ملخص
نبه معهد "بروكينغز" الأميركي، صنّاع السياسة الأميركيين والغربيين إلى خطورة سياسة الاستخفاف بمجموعة "بريكس"، على الأقل بسبب الرمزية السياسية المحيطة بالاجتماع.
أثارت نبرة التحدي في كلمات زعماء مجموعة "بريكس" خلال قمتهم التي عقدت على مدار يومين في مدينة قازان الروسية، التساؤلات حول مدى عزم التكتل وقدرته الحقيقة على إعلان النهاية للهيمنة الغربية والقيادة الأميركية المنفردة للنظام العالمي، وبداية حقبة جديدة نحو قطبية متعددة في النسق الدولي. ووسط حال من السخط العام على سياسة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على المسرح الدولي، تمحورت مواقف الدول المشاركة تحت مظلة "بريكس" حول الدعوة إلى تعزيز التعاون متعدد الأطراف، وإعلاء صوت الدول النامية ومصالحها، بما أعاد لأذهان الاستراتيجيين مرحلة سياسات وتكيتيات الحرب الباردة، تحت شعار التعددية والعدالة.
المجموعة التي تمثل حالياً 45 في المئة من سكان العالم و35 في المئة من الاقتصاد العالمي، أعلنت الموافقة على انضمام 10 "دول شريكة" جديدة في البيان الختامي للقمة، في وقت عدّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن قمة دول مجموعة بريكس تشهد تشكيل "نظام عالمي متعدد الأقطاب"، مبرزاً رغبة موسكو في مواجهة "الهيمنة" الغربية، مشيراً إلى أن "مسار تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب جارٍ حالياً، وهو مسار دينامي ولا رجعة فيه"، ومتفاخراً بأن أكثر من 30 دولة أبدت رغبتها في الانضمام إلى المجموعة.
هذا الحدث الذي ينظر إليه أنصار النظام العالمي المتعدد القطبية على أنه بمثابة إنهاء لعصر الهيمنة والاستغلال الاقتصادي وانطلاق لمرحلة "ما بعد أميركا" الأكثر عدالة وازدهاراً، يراه البعض الآخر بمثابة تعميق للانقسامات الدولية وتكثيف للتنافس الجيوسياسي ومضاعفة لشلل القيادة الفعّالة للتعاون الدولي. لكن الاتفاق يبدو واضحاً في شأن ما يثيره هذا الاستقطاب من قلق يهز عرش الأحادية القطبية الأميركية.
قلق أميركي من قمة قازان
الصحف ومراكز التفكير والأبحاث الغربية سلطت الضوء على مدى القلق الغربي من إعادة تشكيل النظام الدولي بعيداً من الهيمنة الغربية، باعتبار أن قمة تجمع "بريكس" تشكل محطة أساسية في عملية تحول تاريخي بعيدة المدى، وربما تعد لحظة تسارع للتحولات القائمة بسبب الأحداث الاستثنائية التي شهدها العالم على مدار السنوات الأربع الماضية من العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، وأبرزها جائحة كورونا في عام 2020، والحرب الروسية في أوكرانيا منذ عام 2022، وعملية "طوفان الأقصى" في 2023، والحرب الإسرائيلية المتواصلة في غزة ولبنان ونقاط أخرى من خريطة الشرق الأوسط حتى خريف العام الحالي.
وعلى رغم تركيز التحليلات على بحث روسيا عن التغلب على العزلة الدولية الغربية والعقوبات المفروضة عليها بسبب "حرب بوتين" في أوكرانيا، من خلال سعيه إلى استقطاب شركاء، مثل الصين وإيران، المهتمَين بإنهاء هيمنة الولايات المتحدة على النظام المالي الدولي، لكن كثيراً من المعلقين الغربيين تنبهوا إلى خطورة "الاختراق" الذي حققه رجل "كي جي بي" السابق (جهاز الاستخبارات السوفياتي) سيد الكرملين من خلال استقطاب عدد لا بأس به من حلفاء الولايات المتحدة إلى قمة قازان وفي مقدمتهم تركيا، الدولة الوحيدة العضو في حلف شمال الأطلسي "ناتو" التي حضر زعيمها رجب طيب أردوغان الاجتماعات، فضلاً عن دول أعضاء بـ"مجموعة العشرين".
ولم يتوقف الأمر على تعليقات الصحف الأميركية. وتعقيباً على القمة السنوية لمجموعة "بريكس"، قال نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، فيدانت باتيل، الأربعاء، إن واشنطن تعتقد أن كل الدول هي دول ذات سيادة ولها حرية الاختيار وتتخذ قراراتها الخاصة بشأن الدول والمجموعات التي ترتبط بها، لافتاً إلى أن ما تركز عليه بلاده والنهج الذي تتبعه في كل ما يتعلق بالسياسة الخارجية والدبلوماسية هو "التركيز على العمل مع الشركاء في مختلف أنحاء العالم لبناء أوسع وأعمق تحالفات ممكنة للمساعدة في تحقيق أهدافنا المشتركة"، مضيفاً "سنواصل العمل ونحافظ على علاقات قوية وإيجابية مع البرازيل وجنوب أفريقيا والهند. ونحن نعمل على المستوى الثنائي مع هذه البلدان في عدد من المجالات الرئيسة، وهي مجالات نعتقد بصراحة أنها ستستمر في تحديد ملامح القرن الحادي والعشرين".
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لم يحضر قمة "بريكس" العام الماضي، بعد صدور مذكرة اعتقال وتوقيف من المحكمة الجنائية الدولية بحقه بتهمة ارتكاب جرائم حرب، أظهر أن موسكو بعيدة كل البعد من العزلة الدولية، وأكد خلال كلمته يوم الأربعاء (23 أكتوبر) أن التحول نحو "نظام عالمي متعدد الأقطاب" قد بدأ بالفعل، معتبراً إن "عملية لا رجعة فيها" جارية، الأمر الذي عده معلقون غربيون "انتصاراً واضحاً" للكرملين الذي تمكن من استضافة زعيمي البلدين الغريمين، الصين والهند، في قازان في أول لقاء يجمع الرئيس الصيني شي جينبينغ، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، رسمياً منذ أكثر من خمس سنوات، بحسب ما ذكر تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، التي اعتبرت أيضاً أن أنقرة تعتقد من خلال مشاركتها واهتمامها بالانضمام إلى "بريكس" مستقبلاً، أن النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة في حالة انحدار وتريد البقاء في عالم متعدد الأقطاب من خلال وضع قدم في كل معسكر.
ويقرأ عمرو الديب، مدير مركز خبراء "رياليست" الروسي، الأستاذ المساعد بالأكاديمية الرئاسية الروسية، "تنامي دور مجموعة بريكس وانضمام دول أعضاء جدد لها ما يمكن أن يشكل خطورة على النظام العالمي القائم ودور الولايات المتحدة في هذا النظام، ولكن لا يجب تضخيم دور هذه المجموعة"، معتبراً أن "بريكس" "خطوة وبداية على الطريق الصحيح، بدأت بفكرة في نهاية التسعينيات بتشكيل مثلث استراتيجي بين الهند وروسيا والصين، وبدأت بشكل رسمي عبر ضم جنوب أفريقيا والبرازيل، لتشكل بريكس، وشرعت في تطوير العمل داخل المجموعة وصولاً إلى زيادة العضوية إلى 10 أعضاء، في سبيل إعادة تشكيل النظام العالمي الحالي بقيادة الولايات المتحدة".
وعلى خلاف الصحف الأميركية التي أبرزت مكاسب موسكو من القمة، تذهب صحيفة "لوموند" الباريسية، إلى أن "الصين تدفع نحو توسيع مجموعة البريكس لإضفاء الشرعية على رؤيتها لنظام عالمي جديد"، موضحةً أن بكين تعمل من خلال مجموعة "بريكس" والمنظمات الدولية الأخرى التي تهيمن عليها، على تعزيز علاقاتها مع دول "الجنوب العالمي"، وعرضت بديلاً للنظام العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، مشيرةً إلى أن ذلك "يبدو من خلال تكتلات الدول المشاركة بقمم بريكس من الدول التي انضمت إلى مبادرة الحزام والطريق، ودول آسيا الوسطى التي اتحدت مع موسكو وبكين لتشكيل منظمة شنغهاي للتعاون، ومنتدى التعاون الصيني الأفريقي". وتتابع "لوموند" أن "القضايا الخلافية بين الدول المشاركة تُترك عند الباب، وينتهي الاجتماع ببيان يدعو إلى نظام عالمي جديد أكثر تمثيلاً وعدالة، والولايات المتحدة غائبة، والصين هي دائماً القوة المهيمنة".
البحث عن صفقات جيوسياسية
اتجاه آخر في قراءة المشهد يذهب إلى أن العديد من الدول التي تسعى للموازنة في علاقتها بين الشرق والغرب، ربما تبحث عن صفقة جيوسياسية أفضل مع الغرب نفسه، وتحسين شروط العلاقات مع واشنطن، من خلال التلويح بمزيد من التوجه شرقاً، ووفقاً لهذا التفسير فإن الرئيس التركي أردوغان حتى لو لم يتلق دعوة للعضوية الكاملة، فإنه يريد "إخافة" حلفاء تركيا الغربيين بما يكفي لإعادة ضبط العلاقات مع الغرب، وعليه، تصبح مجموعة "بريكس" أداة مفيدة في إحداث ذلك.
كما تسعى دول نامية إلى البحث عن الفائدة التمويلية المباشرة من التكتل، لعمليات التنمية وبخاصة من خلال بنك التنمية الجديد، الذراع المالية لـ "بريكس"، ففي هذا السياق أشار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في كلمته بالجلسة الرئيسة للقمة يوم الأربعاء، تحت عنوان "تعزيز النظام المتعدد من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين"، إلى أن "القصور الذى يعاني منه النظام الدولي الحالي لا يقتصر فقط على القضايا السياسية والأمنية، بل يمتد إلى الموضوعات الاقتصادية والتنموية، حيث تعاني الدول النامية من تصاعد إشكالية الديون، وعدم توافر التمويل اللازم، لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، فضلاً عن ارتفاع تكلفة التمويل والاقتراض. ومن هذا المنطلق، تولي مصر أولوية كبرى لاتخاذ خطوات ملموسة، تضمن اضطلاع المجتمع الدولي بدوره، في توفير التمويل الميسر لتحقيق التنمية في الدول النامية، عبر استحداث آليات مبتكرة وفعالة لتمويل التنمية، وآليات شاملة لضمان الإدارة المستدامة لديون الدول النامية".
وعلى رغم سعي "بريكس" ظاهرياً لتحدي النظام الدولي الذي تهيمن عليه واشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبخاصة مع دعوة الدول الأعضاء والمشاركين في القمة إلى توسيع عضوية مجلس الأمن الدولي للتغلب على الفيتو الأميركي، إلا أن القمة شهدت تأكيداً على تمسك الدول بمنظومة الأمم المتحدة، والبحث عن مكاسب جزئية في سباقات جيوسياسية تكتيكية أخرى.
ويرى الباحث المتخصص في الشؤون الدولية والاستراتيجية، المستشار السابق بالأمم المتحدة، أنس القصاص، أنه "على رغم ما حققته بكين وموسكو في السباقات الثنائية مع الولايات المتحدة، لكنهما فشلتا حتى اليوم في اجتذاب شرعية لكيان دولي يعمل كأداة للشرعية الدولية منافسة لمنظومة الأمم المتحدة. فلا يزال إطار بريكس أو وإطار شانغهاي أبعد كثيراً عن تلك الغاية، بل وحتى عن تحقيق المشروعية الدولية بعيداً من قدرة بكين وموسكو عن الفعل الدولي".
وينظر القصاص إلى قمة "بريكس" الحالية على أنها "تأتي وسط سياق دولي بالغ الخطورة وخصوصاً مع تنامي الرغبة في تغيير قواعد النظام الدولي حيث تقود الصين وروسيا سباقاً محموماً مع الولايات المتحدة لإحداث جلبة حول تلك القواعد، وفي الحقيقة يحققان مكاسب كبيرة يوماً تلو آخر، في ظل عدم قدرة على الفعل الجاد من قبل واشنطن بسبب عام الانتخابات وحرب غزة التي خصمت كثيراً من شرعية واشنطن والنظام الدولي وقواعده. لكن المخرجات التي نتجت من القمة الحالية وخصوصاً إعلان العملة الموحدة لهو أمر جدير بالانتباه لكن يجب إحداث قفزة كبيرة حتى يمكن بلورة نتائج من هذه الخطوات المعلنة، لا سيما وأن مجموعة البريكس لا تزال حتى الآن إطاراً مصلحياً تكتيكياً غير متجانس العضوية أقرب للمنتدى منه إلى الشراكة أو حتى التحالف"، وفقاً للباحث الذي يفترض أنه "إذا أردنا إحداث مقارنة للبريكس مع كيان شبيه في المنظومة الغربية فيمكن أن يكون ذلك الكيان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أو حتى حلف فيشغراد ولكنها ليست حتماً الأمم المتحدة أو حلف الناتو حتى هذه اللحظة. ولكي تصل إلى تلك النقطة أمامها مسار طويل يجب أن تكون فيه أكثر تجانساً وقدرة على طرح بديل لنظام دولي جديد".
وعلى رغم الجوهر الاقتصادي والمصلحي المحدد لإطار التعاون داخل المجموعة، يعتقد الباحث عمرو الديب أن "الاقتصاد هو المحرك الأساس لكل العمليات السياسية والاستراتيجية للقوى الدولية، ويبدو أن هذه المجموعة ستنتهي بتشكيل حلف أكثر صلابة وأكثر موثوقية"، مضيفاً "لا أستبعد خلال السنوات القليلة المقبلة أن يتحول البريكس إلى حلف عسكري بشكل أو بآخر، ولكن لا تزال أمام هذا التحول مراحل عدة، وإذا لم تتحرك واشنطن وحلفاؤها لإفشال مساعي هذه المجموعة سنكون أمام ولادة لحلف قوي سينهي النظام العالمي القائم، ونجاح القمة الأخيرة ومشاركة عشرين زعيم دولة في قازان، يمثل نجاحاً لموسكو وإثباتاً أنها لا تقف وحيدة، وهناك دول كبرى ومؤثرة في النظام الدولي كالصين والهند والسعودية ومصر والإمارات وجنوب أفريقيا والبرازيل وتركيا العضو في حلف شمال الأطلسي، ولكن يستلزم هذا الإنجاز كثيراً من العمل المشترك لكي يكون لهذه المجموعة دور حيوي على الساحة الدولية، وعلى رأسهم الصين والهند وروسيا، بما يسهم في تسريع وتيرة تأثير وإسهام هذه المجموعة على الساحة الدولية، وبخاصة الدول التي سئمت من سياسة واشنطن وازدواجية معاييرها وتدخلاتها والرغبة المشتركة في تشكيل نظام عالمي يسوده العدل واحترام القوانين الدولية".
خطورة الاستخفاف الغربي بـ"بريكس"
إلى ذلك، نبه معهد "بروكينغز" الأميركي، صنّاع السياسة الأميركيين والغربيين إلى خطورة سياسة الاستخفاف بمجموعة "بريكس"، على الأقل بسبب الرمزية السياسية المحيطة بالاجتماع، "فمَن كان ليتصور أنه بعد عامين ونصف العام فقط من غزوه الوحشي لأوكرانيا، سيستضيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قمة يحضرها العشرات، بما في ذلك شركاء الولايات المتحدة مثل مصر وحليف في الناتو تركيا، التي أعربت أخيراً عن اهتمامها بعضوية المجموعة؟".
وأوضح المعهد في تقرير أنه لسنوات، رفض صنّاع السياسات الغربيون إلى حد كبير مجموعة "بريكس" باعتبارها "مجرد مجموعة تقوم على الضجيج أكثر من الطحين. ففي نهاية المطاف، كانت المجموعة تهدف منذ فترة طويلة إلى خلق بديل للهيمنة الغربية في النظام المالي العالمي وفشلت. فلم تقم مجموعة بريكس بإعادة كتابة قواعد التجارة الدولية، ولم تتجسد عملة البريكس المشتركة، ولم تتمكن أنظمة الدفع البديلة بعد من إضعاف هيمنة الدولار الأميركي على المستوى العالمي".
ويذهب معدو التقرير من خبراء "بروكينغز" إلى أن مثل هذا الاجتماع يشير في الأساس إلى تحول في السياسة العالمية واستياء من الدور الأميركي في العالم، وهو ما ينبغي أن يثير قلق واشنطن، لأن مجموعة "بريكس" لا تمثل مجرد تفتيت للنظام الدولي، بل إنها تجسد الاستياء المتزايد بين القوى المتوسطة تجاه النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. وفي أعقاب الحرب في غزة، نجحت روسيا والصين في تسخير هذه المشاعر المعادية للغرب على نحو أكثر فعالية، مستغلتين الإحباطات إزاء المعايير المزدوجة الغربية فضلاً عن استخدام العقوبات والإكراه الاقتصادي من جانب الغرب. وهذا لا يعني أن القوى المتوسطة تريد مقايضة الهيمنة الأميركية بالهيمنة الصينية، ولكنه يعني أنها منفتحة على التحالف مع روسيا والصين من أجل عالم أكثر تفتتاً واستقلالية.
ويوصي "بروكينغز" بألا تتجاهل واشنطن مجموعة "بريكس"، بالقول إن الولايات المتحدة لا بد "أن تركز على تنشيط مجموعة العشرين وعلى تقديم شراكات ذات مغزى للقوى المتوسطة الرئيسة مثل تركيا والبرازيل والسعودية. إن مجموعة البريكس ليست السبب بل هي مؤشر على التمرد العالمي (على سياسات واشنطن)".
ووفقاً لتقدير لمركز "كارنيغي" الأميركي، فإنه بالنسبة لبعض الناس في الغرب، يشير ظهور مجموعة "بريكس+" إلى شيء أكثر شؤماً، "عالم يتفتت إلى كتل متنافسة، وذلك بفضل تكثيف التنافس الجيوسياسي بين الشرق والغرب وتنامي الاغتراب المتبادل بين الشمال والجنوب. إن هذا التفسير يشير إلى أن بكين وموسكو عازمتان على استغلال استياء بعض البلدان من الولايات المتحدة وحلفائها الأثرياء في العالم لتعزيز ثقل موازن معادٍ للغرب في مواجهة مجموعة الدول السبع الموقرة، وهي العملية التي من المرجح أن تشل التعاون العالمي داخل المحافل المتعددة الأطراف الأخرى. ومن بين الأمور المثيرة للقلق بشكل خاص مستقبل مجموعة العشرين. فحتى قبل توسع مجموعة البريكس، أصبحت مجموعة العشرين عبارة عن عينة صغيرة من الانقسامات العالمية المتنامية. ومن شأن المزيد من التصلب في هذه الانقسامات أن يقوض السبب الأساس لوجود مجموعة العشرين: ألا وهو المساعدة في سد الفجوات بين البلدان المهمة التي لا تتفق معها في الرأي بطبيعتها أو بالضرورة والاستفادة من قدراتها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تلبية تطلعات القوى المتوسطة
إيمان زهران، أستاذة العلاقات الدولية، ترى أن ثمة سياقات نوعية داعمة لتعزيز "مكانة البريكس" كأحد أهم التكتلات الاقتصادية بالخريطة الدولية، أبرزها ما آلت إليه حركة العولمة وما تلاها من ركود الاقتصاد العالمي جراء العديد من الاضطرابات غير التقليدية، وفي مقدمتها جائحة كورونا. وهو ما دفع بدول تجمع "بريكس" لبناء تفاهمات مشتركة لمواجهة التحديات الجديدة التي أثارتها الأزمات بشكل أفضل، وكذلك الرغبة في هيكلة نظام اقتصادي دولي أكثر عدلاً، من شأنه أن يلبي تطلعات البلدان النامية والصاعدة بشكل أفضل.
وعلى رغم وصف بعض المراقبين لحضور بعض حلفاء واشنطن قمة قازان بـ"التوجهات المزدوجة لأعضاء بريكس"، يرى بعضهم أن هذا التوازن يمثل رغبة في تحقيق الاستقلالية في السياسة الخارجية والقرارات والتوجهات الاستراتيجية لتلك القوى التي تنتمي في الغالب إلى ما بات يُعرف بالقوى المتوسطة في ميزان قوى النظام العالمي.
وتستطرد زهران، "ما أفضت إليه الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة وما تلاها في لبنان وتنامي فرص التصعيد بالشرق الأوسط، فضلاً عن استمرار الحرب الروسية- الأوكرانية من أولوية الدول النامية والصاعدة لمراجعة أوجه التحالفات الاقتصادية والتنموية، وهو ما انعكس على ما يُعرف بـ"التوجهات المزدوجة" لدى مجموعة "بريكس" في توسيع نطاقها، ولدى الدول النامية والصاعدة في الانضمام لتجمعات تتسم بالمرونة والتنوع. فعلى سبيل المثال: اقترحت روسيا والصين بدء عملية توسيع مجموعة "بريكس"، حيث انضم إلى مشاورات "بريكس+" ممثلون عن الأرجنتين ومصر وإندونيسيا وكازاخستان ونيجيريا والإمارات والسعودية والسنغال وتايلاند. وهو ما انعكس على مخرجات "قمة بريكس" وما أفضت إليه من قرارات من شأنها توسيع العضوية لتضم ست دول جديدة كأعضاء دائمين في "بريكس" بدءاً من يناير (كانون الثاني) 2024، من بينهم ثلاث دول عربية، وهي: مصر والسعودية والإمارات، إضافة إلى إيران وإثيوبيا والأرجنتين، مؤسسين بذلك مجموعة "بريكس+".
وتتابع المتحدثة ذاتها أن "الرغبة في إعادة ترتيب خريطة التفاعلات الجيواقتصادية وتقييم أهدافها، وذلك بالنظر إلى التحركات المتباينة للتحلل من هيمنة الدولار في ظل التوجه نحو الحديث عن عملة موحدة لبريكس، يمكن استخدامها في التعاملات الدولية، بما ينعكس مباشرةً على التغير بـ "الخريطة الاقتصادية" والانتقال من الإملاءات الأحادية إلى عالم يتسم بتفاعلات متعددة الأقطاب، فضلاً عن التحرك نحو الاستدارة بميزان القوة من شمال النظام العالمي إلى جنوبه".
ويتفق طه عودة أوغلو، المحلل السياسي المختص في الشؤون التركية والعلاقات الدولية، مع زهران، على "أهمية قمة قازان والقلق الأميركي من توسيع العضوية ورغبة دول كثيرة في المشاركة في هذا التجمع، يعكس ما يدور في أذهان صناع السياسة بالولايات المتحدة، مع إثارة أمور وخطوات تتعلق بالدولار والعملية الموحدة مما يدق ناقوس الخطر في الولايات المتحدة، لكن الوضع السياسي يظل بعيداً من التحول لتكتل مهم وفاعل في الأزمات الدولية، فهو في مسار للبناء على عكس مسار الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. وعلى رغم الضربات التي تتعرض لها سياسة واشنطن خلال الفترة الماضية في أوكرانيا وغزة، لكن لا يمكن القول إن التحول في موازين القوى العالمية بدأ يسحب البساط من تحت أقدام الولايات المتحدة وأن هناك تكتلات مثل "بريكس" يمكن أن تشكل خطراً عليها في المدى القريب، لكنها خطوة مهمة للدول التي تريد الابتعاد من الهيمنة الأميركية وتكون لها قرارات مختلفة بعيدة من سياسة واشنطن خلال العقود الماضية في ما يتعلق بملفات المنطقة السياسية والاقتصادية".
وعدّ عودة أوغلو خطاب الزعماء خلال القمة بمثابة "نموذج أولي لتعددية الأقطاب، وبخاصة كلمة بوتين الذي استضاف أكبر قمة منذ الحرب الروسية- الأوكرانية، بما يظهر أن موسكو غير معزولة عن المنطقة بل لديها شركاء وحلفاء، وتوجه رسالة كبيرة إلى واشنطن والدول التي دعمت أوكرانيا خلال العامين الماضيين، مما يعزز دور الدول الشرق أوسطية كتركيا والدول العربية بما يعطي إشارات واضحة على أن هذه المشاركة العربية- التركية تؤكد رغبة في إعادة تشكيل النظام العالمي من جديد بمشاركة هذه القوى، بخاصة في ظل الخلافات الشائكة بالمنطقة، كالقضية الفلسطينية والأوضاع في سوريا والعراق، التي تبقى في قاعة الانتظار على الأجندة الدولية من دون أي حلول لها".
كوابح تحدي الهيمنة الأميركية
يعتقد مصطفى عيد إبراهيم، خبير الشؤون الدولية، المستشار السابق بوزارة الدفاع الإماراتية، أن "هناك حدوداً واضحة لقدرة بريكس على تحدي الهيمنة الأميركية على النظام العالمي، كما تعمل الولايات المتحدة ومجموعة العشرين على مواجهة الصعود المتنامي للتكتل، في ظل المخاوف من دور التكتل حالياً والقمة الراهنة ومخرجاتها في تشكيل نظام دولي جديد، أو على الأقل الاستفادة من اللحظة الدولية الراهنة في دفع هذه العملية".
ويستكمل إبراهيم "من خلال تحليل مضمون كلمات القادة المشاركين في قمة البريكس 2024 نجد أن هناك اتفاقاً على عدم عدالة النظام المالي والنقدي العالمي الذي تم تأسيسه بموجب اتفاقيات بريتون وودز عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية. واستفادة الولايات المتحدة والدول الغربية من هذا النظام وحدها من دون بقية دول العالم، وهو ما ذكرته مجموعة السبع والسبعين في سبعينيات القرن الماضي، وما زال قائماً حتى الآن. ومن هذا المنطلق أراد الرئيس بوتين بصفته رئيس الدورة الحالية للبريكس أن يوجه رسائل استراتيجية للولايات المتحدة، مفادها أن دول العالم تعاني من هيمنة الولايات المتحدة ومن استغلال هذا النظام لأغراض سياسية لمعاقبة الدول والأنظمة. وأن بوتين يقول عبر قادة العالم إنهم قادرون على تحدي هذه الهيمنة وإنهم في طريقهم إلى تغييره، وإن روسيا الاتحادية لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي ولن تستسلم للعزلة التي تحاول الولايات المتحدة فرضها عليها".
وفي تقدير الخبير بالشؤون الدولية، فإن "الولايات المتحدة ما زالت تحتفظ بالهيمنة على نظام المبادلات والمدفوعات في العالم، وما زال الدولار كعملة احتياطي واستثمارات كبيرة للغاية. حيث بلغت تدفقات رأس المال والسندات وسوق الصرف الأجنبي والمشتقات المالية في يونيو (حزيران) 2023، نحو 715 تريليون دولار مقابل نحو 23-24 تريليون دولار في التجارة العالمية فقط، ونحو 6-7 تريليونات في تجارة الخدمات. لذلك فإن الولايات المتحدة لا تبدي اهتماماً كبيراً بتأثير التجارة البينية بين دول "بريكس". وإن دول "بريكس" ذاتها لديها تحدٍ بإقناع مواطنيها قبل حكوماتها بإمكانية الادخار والاستثمار في عملات غير الدولار لأن هناك فارقاً كبيراً بين التجارة العالمية والمعاملات المالية العالمية. أما في ما يتعلق بـ"مجموعة العشرين" فيجب أن نأخذ في اعتبارنا أن بها أعضاء مشتركين بينها وبين "بريكس"، وعلى رأسها روسيا الاتحادية ذاتها.
وعلى صعيد أدوات "بريكس" لتحدي الهيمنة الأميركية، فإنها تعمل عبر توحيد الجهود في القمة الجارية على إنشاء مبادرة الدفع عبر الحدود لمجموعة "بريكس" (BCBPI)، حيث يستخدم أعضاء المنظمة عملاتهم الوطنية للتجارة، وهو ما يعد إعلاناً لتحدي هيمنة الدولار الأميركي. كما ستنشئ مجموعة "بريكس" بنية أساسية بديلة للمراسلة، للالتفاف على نظام "سويفت" للاتصالات بين البنوك، والذي تشرف عليه الولايات المتحدة ويخضع لعقوبات غربية أحادية الجانب. وسيشمل "نظام العملات المتعددة" آليات جديدة ليس فقط لإلغاء دولرة التجارة، ولكن أيضاً لتشجيع الاستثمار في أعضاء مجموعة "بريكس" وغيرها من الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، بما في ذلك منصة BRICS Clear، و"نظام جديد للمحاسبة والتسوية للأوراق المالية"، والأدوات المالية المقومة بالعملات الوطنية. وستقوم مجموعة "بريكس" بتجربة تكنولوجيا دفتر الأستاذ الموزع (DLT)، وتعزيز استخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) حتى تتمكن الدول من تسوية اختلالات التوازن التجاري بشكل مباشر، من دون الحاجة إلى نظام سويفت SWIFT والبنوك المراسلة الموجودة في دول ثالثة، كما أن هناك خططاً لإنشاء بورصة حبوب "بريكس" ووكالة تسعير مرتبطة بها، مع مراكز للتجارة في السلع الأساسية مثل الحبوب والنفط والغاز الطبيعي والذهب، وفقاً للمتحدث السابق.