ملخص
هل يجب أن يتحرك الإعلام والسياسيون لاتخاذ إجراءات في شأن المناخ فقط في حالات الطوارئ والكوارث الطبيعية التي تهدد الكوكب والمجتمع؟
شكل الإعصار الخطر من الفئة الثالثة الذي ضرب ولاية فلوريدا الأميركية أخيراً الحدث الذي حمل بعض الصحف، وليس كلها، على تناول تغير المناخ في صفحاتها الأولى. في العادة، لا تعد هذه الأزمة التي تجتاح الكوكب ضمن المسائل الجادة التي تتطلب اهتماماً فاعلاً.
ربما قرأت عشرات من هذه المقالات. تغير المناخ حقيقة واقعة، لا يمكن إنكارها، ولكن دعونا نكن واقعيين في شأن ما يسمى "صافي الصفر" [الحياد الكربوني بمعنى خفض انبعاثات الكربون إلى أقصى حد، والتعويض عما لا يمكن التخلص منه]. علينا أن نتخذ قرارات "مالية حكيمة ومدروسة إلى جانب مسؤوليتنا البيئية"، كما كتبت صحيفة "ذا تايمز" هذا الأسبوع في تأييدها تخلي شركة "بريتيش بتروليوم" عن الأهداف المناخية المتفق عليها. ويتعين علينا أن نقف ضد استخدام قضايا تغير المناخ لأغراض سياسية، كما يقول حاكم ولاية فلوريدا الأميركية رون ديسانتيس [في مقابل دعوات الناشطين البيئيين من أمثال] السويدية المعروفة غريتا ثونبرغ التي لا تقود إلى أي خطوات عملية ملموسة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الحقيقة إن عاصفة ضخمة تضرب فلوريدا لن تلقى أي تجاهل، فضحاياها من أثرياء أميركا [مع كل قصصهم الشخصية المؤثرة عن خسائرهم]، أضف إلى ذلك اللقطات الحية التي توثق واقعية هذه الكارثة المناخية جاذبة المزيد والمزيد من الانتباه. لذا، سيحظى إعصار "ميلتون" باهتمام واسع من المشاهدين وستلقى مقاطع الفيديو والمقالات والأخبار الخاصة به تفاعلات أكثر بأشواط مقارنة مع، لنقل مثلاً، ألف و700 شخص لقوا حتفهم عام 2022 عندما ضربت الفيضانات الغزيرة باكستان، غامرة ثلث مساحة البلاد وملحقة الأذى بـ33 مليون شخص. لسبب ما، لم ينظر إلى هذا الحدث على أنه خبر يستحق النشر والتغطية عبر الوسائل الإعلامية.
في الواقع تبدو متقلبة قرارات وسائل الإعلام في شأن هذه الحوادث، فما يعد خبراً مهماً في وقت معين ربما لا يحظى بالأهمية عينها في وقت آخر. قبل يوم من وصول "ميلتون" إلى اليابسة، أصدرت مجموعة علماء يتمتعون بالصدقية والموثوقية تقريراً حذر من أن "مستقبل البشرية على المحك"، وأننا ربما نكون أمام "انهيار مجتمعي جزئي".
اليوم، أنا متوقف منذ زمن عن العمل في مجال الأخبار اليومية، ولكن يبدو أننا أمام ما نسميه "قصة"، بل ليست مجرد قصة، إنها ما يعرف في أوساط المتخصصين في المجال بـ"قصة مدهشة"، علماً أنها قصة مؤثرة جداً تشد الانتباه إلى حد أن المتابع ربما ينسى نفسه أثناء تناول الفطور. ومؤكد أن التحركات والجهود داخل حزب المحافظين البريطاني مهمة، ولكن ما مدى تأثيرها وجدواها في سياق التحديات الكبرى التي تواجه مستقبل البشرية؟
لم يحظ التقرير المذكور بأي تغطية تذكر. هل تكرم أي محرر إخباري بإلقاء نظرة على هذه الورقة الأكاديمية المنشورة في مجلة "بيوساينس" BioScience؟ لو أنه فعل ذلك، لربما صدمته اللغة [المصطلحات والتعبيرات] الباعثة على القلق التي استخدمها العلماء في كتابة التقرير.
"نحن على شفا كارثة مناخية لا رجعة فيها"، هكذا بدأ التقرير مضيفاً إننا "لا ريب إزاء حال طوارئ عالمية. جزء كبير من نسيج الحياة على الأرض [النظم البيئية والتنوع البيولوجي] يتهدده الخطر. إننا ندخل مرحلة مختلفة وحرجة من أزمة المناخ تنطوي على عواقب وتطورات كبيرة غير متوقعة".
دعونا نتخيل مجموعة من ردود فعل مكاتب الأخبار تجاه هذه الأنباء المثيرة للقلق. ربما يأتي رد الفعل الأول على شكل تثاؤب مكتوم يخفي شعوراً بالملل وعدم الاهتمام، كما في "سبق أن سمعنا كل هذا الكلام، أخبرنا معلومات جديدة". وربما يكون رد الفعل الثاني في صورة السؤال: "من هم أصلاً هؤلاء الخبراء المزعومون؟".
في الواقع، يحمل رد الفعل الأول حقيقة ما: سبق لنا أن سمعنا فعلاً تحذيرات رهيبة في شأن أزمة المناخ، وإن لم تكن دائماً بمثل هذه العبارات الصادمة المستخدمة في التقرير. أما بالنسبة إلى رد الفعل الثاني، فيسعنا أن نبحث بسهولة عن هوية الباحثين الـ14 في محرك البحث "غوغل": إنهم يأتون من جامعات مرموقة حول العالم. ومصدر المجلة، التي نشرتها مطبعة "جامعة أكسفورد"، المعهد الأميركي للعلوم البيولوجية [ما يعزز صدقيتها]. لذا، أعتقد أن التقرير جدير بالثقة ويستند إلى أسس علمية.
ولكن تواجهنا مشكلتان أعمق تتعلقان بالطريقة التي تفكر بها وسائل الإعلام في شأن تغير المناخ. الأول أنه أصبح موضوعاً مرتبطاً بالأيديولوجيا بدلاً من العلم. سيتعين على محرر الأخبار المفترض لدينا أن يأخذ في الاعتبار أي تحيزات تجاه أزمة المناخ لدى رئيس تحرير المؤسسة الإعلامية أو مالكها. وإذا كان الشعور العام في غرفة الأخبار، الذي تكون جماعياً دونما نقاش واضح أو تفكير منطقي، أن الكلام كله مجرد هراء مبالغ فيه، سيتجاهل محرر الأخبار القصة تماماً. هكذا لن يكون للعلم أي تأثير فاعل في مقابل التحيزات والآراء المسبقة غير المبنية على أساس علمي.
هذا بالنسبة إلى المشكلة الأولى، أما المشكلة الثانية فتكمن في أن الصحافة تميل إلى التركيز على الأحداث التي وقعت فعلاً من دون التفكير في المستقبل. إنها تعد الحدث الذي طرأ بالأمس خبراً، والحدث الذي ربما يطرأ أو لا يطرأ خلال 30 عاماً يبقى بالنسبة إليها مجرد توقع.
كيف للصحافة تعديل رؤيتها في العمل كي تتمكن، بمساندة الخبراء، من التطلع إلى المستقبل إلى جانب التركيز على الأحداث الماضية؟ "أعتقد أنه من واجب الصحافة أن تساعدنا في وضع تصورات لمآلات الأمور وحجم العواقب في حال لم نغير نهجنا تجاه أزمة المناخ"، جاء في كلمات الصحافي المعروف فولفغانغ بلاو [أحد الأصوات البارزة في الدعوة إلى تغيير طريقة تغطية وسائل الإعلام لأزمة المناخ]، الذي أنشأ برنامجاً في "جامعة أكسفورد" حول تغطية الصحافة للقضايا المناخية وتدريب الصحافيين على كيفية تناول ومناقشة هذه الموضوعات. ويشار إلى هذا الشكل من الصحافة باسم "الصحافة الاستباقية".
ولكن كثيراً من القضايا تستدعي الآن حصولها على تغطية إعلامية. قد يكون أحد الأسئلة: "من يمول مثلاً كيمي بادنوش، العضو في حزب المحافظين البريطاني"؟ المعلومات موجودة على مرأى من الجميع. يظهر سجل اهتماماًتها أنها قبلت من مجموعة تنكر الأدلة العلمية المتعلقة بتغير المناخ مبلغاً مالياً وقدره 10 آلاف جنيه استرليني لاستخدامه في حملتها خلال سباق زعامة الحزب.
الأمر سهل جداً. ابحثوا في "غوغل" عن مجموعة الأبحاث الرائدة "دي سموغ" DeSmog، وستجدون أن نشطاء المناخ قد أنجزوا فعلاً المهمة الصعبة، إذ أجروا تحقيقاتهم في شأن الأموال التي تبرع بها نيل ريكورد، علماً أنه مليونير يدعم حزب المحافظين مالياً عبر التبرعات ومؤسس شركة الاستثمار "ريكورد فايننشال غروب" Record Financial Group، وهو رئيس "نيت زيرو واتش" Net Zero Watch (اختصاراً NZW)، الذراع المسؤولة عن نشاطات "مؤسسة سياسة الاحتباس الحراري" (اختصاراً GWPF) [مجموعة ضغط في المملكة المتحدة تتمثل أهدافها المعلنة في تحدي "السياسات المضرة" التي تتوخاها الحكومات للتخفيف من ظاهرة الاحتباس الحراري الناجمة عن الأنشطة البشرية].
"يقع مقر "مؤسسة سياسة الاحتباس الحراري" في 55 شارع تافتون، وستمنستر، علماً أنها مجموعة رائدة في إنكار تغير المناخ في المملكة المتحدة"، وفق تقارير "دي سموغ". قال مدير المؤسسة، بيني بيزر، إنه "من المستغرب أن يعتقد أي شخص بوجود أزمة مناخية"، في حين ترى المجموعة أيضاً أنه من الخطأ تصنيف ثاني أكسيد الكربون على أنه مادة ملوثة، لأنه في الواقع، كما تزعم، يعود "بالنفع على كوكب الأرض".
بل أكثر من ذلك، فقد اتضح، ويعود الفضل إلى الشركة الإعلامية "بلومبيرغ" في الحصول على هذه المعلومات المهمة، أن بادينوك كانت تدير حملتها القيادية من منزل ريكورد نفسه. وفي حين أنها أعلنت عن التبرع بمبلغ 10 آلاف جنيه استرليني من ريكورد، غير أنها لم تكن صريحة في شأن استخدام المنزل. وأشار متحدث باسم المرشحة إلى أنها لم ترتكب أي خطأ.
وكانت بادينوك انتقدت سابقاً الأهداف المناخية لدى المملكة المتحدة ووصفتها بالـ"تعسفية"، وذلك في مقابلة معها عام 2022. وقد أشارت في السابق إلى أنها ستؤيد تأخير التزام المملكة المتحدة بهدف الوصول إلى صافي الصفر من انبعاثات الكربون بحلول عام 2050. وقالت إن التراخيص الجديدة لاستخراج أو إنتاج الوقود الأحفوري [النفط والفحم والغاز الطبيعي] متوافقة مع الأهداف المناخية للمملكة المتحدة.
ولم يسلم منافس بادينوك على قيادة حزب المحافظين، روبرت جينريك، من تحقيقات "دي سموغ" أيضاً، إذ وجدت سجلاً كبيراً له من الهجمات على الإجراءات المتعلقة بالتصدي لأزمة المناخ. كذلك يدين "التعصب الصافي الصفري"، بحسب توصيفه، ووصف هدف صافي الصفر في المملكة المتحدة بأنه "سياسات خضراء خيالية خطرة وبعيدة من المنطق العملي". وقد أيد افتتاح مناجم الفحم الجديدة.
تستحق هاتان القضيتان التغطية؟ ربما على يد الأشخاص الجدد أنفسهم الذين بحثوا بحماسة شديدة عن هوية المانحين السخيين الذين أسهموا في تمويل حزب العمال ما أتاح لقياداته العليا ارتداء البذات الأنيقة، وشراء تذاكر مهرجان النجمة تايلور سويفت، والحصول على هدايا كرة القدم الترويجية؟
قريباً، يغادر إعصار ميلتون الصفحات الأولى. ستعود وسائل الإعلام إلى تغطياتها المعتادة [التي تتجاهل أزمة المناخ]. ولكن من الصعب، بمجرد قراءتك التقرير، أن [تتجاهل المخاوف المتصلة بتغير المناخ]، من بينها شبح "الانهيار المجتمعي الجزئي" إذا واصلنا التظاهر بأن تغير المناخ لا يشكل تهديداً عاجلاً لطريقة عيشنا. سيتعين علينا جميعاً، سياسيين وصحافيين أيضاً، أن نتكيف مع التغيرات والتهديدات.
© The Independent