Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 مجموعة "أحدب الرباط" في رحاب التجريب السردي

أحمد المديني يسعى إلى فتح أبواب القص على آفاق مختلفة

لوحة للرسام المغربي الجيلالي الغرباوي (صفحة فيسبوك)

ملخص

 تتنوع عناصر السرد وتختلف من قصة إلى أخرى في "أحدب الرباط"، المجموعة القصصية الـ15 للروائي والقاص المغربي أحمد المديني. وهو تنوع يشمل الفضاء القصصي والشخوص والثيمات وتقنيات القص ومساحة القصة وصيغ الكلام وأنواعه.

يجد قارئ المجموعة القصصية "أحدب الرباط" (المركز العربي الثقافي) للكاتب المغربي أحمد المديني، إزاء مروحة واسعة من نصوص مختلفة، تندرج في نوع القصة القصيرة، ويحاول فيها القاص الاقتراب من قصصية القصة، ذلك السقف الذي يسعى الجميع لبلوغه، ولا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً، لأنهم حين يفعلون يكونون قد كتبوا القصة الكاملة. وعندها، لا يعود ثمة مبرر للكتابة. من هنا، تستمر محاولات الاقتراب من السقف العصي على البلوغ، فيجانب الحظ بعضهم في محاولاته، ويحالف بعضهم الآخر، ولعل أحمد المديني في طليعة الذين حالفهم الحظ، فهو لا يني يجرب ويجرب، ويقترب من بلوغ السقف، وهو ما نراه بوضوح في "أحدب الرباط". على أن قصصية القصة شأنها شأن أدبية الأدب، وروائية الرواية، وشعرية القصيدة، سقوف عالية يستحيل بلوغها، لأنه في هذه الحالة ينتفي مبرر الكتابة، فليس ثمة قصة أو رواية أو قصيدة كاملة، والنقص من لوازم النشاط البشري ومنه الأدب. ومع هذا، سيبقى سيزيف يحاول الصعود بالصخرة إلى قمة الجبل حتى يبلغها أو يقضي الله أمراً كان مفعولاً. فأجمل الدروب هي التي نظل محكومين بالسير عليها من دون أن نحظى بقصب الوصول، لأننا حين نصل ننتهي.

 تنوع واختلاف

 في "أحدب الرباط" يطال التنوع مختلف عناصر القص، فالفضاء القصصي يراوح ما بين الرومانسي والواقعي والواقعي السحري والواقعي التاريخي. والشخوص تتوزع على الحقيقي والمتخيل والبشري والحيواني والنباتي والصناعي. والثيمات تراوح ما بين الحب والصداقة والسلطة والكتابة والموت وغيرها. وتقنيات القص تفيد من النص الشعري والحكاية الشعبية واليوميات والسيرة الذاتية والرواية والخرافة والأسطورة والحلم والمرايا المتقابلة والفقرات المرقمة المتعاقبة وغيرها. وصيغ الكلام تراوح ما بين الغائب والمتكلم والمخاطب وقد تجتمع في القصة الواحدة، وأنواعه تختلف بين الأدبي والديني والجغرافي والإداري والشعري، وقد تجتمع هذه الأنواع ضمن القصة نفسها. أما مساحة القصة الواحدة فتراوح ما بين أربع صفحات في الحد الأدنى، و22 صفحة في الحد الأقصى. وهكذا يشمل التنوع الشكل والمضمون، الحكاية والتقنية، الزمان والمكان، الصيغة والنوع. وإذا كانت هذه العجالة لا تتسع للإحاطة بهذه المروحة الواسعة من العناصر المتنوعة، فحسبنا الإشارة إلى الثيمات الأبرز في المجموعة وكيفية التعبير عنها.

 تشكل السلطة، على أنواعها، الثيمة الأكثر حضوراً في "أحدب الرباط"، وتشغل ست قصص، في الأقل، وتختلف وظائفها من قصة إلى أخرى، ففي "الشجرة المباركة"، تقدم السلطة المحلية في قرية صحراوية على قطع الأشجار المعمرة، ذات ليل، وتحمل أهل القرية المسؤولية، وتكبدهم عناء دفنها، فالأشجار التي تشكل معادلاً قصصياً للحياة والحلم في واقع صحراوي قاس تسقط على حين غرة، وتدع الناس في حيرة من أمرهم، بحيث يتضافر عليهم سوء استخدام السلطة مع قسوة الصحراء، فيلجأون إلى الحلم بالأشجار وتخيل وجودها للاستمرار على قيد الحياة. وفي "العقاب"، تتمثل السلطة في شخصية العقاب الذي يخشى الناس من التلفظ باسمه وفي مقدميه الذين ينفذون تعليماته، وتقع على أهل البلدة الفقراء الذين لا يعنيهم من وجودهم سوى الخبز والماء وإرضاء الحاكم المحلي وأدواته، وتتمظهر الممارسات السلطوية في القصة في تجميع سكان الأزقة المختلفة في ساحة عامة وشحنهم في حافلات إلى مقر الحاكم للتسبيح بحمده، غير أن فشلهم في تنفيذ المهمة لسبب لا تذكره القصة يجعلهم عرضة للعقاب الأبدي. وهكذا، تقول القصة خلل العلاقة بين الحاكم والمحكوم في فضاء سلطوي، يختلط فيه الواقع بالخيال، والحقيقة بالخرافة.

سلطات متعددة

في "حادثا جنون.. وسرب غربان"، نحن إزاء قصة مزدوجة الحدث لكنها تحيل إلى عدم فهم السلطة الدينية وسوء استخدامها بما يجعل من الدين أداة تخلف بدلاً من أن يكون عامل تقدم، وهو ما يتمظهر في رفض الشاب في البلدة الشمالية عري المستجمين على الشاطئ، ما يفرغ عملية الاستجمام من مضمونها، من جهة. وفي إصرار الفتى في بلدة أصيلة المغربية على قلي "الشورو" بيده القذرة ذات الأظافر السوداء، ورفضه ارتداء القفاز واستخدام الملعقة بذريعة أن ذلك عادات غربية مسيحية، من جهة ثانية. وبذلك، نكون إزاء سوء استخدام السلطة الدينية واتخاذ الدين ذريعة للتخلف. وفي "حلم في ليل صائف"، تتمظهر السلطة في المكان القصصي الذي يقع في "شبه قلعة محصنة بسور"، وفي الرجل الذي يشار إليه بعبارة "صاحبنا" خوفاً، وفي امتثال الأربعة المقيمين في المرآب الكبير لمشيئته وخروجهم في موكب مهيب من مقر إقامتهم حتى إذا ما وصلوا المكان المقصود يتم أمرهم بالعود من حيث أتوا. وبذلك، تقول القصة امتثال الرعية الواضح للسلطة الغامضة، وتعبر عن ذلك في إطار حلمي ناجم عن ابتلاء الراوي بلوثة إصابته جراء إدمانه على قراءة كتاب "العنف في الدماغ" لأحمد المديني. وهنا يتم التداخل بين القصة والحياة، ويحول الكاتب نفسه إلى شخصية قصصية، وهو ما يفعله في غير قصة في المجموعة.

على أن السلطة في "الغث والسمين" تنأى عن السياسة والدين لتتخذ بعداً اجتماعياً يتمظهر في سلطة رب العمل على عماله، والمفارق في هذه القصة التي تنحو منحى غرائبياً هو أن السلطة يمارسها صاحب محل الألبسة البشري على عمال صناعيين، فيجبر "المانيكان" الصناعية المتمنعة، المستخدمة لعرض الثياب، على ممارسة الجنس معه، على مرأى وتشف من زميلاتها الأخريات اللاتي سبقنها إلى ذلك. غير أن عجز التاجر عن ذلك يقلب السحر على الساحر، مما يجعل المانيكان تنتقم منه وتشمخ بأنفها عليه، فيتحول إلى موضع سخرية المارة وقهقهاتهم. وبذلك، يقول المديني في هذه القصة الغرائبية شخوص وأحداث إن السلطة سلاح ذو حدين، وإن سوء استخدامها قد يعود على صاحبها بالويل والثبور. وهو ما نراه في قصة "أأأ نعم سيدي" حين يتحول محدث النعمة الذي يكلف بمهمة سلطوية إلى أداة بيد من كلفه، يفقد القدرة على الرفض والقبول ولا يتقن سوى الخضوع، بعد أن انفض عنه الصحب والإخوان. وبذلك، يدفع ضريبة سوء ممارسة السلطة مرتين بارتهانه لمكلفه، وبانفضاض الأصدقاء عنه.

 الحب والصداقة

 الثيمة الثانية التي تلي الأولى حضوراً هي ثيمة الحب والصداقة، وتشغل أربع قصص في المجموعة، والمفارق أن قصتي الحب تنتهيان بموت الحبيبين أو أحدهما، ففي قصة "ملاكان"، وهي الأولى في المجموعة، يتناول المديني شخصيتين حقيقيتين هما المفكر الفرنسي أندريه ميكل ورفيقته جانين، فيرصدهما في تلازمهما في الحياة والموت، ويوزع النص بطريقة القصيدة، ويعكس الفضاء الرومانسي للعلاقة بين الرفيقين، ما يحقق التناسب بين الشكل الشعري والمضمون الرومانسي. وفي قصة "يحدث كل يوم، ومع ذلك"، توحي مقدمات القصة أن ثمة فعلة مذمومة ارتكبها الزوج، تخفيها الزوجة عن الآخرين، ليتبين في نهايات القصة أن الفعلة المرتكبة هي موته من دون سابق إنذار تاركاً زوجته لوحدتها، مما يجعل الموت عندها نوعاً من الغدر. يستدعي الغضب لأنه تخلى عنها، بعد عِشرة نصف قرن. ويتمظهر التجريب في هذه القصة في تعدد الأصوات القاصة، وتوزعها على الزوجة والزوج والجار، وإن استأثرت الأولى بحصة الأسد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 في المقابل تحظى الصداقة بقصتين اثنتين في المجموعة، والمفارق أن الطرف الآخر في هذه العلاقة هو حمامة في الأولى، وكلب في الثانية. ففي "رقصة فالس مع حمامة"، ثمة حوار بين الراوي المقيم وحيداً في مكتبه الباريسي في الطابق السادس وجارته الحمامة التي ارتجلت عشها في الزاوية الخفية لمدخنة العمارة، هو يشكو الوحدة وهي تغريه بالخروج منه والتحليق، وهو ما يتحقق في نهاية الرواية حين يسقطان معاً من عل، ويهربان من أرض متخمة بالعنف والدمار، وتقوم أسراب حمام بحملهما، فيطيران. هنا أيضاً يتمظهر التجريب في الشكل بتعدد الأصوات القاصة، وفي الفضاء بالجمع بين الواقعي والغرائبي. وهذه القصة تتناص مع قصيدة الشاعر العباسي أبي فراس الحمداني الأسير التي يخاطب فيها جارته الحمامة الطليقة، ويعاتبها لتبادل الأدوار بينهما. أما في "ليل طويل"، فثمة صداقة إلى حد التكامل بين جون الأعمى وكلبه فروان، فيتلازمان في الحل والترحال، ويكمل أحدهما الآخر، ويتبادلان الآراء في ما بينهما. ولا تشذ هذه القصة عن سابقتها في تعدد الأصوات والجمع بين الواقعي والغرائبي.

 سؤال الكتابة

الثيمة الثالثة في "أحدب الرباط" هي ثيمة الكتابة، وتشغل قصتين اثنتين فيها، تمتاز الأولى "إنها تصبن أحسن!" بطرافة عنوانها ومتنها، وتتناول مسألة غسل النصوص الأدبية وتشذيبها وتهذيبها في "مصبنة أدبية"، قبل النشر، قياساً على غسل الثياب في المصبنة المتخصصة. وتمتاز الثانية "لماذا أكتب؟"، وهي الأطول في المجموعة، بأنها قصة مركبة، تفيد من تقنيات الرواية، فتجادل بين ثلاثة أسلاك سردية تتعلق بثلاث شخصيات حقيقية، هي الشاعر العراقي حميد سعيد، والروائي المغربي أحمد المديني، والروائي البريطاني جورج أورويل، وهذه الشخصيات/ الأصوات تتناوب على الظهور في القصة في إطار جدلية الظهور والاختفاء، لتقول تجاربها مع الكتابة، التي تتقاطع في غير نقطة. وبذلك، يحول المديني شخصيات حقيقية تاريخية، بمن فيها نفسه، إلى شخصيات قصصية. وهنا يبلغ التجريب مداه.

ثمة ثيمات أخرى في المجموعة، من قبيل الوحدة وتداعياتها النفسية في "نداء العنقاء"، والعاهة الجسدية التي تنتقل بالعدوى في "أحدب الرباط"، والنسك في "ناسك من الدار البيضاء" التي تتناول حياة القاص المغربي محمد زفزاف وتحولاته بين الأدب والدين.

"أحدب الرباط" تفرد هامشاً واسعاً للتجريب القصصي، وفيها يثبت أحمد المديني مرة جديدة قدرته على التجديد، واجتراح آفاق قصصية مغايرة، تمتع وتؤانس.  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة