ملخص
هنالك أكثر من سيناريو علمي عن نهاية الكون بالانكماش الكبير والتجمد العظيم، وفق قوانين الديناميكا الحرارية. وخالف اثنان من العلماء تلك الرؤى وترسما نهاية الكون بالتجمد المتطاول الذي يسببه ظهور ما سموه الطاقة المظلمة الهولوغرافية، وهي تذوي معه أيضاً
"التجمد العظيم" Big Freeze للكون ويضاف إليه تباطؤ مديد تظلله برودة جليدية متطاولة في الزمن، تشل حركته كلها. بهذه الكلمات المحملة بالبطء والبرودة، اختار بول سوتر البروفيسور في علم الفلك والكاتب العلمي النيويوركي أن يعنون مقاله في موقع "لايف ساينس" Live Science، وقد نشر بالأمس، عن دراسة قدمت منظوراً علمياً جديداً عن نهاية الكون ببرود تستمر آجالاً، وسمياها "التجمد الطويل" Long Freeze.
ولم تحمل خاتمة مقال سوتر سوى مزيد من البرودة الفائقة المشبعة بجمود مميت. وقد جاء فيها، "لا يحمل سيناريو "التجمد الطويل"، أي شيء زاهٍ. ومع توقف الكون عن التوسع، يتوقف حصول كل أشكال المادة فيه على أي طاقة جديدة. وتدريجاً، تخبو النجوم ثم تنطفئ وتتآكل، وتتفكك كل ذرات من دواخلها، وتتباعد مكوناتها عن بعضها بعضاً وتتناثر وتذوي في البرودة الهائلة المديدة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ألا تبدو تلك الكلمات كأنها صورة معكوسة عن بداية الكون بـ"الانفجار العظيم" أو "بيغ بانغ" Big Bang، إذ انفجار حراري هائل ينثر مكونات نووية وذرية تتوسع بسرعة هائلة، قبل أن تتجمع في جسيمات ثم ذرات وجزيئات كي تشكل المادة التي ترتصف كي تكون النجوم والكواكب والنيازك وغيرها؟
الكون المسطح
وليس القول بنهاية الكون أمراً جديداً على العلم الحديث. بالأحرى، هنالك سيناريوهات عديدة جداً، ومتبدلة باستمرار، عن ذلك الحدث الختامي.
في المقابل تناول البروفيسور سوتر نظرية علمية جديدة أعلنها اثنان من علماء الفلك وشرحاها في بحث وضعاه في آخر سبتمبر (أيلول) الماضي على موقع "آركايف" arXiv، الذي يمثل أرشيفاً علمياً ضخماً مفتوح المصدر على الإنترنت. وبحسب مقال سوتر، فقد خالفا في تلك النظرية أشياء أساسية في مفاهيم الفيزياء الحديثة عن الكون، خصوصاً أنه ثلاثي الأبعاد، وذلك بأن فكروا فيه ككون مسطح ثنائي الأبعاد!
وتوضيحاً، بات شائعاً الإشارة إلى الكون باعتباره رباعي الأبعاد، مع الإشارة إلى أن الزمن يشكل رابع الأبعاد هذه. ويسند ذلك إلى نظرية النسبية التي وضعها العالم الشهير ألبرت أينشتاين. وعلى رغم الصحة الإجمالية لذلك الوصف، إلا أن التدقيق يقتضي القول إن أينشتاين لم ينظر إلى الزمن كبعد منفصل مستقل كحال الطول والعرض والارتفاع مثلاً. بالأحرى، جعل أينشتاين الزمن جزءاً "منبثاً" في ثنايا المكان، ولذا كرر استخدام مصطلح "مركب الزمان - المكان" Space Time Complex كإشارة إلى مفهومة لتركيبة الأبعاد الأربعة للكون، أو بالأحرى الثلاثية التي "ينبث" البعد الرابع فيها. قد يبدو ذلك مخالفاً لتصورات شائعة كثيرة، لكنه توضيح ضروري. وفي أحيان كثيرة، يتحدث علماء الفلك عن الأبعاد الثلاثة باعتبارها أربعة بالضرورة، لكن رابعها منطوٍ فيها.
وووفق سوتر، في البحث الجديد، ذهب العالمان في دراستهما خطوة أبعد، فاعتبرا الكون مسطحاً، والبعد الثالث للفضاء الكوني [وليس للفضاء العادي الذي نعايشه] كناية عن انطباع غير دقيق. وأرجعوا ذلك الأمر إلى وجود قوى كمومية Quantum Forces [غير تقليدية ولا ينطبق عليها وصف القوى بالمعنى الذي نعرفه]، تعطي الفضاء الكوني ذلك انطباعاً بوجود أشياء كالجاذبية والأبعاد الثلاثية!
[ربما يفيد الإشارة إلى أن بعض العلماء يعدون الجاذبية، وهي قوة "تقليدية" معروفة، بوصفها نموذجاً عن القوة الكمومية، لأسباب يضيق المقال عن شرحها].
مادة وطاقة مظلمتان ومتنافرتان
وبحسب سوتر، استطرد العالمان في دراستهما تلك إلى صوغ نظرية جديدة عن نهاية توسع ذلك الكون المسطح، وسيره بتباطؤ إلى نهاية الموت الثلجي، بسبب تأثيرات مرجعها من نوع معين الطاقة المظلمة.
ووفق سوتر، يترافق ذلك التباطؤ المتبارد المتطاول مع ذواء كل أشكال المادة، سواء التقليدية التي نعرفها جميعاً المؤلفة من تجمع ذرات، أو تلك المظلمة.
وتوضيحاً، تعرف المادة المظلمة Dark Matter بأنها تلك التي لا تراها العين البشرية ولا أدوات القياس العلمية، لأنها لا تتفاعل مع الضوء (فلا ترى) ولا تتجاوب مع كل أنواع الطاقة المعروفة في الكون، على غرار الموجات الكهرومغناطيسية. ويسود شبه إجماع علمي على أنها تملك طاقة جاذبية مؤثرة، وأنها منتشرة في الكون، بالتالي فإنها قوة تشد أرجاء الكون إلى بعضه البعض، وتعاكس القوى التي تدفع كوننا إلى التوسع.
وكذلك يعرف عن الكون أنه يتوسع باطراد، لأسباب متعددة تشمل وجود قوة تسمى "الطاقة المظلمة" Dark Energy تعمل على المباعدة بين أرجاء الكون. وبقول آخر، كأن هنالك نوعاً من التوازن الديناميكي (أي أنه غير ثابت) بين المادة المظلمة والطاقة المظلمة، يسهم في ضبط إيقاع ظاهرة التوسع الكوني، مع الإشارة إلى أن سرعة ذلك التوسع متبدلة ولم يحسم أمر معرفتها علمياً حتى الآن.
واستكمالاً، أشار سوتر إلى أن الطاقة المظلمة تشكل نحو 70 في المئة من كل طاقة الكون، مشيراً إلى أن توسع الكون يخفض كمية المادتين التقليدية والمظلمة فيه، لأن نظرية "الانفجار العظيم" [وكذلك نظريات ألبرت أينشتاين] تورد أن الطاقة "تبرد" فتكون المادة، بالتالي، مع خفض إجمالي الطاقة في الكون، تقل كمية المادة بنوعيها فيه.
طاقة مظلمة مجسدة هولوغرافية
ومع حدوث تلك التخفيضات في المادة والطاقة بكل أنواعها في الكون كله، وفق شرح سوتر للنظرية الجديدة، يتسيد المشهدية الكونية نوع جديد من الطاقة أعطته دراسة العالمين المشار إليها آنفاً صفة التجسيم الضوئي المعروف باسم "هولوغراف" Holograph، فصار اسمها المادة المظلمة الهولوغرافية Holographic Dark Energy.
ويشير سوتر إلى أن إيلاء النظرية الجديدة أهمية قصوى في حساباتها للطاقة المظلمة الهولوغرافية، أتاح لها هامش مكنها من النأي عن احتساب تأثير المادة المتضائلة بشدة، وفق رأيهما. بالتالي، فقد تركزت نتائج دراستهما على التأثيرات البعيدة المدى لصعود الطاقة المظلمة الهولوغرافية. وكذلك ارتأيا أنها، في خاتمة المطاف، ستحرم كل ذرات المادة بنوعيها من كل طاقة ممكنة، فتنعدم حركتها في ظل كون يسير باطراد نحو التوقف عن التوسع، فيتجمد ضمن حدود ثابتة. ويشمل ذلك التباطؤ المتبارد المتطاول حتى الطاقة المظلمة الهولوغرافية نفسها، فتسير وئيداً إلى تخافت واختفاء، فيما يسير "الزمن" بالكون إلى برودة تفككه وترسم نهاية ثلجية مميتة له.
وأشار سوتر إلى أن هذا السيناريو يختصر بـ"التجمد الطويل" Long Freeze، الذي يعاكس "التجمد العظيم" الذي توقعته قوانين الديناميكا الحرارية Laws of Thermodynamics الشهيرة، خصوصاً منذ القرن الـ20.
لكن، أليس مثيراً ان أينشتاين قد رأى أصلاً أن الكون ثابت وله حدود معينة بدقة، ولم يدخل في تصوراته مسألة توسع الكون إلا ببراهين قدمها له عالم الفلك الشهير إدوين هابل؟ وآنذاك، وصف أينشتاين مفهومه عن ثبات الكون بأنه "أكبر خطأ" ارتكبه في حياته، فهل إن ذلك لم يكن سوى خطأ نسبي؟ لعل لذلك نقاش آخر.