Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إيران التي كانت!

استطاع نظام طهران خلال العشرية الثانية من القرن الحالي بناء إستراتيجيته الإقليمية على مفهوم "طوق النار" حول إسرائيل

فلاديمير بوتين مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان على هامش منتدى دولي في عشق آباد (أ ف ب)

ملخص

استقامت العلاقة بين طهران ودمشق على مبدأ توزيع الأدوار بعد مخاض طويل من الصراع بينهما من خلال حلفائهما على الساحة اللبنانية، تمثل في المعارك التي خاضها كل من "حركة أمل" و"حزب الله" ضد بعضهما بعضاً خلال الأعوام الأخيرة من عقد الثمانينيات، وانتهت بالتوافق على أن يكون السياسي لدمشق والعقائدي والمادي والدعم اللوجيستي لإيران.

شكل صيف عام 1991 نقطة تحول في التعامل الإيراني مع قضايا الشرق الأوسط ومنطقة غرب آسيا، فهذه المرحلة كانت بمثابة مرحلة انتقال مصيرية على المستوى العالمي عامة والشرق الأوسط بخاصة، فهي حملت المؤشرات الواضحة على قرب انهيار الاتحاد السوفياتي الذي لم يتأخر إعلان تفكيكه في الـ 28 من ديسمبر (كانون الأول) 1991، وقد سبقه حدثان مفصليان، تمثل الأول في حرب تحرير الكويت أو عاصفة الصحراء في يناير (كانون الثاني) 1991 والتي جاءت لتصحيح الخطأ الذي قام به نظام صدام حسين في العراق مطلع أغسطس (آب) عام 1990 وأدى إلى احتلال الكويت، ثم الثاني حين دفعت الولايات المتحدة نحو عقد "مؤتمر مدريد للسلام" في الـ30 من أكتوبر (تشرين الأول) 1991.

أما لماذا الحديث عن أن هذا التاريخ شكّل نقطة تحول في موقف طهران فمرده إلى أن النظام الإيراني الذي رفع منذ البداية شعار تبني القضية الفلسطينية كقضية محورية للعالم الإسلامي كان يجد صعوبة في الدخول على هذه الساحة واحتلال المساحة التي يرغب فيها، بخاصة أنه لم تمض فترة زمنية طويلة على انتهاء حربه مع العراق التي شكلت عاملاً سلبياً في عملية بناء الثقة بينه وبين الشعوب العربية، وبالتالي وافرت له عملية احتلال الكويت مدخلاً للعمل على إعادة ترميم صورته أمام المستويين الإقليمي والدولي باعتباره دولة معتدى عليها، ثم جاء "مؤتمر مدريد" الذي كان يهدف إلى تأسيس مسار لعملية سلام في الشرق الأوسط تنهي الصراع العربي - الإسرائيلي، ويفتح الطريق أمام الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها.

طهران في تلك المرحلة رأت أن هذا المؤتمر يحمل مؤشرات سلبية قد تجعلها في دائرة المحاصرة والانزواء، بخاصة إذا ما سحبت منها ورقة القضية الفلسطينية، مما دفع بدوائر القرار والدولة العميقة المعنية بالمستوى الإستراتيجي ورسم معادلاته إلى استنفار طاقاتهما وجهودهما لإجهاض "مسار مدريد" الذي سيكون على حساب مصالح طهران ومستقبل دورها في الإقليم.

من هنا يمكن اعتبار حرب الأيام السبعة أو "عملية تصفية الحساب"، بحسب التسمية الإسرائيلية، والتي وقعت بين "حزب الله" وإسرائيل في يوليو (تموز) عام 1993 أولى المؤشرات العملية على الدخول الجدي لطهران على خط المعادلات الإقليمية، ومحاولتها تأكيد صعوبة تمرير أي حل إقليمي يستثنيها أو لا يأخذ مصالحها بعين الاعتبار، وقد تعززت هذه المخاوف بعد الكشف عن المسار التفاوضي السري الذي قادته منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل، والذي انتهى بتوقيع "اتفاق أوسلو" في سبتمبر (أيلول) 1993، ثم جاءت حرب عام 1996 المعروفة إسرائيلياً بـ "عملية عناقيد الغضب" لتأكيد إصرار طهران على رفضها أي حلول من خارجها أو على حسابها وحساب حلفائها، وقد استطاعت بالتنسيق مع سوريا أن تفرض معادلة ردع مبدئية بين تل أبيب و"حزب الله"، أو ما عرف بـ "اتفاق نيسان" الذي ضمن حق الرد لكل طرف في مواجهة أية خروقات، بخاصة تلك التي تطاول أو تستهدف المدنيين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأمام هذه التحديات التي فرضتها المستجدات السياسية والإستراتيجية التي تقودها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والتي انطلقت على أساس أنها باتت القوة المهيمنة والمسيطرة على عالم "أحادي القطب"، لجأت طهران ونظامها إلى إعادة تعريف دور القوى والفصائل المتحالفة معها والموالية لها في الإقليم، بخاصة بعد أن استطاعت في "اتفاق نيسان" فرض حليفها اللبناني كلاعب أساس في المعادلة اللبنانية أمنياً وسياسياً وعسكرياً، وهذا الدور الذي سعت طهران إلى بنائه في الإقليم كان يقوم على أركان أو عناصر ثلاثة، الأول تحالف غير واضح المعالم مع النظام السوري بقيادة الرئيس السابق حافظ الأسد الذي شارك في مدريد، وقد استقامت العلاقة بين طهران ودمشق على مبدأ توزيع الأدوار بعد مخاض طويل من الصراع بينهما من خلال حلفائهما على الساحة اللبنانية، تمثل في المعارك التي خاضها كل من "حركة أمل" و"حزب الله" ضد بعضهما بعضاً خلال الأعوام الأخيرة من عقد الثمانينيات، وهي المعارك التي كانت ترجمة للصراع بين القرار السوري في مواجهة القرار الإيراني على الساحة اللبنانية، وانتهت بالتوافق على أن يكون السياسي لدمشق والعقائدي والمادي والدعم اللوجيستي لإيران.

أما العنصر الثاني فمثّله "حزب الله" الذي نشأ عام 1983 تحت رعايتها، ودعمته في إطار مشروعها لبناء مناطق نفوذ لها خارج حدودها انطلاقاً من بعد عقائدي أيديولوجي ينسجم مع شعار الدفاع عن القضية الفلسطينية وجهود الجماعة اللبنانية في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الذي نتج من اجتياح لبنان عام 1982، إضافة إلى العامل الثالث الذي مثلته "حركة الجهاد الإسلامي" التي تأسست عام 1981 داخل الوسط الفلسطيني على نصاب متصالح عقائدياً وأيديولوجياً من الرؤية الإيرانية، وهي الحركة التي كانت تتملس حينها مكاناً لها داخل المعادلة الفلسطينية من دون أن تشكل ثقلاً يملك تأثيراً واضحاً أو كبيراً، بخاصة أن خيوط العلاقة بين طهران و"حركة حماس" التي تأسست عام 1987 لم تكن قد نُسجت بعد، لجهة أن طهران لم تكن واثقة من توجهات هذه الحركة، فضلاً عن طبيعتها الإخوانية والاختلاف العقائدي الذي يميزها عن التوجه الإيراني.

هذه التطورات والتي أضيف إليها الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان أو تحرير الجنوب عام 2000، دفعت طهران إلى تطوير نظرتها الإستراتيجية للمنطقة، بخاصة أن هذا التحرير تزامن مع رحيل الرئيس السوري حافظ الأسد عن المشهد السياسي الإقليمي والدولي، وتولي نجله بشار القيادة في سوريا، وما يمثله ذلك من تغيير في المعادلة التي كانت تحمل الطرفين، والتي كانت فيها سوريا زمن الأب تمثل حاجة إلى طهران، وتحولت طهران حاجة إلى سوريا في زمن الابن.

الخطوات الأولى التي تبلورت لدى القيادة الإيرانية في تعاملها مع الإقليم قامت على تعزيز الحضور العسكري لحلفائها في سوريا ولبنان، وتعميق علاقاتها مع الفصائل الفلسطينية الناشطة في الداخل لتكون قادرة على تشكيل دول ومناطق طوق في المحيط الجغرافي لإسرائيل، وأخذت هذه الإستراتيجية دفعاً كبيراً بعد الاحتلال الأميركي للعراق وإسقاط النظام البعثي فيها، بخاصة في ظل الأداء الأميركي الذي انتهى إلى تعزيز النفوذ الإيراني على هذه الساحة وضمها إلى المجال الحيوي الذي تسعى إلى بنائه وإقامته في الإقليم، والذي أخذ شكله الأكثر تكاملاً بعد تشكيل "الحشد الشعبي" عام 2014 عقب ظهور تنظيم "داعش" في الإقليم، وهو التنظيم الذي ساعد طهران في تعزيز قبضتها على الساحة السورية ونظامها.

وقبل ظهور الفاعل اليمني ضمن المجال الحيوي الإيراني يمكن القول إن النظام الإيراني استطاع خلال العشرية الثانية من القرن الحالي بناء إستراتيجيته الإقليمية التي كان يقودها ويشرف عليها قائد قوة القدس قاسم سليماني، والتي كانت تقوم على مفهوم "طوق النار" حول إسرائيل لمنعها من التفكير في استهداف إيران، وإلهائها في محطيها لمنعها من الانتقال إلى استهدافها مباشرة، وهذا ما يسفر عنه بوضوح الموقف الذي أعلنه المرشد الإيراني من الحرب في سوريا عندما اعتبر أن الدفاع عن دمشق هو دفاع عن طهران.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء