرات الآلاف من السكان بالفرار. وفي الأيام والأسابيع التي تلت ذلك، بدا أن القوات الروسية غير قادرة على شن هجوم مضاد كبير. وقد اشتكت قناة "تو مايجورز" Two Majors، إحدى أشهر القنوات القومية المؤيدة للحرب على تطبيق "تيليغرام" التي يبلغ عدد مشتركيها 1.2 مليون مشترك، من عدم كفاءة قائد الجيش فاليري غيراسيموف، "ورعاته في الكرملين". قلما ترد الانتقادات المباشرة للرئيس الروسي على وسائل التواصل الاجتماعي التي تسيطر عليها الدولة، ولكن الآن أصبح بوتين نفسه هدفاً. وجاء في تعليق على "أودنوكلاسنيكي" (OK)، منصة التواصل الاجتماعية الروسية الرائجة بين الفئات العمرية الأكبر سناً: "إنه يدمر البلد. أتمنى أن يطلق النار على نفسه الآن. لقد أصبح الوضع مثيراً للاشمئزاز".
ولم تكن هذه التصريحات استثنائية أو نادرة. فوفقاً لشركة فيلتر لابس Filter Labs، وهي شركة تحليل بيانات أعمل مستشاراً لها، تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل وسائل التواصل الاجتماعي الروسية ووسائل الإعلام الحكومية والبيانات الاقتصادية، لوحظ على الإنترنت تراجع كبير في المشاعر الإيجابية تجاه بوتين بعد بدء الهجوم في كورسك وقد ظلت سلبية طوال شهر أغسطس. ولم يكن الأسلوب المعتمد في عدد كبير من هذه التعليقات السلبية مبهماً أو غير مباشر. كتب أحد المعلقين "يبدو أن مخططنا الاستراتيجي العظيم قد فشل، والآتي أعظم". وأشار آخر بوضوح إلى فشل الدعاية الروسية "على شاشة التلفزيون، نحن نسحق الأوكرانيين [القذرين تحت أقدامنا]، ونحتل المستوطنات واحدة تلو الأخرى، وكل الأمور تصب في مصلحتنا وعلى ما يرام. لكن في الواقع، هم يقصفون منطقة بيلغورود، وقد غزوا كورسك، ويقصفون مدناً في العمق الروسي، والهجمات الإرهابية [في روسيا] تحدث واحدة تلو الأخرى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب شركة فيلتر لابس، لم نشهد هذا الانهيار في الدعم الشعبي لبوتين منذ محاولة الانقلاب التي قام بها يفغيني بريغوجين زعيم "فاغنر"، المجموعة شبه العسكرية، في صيف عام 2023. وفي الأسابيع التي تلت الاضطراب الذي حصل في كورسك، حذفت عدة قنوات مؤيدة للحرب على تطبيق "تيليغرام" أكثر تعليقاتها مناهضة للكرملين التي كانت قد نشرتها خلال الصيف، لكن في المناطق القريبة من خطوط الجبهة، لم يعد المزاج العام إلى سابق عهده [التأييد]. فحتى استطلاعات الرأي الروسية، التي غالباً ما يخشى الخبراء من أن تكون نتائجها مؤيدة للنظام بصورة مبالغ فيها، أظهرت خفضاً في شعبية بوتين لمدة ثلاثة أسابيع. فتراجعت النسبة المعتادة للذين "يوافقون تماماً" على قيادة بوتين من 60 إلى 50 في المئة.
كتب أحد المعلقين على موقع OK، منصة التواصل الاجتماعي الروسية: "إنه يدمر البلاد".
تشير هذه النتائج إلى مشكلة أساسية في نظام المعلومات [نظام الإعلام] الذي يديره بوتين. فمنذ بداية غزوها لأوكرانيا عام 2022، قيدت الحكومة الإعلام الليبرالي في روسيا، فأجبرت المنظمات الإخبارية المستقلة على إغلاق أبوابها أو الانتقال إلى خارج البلاد، وحجب الوصول إلى منصات مثل "فيسبوك" و"إنستغرام" و"تويتر". ومنذ بدء الحرب، سمح بوتين لعدد من الأركان الأساس في الدولة الروسية، مثل الجيش وجهاز الأمن الفيدرالي والإدارة الرئاسية وقوات المرتزقة، بالإشراف على وسائل التواصل الاجتماعي الشعبية الخاصة بها والمؤيدة للحرب، وبخاصة قنوات "تيليغرام"، التي تستخدمها لمهاجمة بعضها بعضاً ودفع مصالحها الخاصة. وإضافة إلى الترويج لسياسات الكرملين، يتيح هذا لبوتين موازنة القوة بين مراكز السلطة هذه وإبقاء كل منها على أهبة الاستعداد والحذر. وفي الوقت نفسه يحصل المواطنون الروس العاديون على فرصة للتعبير عن بعض إحباطاًتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، طالما أنهم لا ينتقدون الزعيم أو قرار شن الحرب.
ولكن في أوقات الأزمات مثل غزو كورسك، تداعى هذا الجمع بين الدعاية الرسمية والضوابط بين النخب على شبكة الإنترنت. ولا تعني هذه الانهيارات وجود حركة جماهيرية خفية داخل روسيا تدعم الأفكار الليبرالية أو تعارض الحرب، بل تكشف عن نقطة ضعف مركزية في نظام الدعاية في الكرملين، لا تقتصر على كشف أكاذيب الكرملين في شأن جرائم الحرب أو تشويه سمعة الأوكرانيين. في الواقع، إن فضح الأكاذيب وخطاب الكراهية والتحريض على الإبادة الجماعية هو أمر مصيب على المستوى الأخلاقي وحاسم لإرساء الحقيقة، ولكن تحدي مثل هذه القصص الملفقة داخل روسيا قد لا يؤدي إلى تقويض آلة حرب بوتين، أو قبضة النظام على المجتمع الروسي.
عوضاً عن ذلك، فإن نقاط الضعف الرئيسة في نظام معلومات بوتين تكمن في حدود السيطرة وكيف يؤثر ذلك في ثقة النظام في قدرته على خوض الحرب. ويحتاج شركاء أوكرانيا الدوليون إلى فهم الطرق المحددة المستخدمة في تنظيم تدفق المعلومات في روسيا، وتحديد الأجندات ووسائل الإعلام والجماهير التي يعتقد الكرملين أنها مهمة لتمكين جهوده الحربية، وسبل تعطيل هذه العلاقات.
شح منتجات غذائية وأدوية
إن الفجوات في سيطرة الكرملين على أقوال الروس وأفعالهم تظهر على محورين هما المظالم الطويلة الأمد التي يكافح النظام لإدارتها، والصدمات المفاجئة التي تكون معقدة لدرجة أن نموذج الدعاية الخاص بالنظام يعجز عن احتوائها.
وكما أشارت ماريا سنيجوفايا من جامعة جورج تاون، نجح الكرملين باستمرار في حشد الدعم الشعبي لحروبه، حتى قبل عصر الرقابة العالية الذي نعيشه اليوم. على سبيل المثال، في سبتمبر (أيلول) 2015، على أعتاب التدخل الروسي في الحرب الأهلية السورية، وجد مركز "ليفادا"، وهي منظمة روسية مستقلة تنظم استطلاعات للآراء، أن 69 في المئة من السكان يعارضون تقديم المساعدة العسكرية المباشرة للحكومة السورية. ومع ذلك، في غضون شهر واحد، تغير هذا الرأي بصورة كبيرة: إذ أيد 72 في المئة الحملة الجوية التي شنها الكرملين في سوريا. وعلى نحو مماثل، في ديسمبر (كانون الأول) 2021، اعتقد ثمانية في المئة فقط من الروس أن روسيا يجب أن ترسل قوات عسكرية للقتال ضد الحكومة الأوكرانية. ولكن بحلول فبراير (شباط) 2022، أيد 68 في المئة أعمال القوات الروسية في أوكرانيا، وارتفع هذا الرقم إلى 80 في المئة في مارس (آذار).
على رغم أن هذه التغيرات قد تبدو وكأنها ببساطة تظهر تكيف السكان مع سياسات النظام، فإن بيانات الاستطلاعات كشفت أيضاً عن علاقة مهمة بين الدعم الشعبي للحرب وإحساس الروس بهويتهم الوطنية. ففي الدراسات، على سبيل المثال، أظهر الروس ارتباطاً بين مستويات عالية من النرجسية الجماعية (فكرة أن روسيا متفوقة على البلدان الأخرى)، والنقمة الجماعية (الاعتقاد أن الغرباء يسيئون إلى سمعة الروس)، ودعم الحرب. بالتالي، عندما يزعم الكرملين أن على روسيا أن تخوض الحرب باسم إمبراطوريتها التاريخية وأن تظهر للعالم أنها "عظيمة مرة أخرى"، فإنه يستغل مواقف موجودة بالفعل بين السكان الروس.
وحتى الآن، وبعد أكثر من عامين ونصف العام من القتال، تشير معظم استطلاعات الرأي إلى أن الروس يظهرون دعماً أو في الأقل قبولاً للحرب، على رغم بعض الثغرات الواضحة. وفي البيئة الخاضعة للرقابة الشديدة على الإنترنت، هناك شكاوى قليلة في شأن المعدلات الهائلة للخسائر الروسية، ناهيك بالتعبير عن التعاطف مع الأوكرانيين. ومع ذلك، يشعر الناس بالقلق علناً عندما تؤثر الحرب على مصالحهم الذاتية.
لنأخذ على سبيل المثال الخدمات الطبية. فبعد غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022، انخفض الإنفاق الحكومي في هذا القطاع بصورة حادة، في حين زاد الإنفاق على الدفاع. وفي موازنته لعام 2023، خفض الكرملين الإنفاق على الخدمات الطبية بنسبة 23 في المئة، وهو خفض كبير. على وسائل التواصل الاجتماعي اشتكى الناس من فترات الانتظار الطويلة للحصول على الخدمات الطبية الأساسية بسبب نقص الموظفين، وتعطل المعدات مثل أجهزة التنفس الصناعي، ونقص اللقاحات و[عقاقير] العلاج الكيماوي. وصار الرأي العام تجاه الخدمات الطبية على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر سلبية. في دراسة أجرتها شركة فيلتر لابس في مارس 2024 حول تأثيرات الدعاية الروسية، أظهرت النتائج أن وسائل الإعلام الحكومية أولت اهتماماً مبالغاً فيه للاستثمارات الطبية الجديدة التي كانت الحكومة تدعي أنها تقوم بها، وكيف كانت الشركات الطبية الروسية تتغلب على العقوبات الغربية. وقد عزز شن حملة دعائية مكثفة هذه المشاعر العامة لفترة وجيزة، لكن التجارب الشخصية التي اختبرها الناس روت قصة مختلفة، وسرعان ما تبدلت مواقفهم من هذه القضية مرة أخرى.
وواجهت الحكومة بعض التحديات نفسها في ما يتصل بالقضايا الاقتصادية. ففي ظل استمرار ارتفاع معدلات التضخم، اشتكى الروس حتى في أكثر المناطق ازدهاراً من أن رواتبهم تراجعت قيمتها أكثر فأكثر. وارتفعت ديون الأسر 16.9 في المئة بين عامي 2021 و2022، ثم 18.1 في المئة أخرى بين عامي 2022 و2023. واستخدم الروس بصورة متزايدة القروض القصيرة الأجل وحتى قروض "يوم الدفع" [قروض قصيرة الأجل مصممة لمساعدة الأفراد على تغطية نفقاتهم حتى يصل راتبهم التالي]. ورد الكرملين بالترويج لحقيقة مفادها أن الرواتب آخذة في الارتفاع، بما في ذلك في المناطق الفقيرة مثل بورياتيا، في جنوب سيبيريا. وفي الوقت نفسه مول البنك المركزي ووزارة العمل برنامجاً خاصاً يهدف إلى التوعية العامة في شأن الثقافة المالية [يهدف إلى زيادة الإلمام في الشؤون المالية] للتحذير من أخطار قروض يوم الدفع والقروض الصغيرة. والآن تظهر بعض الإشارات على أن القلق بدأ في الارتفاع بعد عامين من الثقة الاستهلاكية التي عززها اقتصاد الحرب: فقد انخفض "مؤشر ثقة المستهلك" في ليفادا 8 في المئة في أغسطس، في وقت كانت فيه عملية كورسك جارية. ويقول عدد متزايد من الروس إن وضعهم الاقتصادي تدهور خلال العام الماضي وإنهم قلقون في شأن المستقبل.
ومن يذكر أن المخاوف الاقتصادية تشكل في كثير من الأحيان مصدر قلق كبيراً بالنسبة إلى أسر الجنود أيضاً. فالكرملين يقدم الآن رواتب ضخمة ومكافآت تصل إلى 38 ألف دولار للرجال الذين يوقعون عقوداً مع الجيش. وقد جاء في أحد الملصقات الدعائية للتجنيد: " أثناء خدمتك لوطنك من أجل المجد، ستكون قادراً على إكمال تجديد منزلك وشراء أجهزة جديدة لمطبخك"، ولكن عندما تحدثت إلى صحافيين يغطون المناطق الأكثر فقراً التي يأتي منها عديد من الجنود، سمعت أن العائلات في هذه المناطق ينتابها قلق أكبر من تخلف الحكومة عن دفع تعويضات لأسر جنودها الذين قتلوا. ويخشى البعض أن يترك الجنود القتلى في ساحة المعركة عمداً حتى لا تضطر الدولة إلى تحديد هويتهم بالتالي تتجنب دفع التعويضات.
وفي بعض الأحيان، تحولت المخاوف الاقتصادية لدى الروس إلى أعمال عنف. وكما يوضح فاسيلي غاتوف، المحلل الإعلامي الروسي المنفي والزميل في جامعة جنوب كاليفورنيا، عندما أصبح البيض سلعة نادرة في أوائل العام الماضي، بدأ بعض الناس في مهاجمة أصحاب مزارع الدواجن. هذا الحدث يظهر بوضوح التأثيرات المتناقضة أحياناً لدعاية الكرملين: فوسط إشاعات عن مشكلات في سلسلة التوريد وارتفاع الأسعار، شن الكرملين حملة دعائية مكثفة تؤكد للناس أن البيض متوافر بكميات كبيرة. وكانت النتيجة أن الناس افترضوا العكس وسارعوا إلى شراء كل البيض المتاح، مما أدى إلى تفاقم الأزمة.
شوائب البروباغندا
بالنسبة إلى أي شخص يولي اهتماماً لما يجري، هناك تفاوت مذهل غالباً بين التقارير الإخبارية الروسية التي تبدو هادئة وبين الاستياء المتزايد حول نفس التطورات على وسائل التواصل الاجتماعي الروسية. إلى جانب القضايا الاقتصادية الطويلة الأمد، واجهت آلة الدعاية التابعة للكرملين صعوبة أكبر في التعامل مع الصدمات الهائلة وغير المتوقعة المتعلقة بالحرب. على سبيل المثال، أدت التعبئة الجزئية التي أعلنها بوتين في خريف عام 2022 إلى هجرة جماعية غير متوقعة. عبر الإنترنت، نشر الكرملين أخباراً إيجابية حول هذه الخطوة، مما أدى إلى تحسن في الموقف العام لمدة أسبوعين تقريباً، قبل أن ينهار مجدداً. فكثف الكرملين الرسائل المتعلقة بهذه القضية، ليجد أن المشاعر العامة تنهار مرة أخرى. مع كل موجة بروباغندا، أصبحت قدرة الكرملين على الحفاظ على الدعم الشعبي للتعبئة أقل فاعلية.
لنأخذ على سبيل المثال هنا التمرد المفاجئ الذي قاده بريغوجين في يونيو (حزيران) 2023. بينما كانت قوات "فاغنر" التابعة لبريغوجين تزحف نحو موسكو، التزمت وسائل الإعلام الحكومية التابعة للكرملين الصمت ببساطة في انتظار التوجيهات. وسرعان ما اتضح أيضاً أن النخبة الروسية والجيش وعامة الناس لم يكونوا مهتمين بوقف تقدم المتمردين. وبينما كانت البلاد تتابع الأحداث بفضول غير مبالٍ وفاتر، وقف بعض المدونين العسكريين الروس المشهورين إلى جانب بريغوجين. وفي النهاية، لم يستغل بريغوجين رجحان كفته، وبعد شهرين، قضي عليه في حادثة تحطم طائرة، لكن الحادثة أظهرت مدى سهولة تعطل آلة الدعاية التابعة للكرملين، وأنه عندما يحدث هذا، لن تهرع أذرع السلطة المختلفة في روسيا إلى مساعدة الرئيس، بل ستنتظر فرصتها للانقضاض.
والآن أصبح غزو كورسك أحدث صدمة من هذا القبيل. في الأسابيع التي تلت بدء الهجوم الأوكراني، تواصلت محاولة موسكو الاستخفاف بأهمية العملية والزعم بأن القوات الروسية تتعامل مع المشكلة وتعالجها. ولكن كان من الصعب على موسكو إخفاء أول غزو كبير على الأراضي الروسية منذ الحرب العالمية الثانية. وحتى الأخبار المحلية الرسمية تجرأت على انتقاد رد بوتين. وجاء في أحد العناوين الرئيسة: "سكان منطقة كورسك يعتقدون أن الحكومة قد تخلت عنهم".
في كل واحدة من هذه الصدمات، أظهر الكرملين عجزه عن التعامل مع الأحداث غير المتوقعة. في أعقاب الهجوم على كورسك وتمرد بريغوجين مباشرة، لم تصدر توجيهات إلى التلفزيون الروسي الحكومي، الذي درج على أن يتلقى التوجيهات من الأعلى، وترك فريسة الارتباك. عندما لا تعطى وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة تعليمات فورية حول الموقف الذي يجب اتخاذه، وعندما يفسح المجال أمام القوميين على "تيليغرام" لإبداء عواطفهم من دون أوامر واضحة، تنهار فجأة التعددية الزائفة ذات الطابع الوطني التي رعاها النظام، مما يترك هذا النظام مكشوفاً وعاجزاً.
قد يكون من المغري أن نستنتج أن حكم بوتين القوي لا يتأثر بالنكسات الموقتة في التلاعب بالخطاب والسلوك العام. ولكن حتى في روسيا، هذه التحولات مهمة لأنها تظهر أن الدولة غير قادرة على السيطرة على المجتمع بصورة مطلقة. لنأخذ في الاعتبار الطقوس الروسية الغريبة في الانتخابات، على رغم أن الجميع يعلمون أن بوتين سيفوز. ووفق ادعاءات ستيفن هولمز وإيفان كراستيف في وقت مبكر من عام 2012، يعتمد الكرملين على التزوير الانتخابي الفاضح وتوجيه الموظفين الحكوميين حول كيفية التصويت. والهدف ليس إقناع أحد بأن هذه الانتخابات حرة ونزيهة، بل إظهار أن الحكومة قادرة على تزويرها، وأنها تمتلك القوة اللازمة لحمل البلاد على المشاركة في هذه المهزلة.
لذلك، فإن انحسار سيطرة الكرملين على الخطاب العام والسلوك العام يهدد مكانة بوتين وهيبته ومكانته كقيصر. بالنسبة إلى النظام، فمن المرجح أيضاً أن يعيد هذا إلى الأذهان ذكريات سيئة من أواخر الحقبة السوفياتية. فقد شهدت النخب الحالية في الكرملين كيف فقدت السيطرة بسهولة عام 1989 عندما انزلقت أوروبا الوسطى بسرعة بعيداً من قبضة موسكو، ومرة أخرى عام 1991 عندما انهار الاتحاد السوفياتي الذي كان يبدو متماسكاً. واليوم، يراقب بوتين باستمرار أي علامات قد تنذر بتكرار ما حدث، وقد صاغ نهجه وفقاً لذلك. عندما ترى القيادة نفسها تفقد السيطرة على الخطاب والسلوك الاجتماعي، فإنها تغير سياستها. وفي بعض الأحيان يشدد الكرملين قبضة الرقابة. ولكن يمكنه أيضاً ببساطة إلغاء الخطة التي لم تحظَ بشعبية. لذلك، امتنع الكرملين حتى الآن عن الإعلان عن تعبئة جديدة، على رغم الحاجة الملحة إلى القوى البشرية في الجيش. وعلى ساحة المعركة نفسها، كلما دفعت القوات الأوكرانية روسيا إلى الوراء، مثلما حدث مع أسطول البحر الأسود الروسي، يتراجع بوتين بدلاً من المخاطرة بوضع يفقد فيه مقاليد السيطرة.
ووفق مزاعم وزير الخارجية البولندي راديك سيكورسكي في سبتمبر، إذا كان الغرب راغباً في إيقاف روسيا، فإنه يحتاج إلى تغيير حسابات بوتين المتعلقة بالأخطار والكلف التي يواجهها في الداخل المترتبة على شن حرب الآن وحروب جديدة في المستقبل. وسوف يتطلب القيام بذلك تحقيق انتصارات في ساحة المعركة، وحرباً اقتصادية فعالة، ووحدة دبلوماسية، وإعادة تسليح القوات الأوكرانية تسليحاً مناسباً، بيد أن المعلومات تلعب أيضاً دوراً حاسماً في ذلك، وهو دور أثبت فاعليته في بعض أكبر الحروب في القرن الـ20.
إثارة الغرائز والمشاعر السلبية الدفينة
إن الجهود المبذولة للتأثير في الخطاب والسلوك الروسيين لا تختلف كثيراً عن التحدي الذي واجهته المملكة المتحدة مع مواطني ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. ففي البداية، كان البريطانيون يأملون في أنهم قد يشجعون حركة مضادة ديمقراطية في ألمانيا. ولكنهم أدركوا في نهاية المطاف أن هذا الأمر ميؤوس منه. فبغض النظر عن القيم الليبرالية التي كان من الممكن أن يحملها الأفراد الألمان في داخلهم، لم تكن هناك حركة جادة مؤيدة للديمقراطية يمكن دعمها. من خلال مراقبة الجبهة الوطنية الشعبية التي قضى هتلر سنوات في بنائها، خلص اللورد جون ريث، وزير المعلومات البريطاني [كانت الوزارة مسؤولة عن إدارة المعلومات والدعاية ونشرها وتم حلها عام 1946 بعد الحرب العالمية الثانية] ومؤسس هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، إلى أنه "ربما يكون هناك استياء، لكنه مضمر... لذا، حري بنا إلحاق الهزيمة بآلة الحرب".
ولكن بعد عامين من بدء الحرب، اتخذت جهود الاتصال البريطانية منحى جديداً. على رغم أن بعض أجزاء الحكومة استمرت في عقد الأمل على إمكانية تحقيق رؤية ديمقراطية في ألمانيا فإن قسماً جديداً داخل الجهاز التنفيذي للحرب السياسية (PWE)، الذي كان يشرف على جميع جهود الاتصال البريطانية الخارجية، اتبع نهجاً أكثر واقعية: إذ نظم عشرات المحطات الإذاعية والمنشورات والصحف التخريبية التي ركزت على الاقتصاد والانقسامات بين الجيش والحزب النازي والتوترات بين ألمانيا وحلفائها، والغضب المكبوت الذي شعر به عديد من الألمان العاديين تجاه البيروقراطيين. ولم يكن الهدف تحويل الألمان إلى ديمقراطيين، بل تفعيل ما سماه سيفتون ديلمر، رئيس العمليات الخاصة في الجهاز التنفيذي للحرب السياسية الألمانية، إيقاظ الجانب المظلم الدفين [الغرائز الأولية الخام والمشاعر السلبية المكبوتة] الموجود داخل الألمان، مثل الغضب والغيرة والرغبة في الاعتناء بالنفس، التي يمكن أن تقوض في كثير من الأحيان الدعاية الحكومية حول "العظمة الوطنية".
ركز البريطانيون على الغضب المكبوت الذي كان يشعر به عديد من الألمان العاديين من البيروقراطيين النازيين.
ولم تكن الحملة البريطانية ناجحة تماماً. فمحطات الراديو التي حاولت إخفاء هويتها الحقيقية ومصدرها، كشفت بسرعة، مثلما سيحدث اليوم. وقد ندم ديلمر على بعض تجاربه في إطلاق المعلومات المضللة، إذ شعر بأنها "ارتدت" على الحلفاء: وهو تحذير لأي شخص يرغب في محاكاة هذا النوع من التكتيكات اليوم. ولكن عندما نجح الفريق البريطاني في تحديد المعلومات الحقيقية التي أثارت اهتمام الألمان العاديين، كانت النتائج مثيرة للإعجاب.
بحلول عام 1943، كان كبار المسؤولين في قوات الأمن الخاصة [سرب الحماية SS] يتحسرون بسبب التأثير التخريبي للمحطات البريطانية الناطقة باللغة الألمانية، التي أصبحت من بين أكثر ثلاث محطات شعبية في ميونيخ. وأظهرت استطلاعات الرأي السريعة التي أجراها البريطانيون مع أسرى الحرب الألمان أنه بحلول عام 1944، كان نحو 50 في المئة يتابعون هذا البث. كانت تفاصيل حياة الجنود والفضائح المتعلقة بالفساد الداخلي في الحزب النازي التي قدمتها هذه المحطات غنية جداً لدرجة أنها جعلت القادة النازيين يشتبهون في وجود تسريبات من داخل النخبة، مما أدى إلى حالة من الارتياب والاعتقالات.
إرباك الكرملين
على غرار ما فعله نظراؤهم البريطانيون قبل 80 عاماً، يحتاج حلفاء أوكرانيا الغربيون أيضاً إلى تجديد طريقة استخدامهم للمعلومات ضد عدوهم. إن كان هناك أي جهود مدعومة من الغرب للتواصل مع روسيا بوتين (وهناك عدد قليل جداً منها، مثل تلك التي تشرف عليها الوكالة الأميركية للإعلام العالمي أو الخدمات العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية) فإنها تستهدف بصورة أساسية الشريحة الصغيرة من الليبراليين في البلاد وتتبع منطق الصحافة الغربية الكلاسيكية. ومن خلال مواجهة أكاذيب الكرملين والسرديات الزائفة حول الحرب، تسهم هذه الجهود في إبقاء شعلة الحقيقة مضاءة، وهي استثمار حكيم للمستقبل، إذ تساعد في تطوير رؤية لروسيا ما بعد الإمبريالية لا تعرف نفسها من خلال استتباع الآخرين والسيطرة عليهم. ولكن من أجل تقويض آلة الحرب الروسية بصورة فعال الآن، ستحتاج كييف وشركاؤها إلى إطلاق جهود تواصل أكثر استهدافاً.
قبل كل شيء تحتاج أوروبا والولايات المتحدة إلى إيجاد طرق لاستغلال افتقار بوتين للسيطرة ومفاقمتها، خصوصاً في لحظات الاضطراب المتزايد. فمباشرة في أعقاب هجوم كورسك، لو حدثت صدمة أخرى من هذا القبيل، على غرار منح أوكرانيا الحق فجأة في ضرب أهداف داخل روسيا مما يؤدي إلى موجة جديدة من القلق في جميع أنحاء البلاد، لكان من الممكن أن تضع الكرملين في موقف يشعر فيه بأنه يفقد قبضته على المجتمع الروسي. وهناك عديد من التحركات الأخرى التي يمكن أن تحدث صدمات مشابهة. على النقيض من الخيارات المعقدة المحيطة بالإجراءات العسكرية وإعطاء التصاريح، فإن المبادرات المتعلقة بالمعلومات تحمل أخطار قليلة لا تؤدي إلى تصعيد عسكري مباشر: في الواقع استغلت روسيا نفسها هذه الحقيقة لفترة طويلة، من خلال مهاجمة الديمقراطيات عبر حرب المعلومات، مدركة أن الغرب لا يستطيع أن يتخذ خطوات كثيرة للرد. وفي حين لا تحتاج الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون إلى السير على نهج روسيا في بث المعلومات المضللة، بإمكانهم في الوقت نفسه الاستفادة من هذه الاستراتيجية غير العسكرية.
إن البحوث الجديدة حول مساعي الكرملين الرامية إلى التحكم في ما يقوله الروس ويفعلونه أثناء الحرب تشير إلى مجموعة من المواضيع المحتملة للحملات الإعلامية في البلاد. أحد هذه المواضيع يتعلق بالجيش وأسر الجنود، ويسلط الضوء على قضايا تتعلق بالتعويض المالي عن أولئك الذين قتلوا في المعارك. لنتخيل أنه خلال عملية كورسك الأخيرة، كانت أوكرانيا وحلفاؤها قد أنشأوا بالفعل قناة تواصل رئيسة تستهدف الجنود الروس وعائلاتهم، مثلما فعلت هيئة البث الإذاعي البريطاني مع الجنود الألمان في الحرب العالمية الثانية. كان من الممكن استخدام هذه القناة لخفض الروح المعنوية وتشجيع الانشقاقات في لحظات الذعر. وكان من الممكن أيضاً أن يشمل مثل هذا المشروع قنوات منفصلة [سرية] تستهدف فروعاً مختلفة من النظام الروسي: جهاز الأمن الفيدرالي والشرطة، والجيش، والجنود المرتزقة. ويمكن التركيز أيضاً على قضايا دائمة تهم السكان بصورة عامة، مثل الرعاية الصحية و[شؤون] الاقتصاد. ومن خلال تقويض سيطرة الكرملين بصورة مستمرة على ما يقوله الناس ويفعلونه، فإن مثل هذه الجهود من شأنها أن تجعل القيادة الروسية أقل ثقة في قدرتها على احتواء الكلف الداخلية لسياستها الخارجية.
ومن أجل تحقيق أقصى درجة من التأثير، يجب أن تكون أي حملة معلومات مستدامة مرتبطة بالاستراتيجيات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية الأوسع، ومنسقة بين أوكرانيا وحلفائها. فالأوكرانيون يقاتلون من أجل حياتهم، وبوسعهم تولي القيادة في جهود الاتصال الأكثر تخريباً المرتبطة بأعمالهم العسكرية. وفي المقابل يمكن لحلفاء أكبر مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة المساعدة في الدبلوماسية العامة، والبحث، والسياسات المناسبة في الوقت المناسب، والمعلومات حول المساعدات العسكرية والتدابير الاقتصادية، فضلاً عن إعادة توجيه قنوات الإعلامية لاستهداف الروس العاديين بدلاً من الجماهير الليبرالية التي تصل إليها معظم المبادرات الحالية. وبوسع الدول الواقعة على خط المواجهة في منطقة البلطيق أن تركز على المناطق الحدودية في روسيا، التي تعرضت لأكبر ضربة اقتصادية جراء الحرب. وهناك دور للمجتمع المدني أيضاً: فلم تعد الحكومات تهيمن على وسائل الاتصال كما كانت الحال في الحرب العالمية الثانية. ومن الممكن أن تأتي بعض الحملات الأكثر ابتكاراً من نشطاء القطاع الخاص، على رغم أن هذه الحملات ستكون أكثر فاعلية إذا تماشت أنشطتها المستقلة مع استراتيجية أوسع.
ولكن حتى الآن، فشلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في الاستفادة من نقاط الضعف الهيكلية التي يعانيها الكرملين. وبدلاً من ذلك، يميلون إلى البقاء في وضعية رد الفعل، منشغلين بالخطوط الحمراء والمخاوف من التصعيد الروسي. وخلال كل صدمة كبيرة أصابت الكرملين منذ بدء الحرب، تراجعوا وسمحوا لموسكو بالتأقلم والتعافي والعودة أقوى. وهذا ما يحدث الآن مع الهجوم على كورسك. فبعد بضعة أسابيع من الذعر، يبدو أن الكرملين يعيد ترتيب استراتيجيته الدعائية، ويطلب من الروس الهدوء وعدم انتظار أي تحرير سريع لمنطقة كورسك. ومع تكثيف هجومه في دونباس، فإن الكرملين سعيد بترك مشكلة كورسك تختفي عن الأنظار وتصبح خارج التداول. لا يمكن لحلفاء أوكرانيا أن يتحملوا إهدار الفرصة القادمة التي يقع فيها نظام الدعاية الروسي في حالة من الارتباك، عندما تنزلق سيطرته التي تبدو كاملة لتكشف عن القصور والتهاون الكامنين.
* بيتر بوميرانتسيف زميل بارز في جامعة جونز هوبكنز. وهو مؤلف كتاب " كيف تربح حرباً إعلامية: خبير البروبغندا الذي تفوق على هتلر".
مترجم من فورين أفيرز، أكتوبر (تشرين الأول) 2024