Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هكذا نجحت جهود الفاتيكان الدبلوماسية في أزمة "البوسنة والهرسك" (1-2)

كان وسيطاً مقبولاً في الصراع على رغم تعقد المشهد الدولي ولعب الدول الكبرى أدواراً وفق مصالحها الجيوسياسية

تميزت دبلوماسية الفاتيكان في حرب البوسنة بكونها وسيطاً مقبولاً لدى معظم الأطراف لموقفها غير المنحاز ورغبتها الحقيقية في تحقيق السلام (اندبندنت عربية)

ملخص

كشفت وثائق بريطانية، رفع عنها طابع السرية أخيراً، كيف نجحت جهود الفاتيكان الدبلوماسية في عهد البابا يوحنا بولس الثاني في البوسنة، والتي هدفت إلى وضع حد للعنف وضمان حماية المدنيين، بخاصة الأقليات الدينية التي عانت بشدة العنف خلال الحرب.

بدأت الأزمة البوسنية بعد تفكك يوغوسلافيا في عام 1992، إذ تحولت الخلافات الإثنية والدينية والسياسية إلى نزاعات مسلحة، بخاصة بين المسلمين والكروات والصرب.

خلال تلك الأزمة، اعتمد الفاتيكان، حينها بقيادة البابا يوحنا بولس الثاني، استراتيجية دبلوماسية قائمة على التسامح والحوار، وسعى إلى توجيه المجتمع الدولي نحو السلام العادل، مستخدماً قنواته الدبلوماسية ليس فقط مع الحكومات المعنية بالصراع، ولكن أيضاً مع الكنائس الأرثوذكسية وأطراف إسلامية لتعزيز جهود المصالحة.

كانت جهود الفاتيكان تهدف إلى وضع حد للعنف وضمان حماية المدنيين، بخاصة الأقليات الدينية التي عانت بشدة العنف خلال الحرب. وتميزت دبلوماسية الفاتيكان آنذاك بكونها وسيطاً مقبولاً لدى معظم الأطراف بسبب موقفها غير المنحاز ورغبتها الحقيقية في تحقيق السلام.

في تلك الأثناء، كشفت وثائق بريطانية، رفع عنها طابع السرية أخيراً، كيف نجحت جهود الفاتيكان الدبلوماسية في عهد البابا يوحنا بولس الثاني في البوسنة وأخفقت في ليبيا آنذاك، على رغم حدة الأزمة التي كانت تواجه الدولة الليبية جراء تفجير لوكربي (حادثة تفجير طائرة أميركية باسكتلندا 1988، وقد اتهمت أميركا وبريطانيا العقيد الليبي معمر القذافي بتدبيرها، مما أحدث أزمة بين الطرفين).

 

 

"القصف" لن يحل الصراع

عرضت إحدى الوثائق التي كانت مرسلة من قسم أوروبا الغربية بوزارة الخارجية البريطانية في الـ29 من أبريل (نيسان) 1994 إلى قسم دائرة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، مكتب التنمية الخارجية، ملخص اجتماع عقد في الـ29 من أبريل 1994 بين مسؤولين من المملكة المتحدة وممثلي الفاتيكان، متناولة المناقشات حول قضايا عالمية متعددة، مع التركيز خصوصاً على البوسنة وليبيا وتفجير لوكربي وعملية السلام في الشرق الأوسط وقضايا السكان.

وبحسب ما جاء في الوثيقة " قال أمين عام الفاتيكان إن القضايا في البوسنة تميل إلى التبسيط المفرط. ولن يتم التوصل إلى حل إلا من خلال المفاوضات. قد يجعل القصف الناس يشعرون بأنهم يقومون بشيء إيجابي، لكنه لن يحل الصراع. قدمت مجموعة الاتصال في شأن البوسنة أفضل أمل لإيجاد طريق للمضي قدماً. وسيكون من المفيد أن يظل الروس متورطين ويحثون على ممارسة الضغط على الصرب"، مضيفة أن "المفتاح هنا هو تحديد الحد الأدنى للمسلمين في ما يتصل بالأرض، ومعرفة ما إذا كان ذلك قابلاً للتفاوض. ولكن المسلمين استمروا في الصمود على أمل تأمين صفقة أفضل".

وذكرت الوثيقة أن رئيس الأساقفة توران قال إن "البابا كان منزعجاً للغاية من استمرار الحرب. وباعتباره بولندياً، فقد أثرت هذه الحرب فيه بشدة. واتفق حزب الاتحاد المسيحي على أن أحد أكثر الجوانب المحبطة في المحاولات المتكررة لإحلال السلام هو عدم الثقة في أي من اللاعبين الرئيسين. فقد صدرت الدعاية من كل جانب، وكانت هناك مشكلة مستمرة في إثبات الحقيقة في شأن الأحداث على الأرض".

وأضاف توران "إن الشاغل الرئيس للكرسي الرسولي هو ألا يقوم الحل على أساس الأرض التي تم الاستيلاء عليها بالقوة. فالناس الذين نزحوا لهم الحق في العودة إلى ديارهم، والحصول على تعويضات. وتساءل حزب الاتحاد المسيحي عما إذا كانت الطريقة الوحيدة لوقف القتل قد لا تتمثل في قبول اتفاق يمنع بعض الناس من العودة إلى ديارهم. وستتعرض الأقليات المعزولة للخطر إذا عادت، فقط لتحيط بها مجموعة سكانية معادية".

وأكد رئيس الأساقفة توران أنه "يتحدث في سرية، وأن هناك خططاً جاهزة لزيارة البابا سراييفو يوماً واحداً في مايو (أيار). ويتابع الكرسي الرسولي مسألة حماية الأمم المتحدة. وقال اتحاد الطلاب الكاثوليك إن هذه الزيارة ستكون موضع ترحيب. وستكون وزارة الخارجية ممتنة إذا أُبلغت بالمستجدات".

 

الأميركيون "يفتقرون إلى الخبرة"

تتحدث الوثيقة المرسلة من قبل الكاردينال لويس موريتز وهو دبلوماسي بريطاني وسفير لدى الكرسي الرسولي، عن اجتماعه برئيس الأساقفة توران بتاريخ الثالث من فبراير (شباط) 1994. وخلال الاجتماع نُوقشت مجموعة من المواضيع بما في ذلك صراع البوسنة في يوغوسلافيا السابقة، إذ توضح الوثيقة بعض الجوانب الدبلوماسية التي كانت تجري في تلك الفترة، بما في ذلك الموقف البابوي من الصراعات الدولية وجهود التواصل مع روسيا وليبيا. كما تتطرق الوثيقة إلى انتقاد رئيس الأساقفة توران دبلوماسية إدارة الرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون، إذ وصفها بأنها ارتجالية وتفتقر إلى الحساسية الدولية، مشيراً إلى أن الأميركيين يفتقرون إلى الخبرة في التعامل مع الدول ذات الرؤى المختلفة.

وبحسب ما جاء في إحدى الوثائق حول زيارة رئيس وزراء روسيا، فيكتور تشيرنوموردين إلى الفاتيكان، في الـ28 من يناير (كانون الثاني) قال رئيس الأساقفة توران إن تشيرنوموردين "ليس لديه كثير ليضيفه"، موضحاً في شأن المحادثات التي دارت خلال زيارته "كان من الطبيعي ألا يتحدث السيد تشيرنوميردين، الذي أعطى الأولوية لمشكلات روسيا الداخلية كثيراً عن البوسنة وقضايا السياسة الخارجية الأخرى. وكان أكد أن التعديل المقترح العام الماضي لقانون الحرية الدينية الروسي لعام 1990 قد وُحِّد. وكان الكاردينال سودانو قد ضغط بشدة على السيد تشيرنوميردين في شأن ضرورة وجود موقع في موسكو لكاريتاس والمسائل العملية الأخرى التي تؤثر في الكنيسة الكاثوليكية هناك"، وتابع "أعرب رئيس الأساقفة توران عن قلقه إزاء احتمال أن يطلب من البابا قبول دعوة وجهها أصلاً السيد غورباتشوف لزيارة موسكو في عامي 1989 و1990. وقال رئيس الوزراء تشيرنوميردين إن الرئيس الروسي بوريس يلتسين سيتعامل مع هذه القضية بنفسه. وربما يكون لدى الأخير ما يقوله في هذا الشأن عندما يأتي إلى روما لحضور قمة مجموعة السبع بعد زيارته نابولي في يوليو (تموز)".

وأثناء حديثه عن دبلوماسية القوى العظمى، أعرب رئيس الأساقفة توران عن أسفه بعبارات صريحة لـ"الارتجال المستمر" الذي بدا أنه أفضل ما يمكن لإدارة كلينتون تحقيقه. قائلاً "لقد أظهروا غياباً محزناً للحساسية الدولية. وحتى في ظل افتقار الأميركيين إلى الخبرة النسبية في العيش جنباً إلى جنب مع بلدان ذات وجهات نظر مختلفة، فإن الإدارة الحالية كانت تميل بصورة مخجلة إلى اللعب على أرض الواقع في الداخل".

 

يوغوسلافيا السابقة

أشرت إلى مبادرة البابا الأخيرة، بما في ذلك مناشدته "ببذل كل ما هو ممكن إنسانياً لنزع سلاح المعتدي". وتقول إحدى الوثائق، إنه "إذا تقرر تقديم دعم جوي قريب، فسيطلب من الكرسي الرسولي أن يعلن عدالة وحكمة هذا المسار".

وقال رئيس الأساقفة توران إن العمل العسكري المحمول جواً قد يكون أكثر أهمية كرادع طويل المدى. ولتحقيق أهداف أكثر إلحاحاً، كان من الأهمية بمكان أن يكون للعمليات الجوية أهداف واضحة ومحددة وأن ينظر إليها على أنها تحققها منذ البداية، وإلا فإن إنشاء قوة ردع ذات صدقية سيظل يمثل مشكلة. ولم يكن لدى رئيس الأساقفة توران أدنى شك في أنه تمت تجربة وسائل بديلة، وأنها لم تكن كافية لحماية القوافل الإنسانية، ناهيك بأن يثبت للأطراف أن إراقة الدماء لا يمكن أن تستمر من دون رادع.

وتنبأ رئيس الأساقفة توران بمزيد من التصعيد للصراع في البوسنة قبل أن يتحسن الوضع، ولم يكن متفائلاً بإمكانية عكس هذه الحلقة المفرغة قبل الاجتماع الرئيس التالي في جنيف. وعلى المدى الطويل دعم بصورة متزايدة معاهدة أمنية تشمل دولاً مجاورة مثل بلغاريا وألبانيا، إضافة إلى أجزاء من يوغوسلافيا السابقة.

وأشار وزير العلاقات الخارجية بعد ذلك إلى أن إحدى القنوات التلفزيونية في بلغراد قد أشارت الأحد (الـ30 من يناير 1994) إلى أن البابا يرغب بشدة في زيارة بلغراد. وقال رئيس الأساقفة توران إنه على رغم أن البابا سيسافر بكل سرور إلى بلغراد وزغرب وسراييفو، فإن هذه المقترحات ليست واقعية في الوقت الحالي. لكنه نصحنا بتفسير كلمات البابا المرتجلة في نهاية عظته في القداس من أجل السلام في البلقان في الـ23 من يناير عندما قال "نحن معكم وسنكون معكم وسنكون دائماً معكم" كأحدث تعبير عن رغبة البابا القوية في زيارة يوغوسلافيا السابقة. ولم تكن السلطات المدنية في بلغراد سلبية تماماً تجاه هذه الفكرة ـ ولكن كما أكد البث الإخباري لتلفزيون بلغراد على ما يبدو، فمن الممكن أن نتوقع أقوى معارضة من داخل الكنيسة الأرثوذكسية الصربية. وقد ترك لي رئيس الأساقفة توران انطباعاً بأنه ينظر إلى إمكانية القيام بزيارة بابوية إلى بلغراد وزغرب، ناهيك بالبوسنة، باعتبارها مشاريع متوسطة الأجل في أقرب وقت ممكن.

 

بريطانيا تلوم الصرب

في خطاب ألقاه وزير الخارجية البريطاني في منتدى الدفاع والأمن، دوغلاس هيرد، في الـ26 من مايو 1993، لامت لندن الصرب وأعربت عن اعتقادها بعدم فرض حل بالقوة على يوغوسلافيا، مشددة على ضرورة إنشاء محكمة لجرائم الحرب، وتوفير مناطق آمنة للمسلمين، وإغلاق الحدود بين صربيا والبوسنة.

وركز المسؤول البريطاني في خطابه على الأزمة في البوسنة والصراع في يوغوسلافيا السابقة، معتقداً أنه على رغم الاهتمام بالتطورات في الشرق الأوسط، فإن التركيز في بريطانيا ينصب على الحرب في يوغوسلافيا السابقة، إذ يلقى باللوم الرئيس على الصرب، بينما تتحمل المجتمعات المسلمة النصيب الأكبر من العنف.

وحول الاستراتيجية البريطانية والدولية، ذكر الوزير البريطاني، أن بلاده لا تؤمن بفرض حل بالقوة على يوغوسلافيا، وتستبعد التدخل العسكري الواسع بسبب الطبيعة الجغرافية والعرقية المعقدة للمنطقة. مشيراً إلى أن الحل الوحيد الممكن هو عبر الجهود السياسية، بما في ذلك خطة السلام التي يدعمها اللورد كارينغتون وأوين وفانس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ووفق الوثائق البريطانية فإن الأولويات في تلك الحقبة بالنسبة إلى لندن كانت تشمل الأولويات الثلاثة وهي "إنشاء محكمة لجرائم الحرب، وتوفير مناطق آمنة للمسلمين، وإغلاق الحدود بين صربيا والبوسنة"، مع تأكيد أهمية التعاون مع الدول الإسلامية التي تسهم بقوات على الأرض، مثل الأردن ومصر في الجهود الدولية، ومساهمة بريطانيا في فرض عقوبات اقتصادية صارمة على صربيا والجبل الأسود، إضافة إلى تقديم مساعدات إنسانية. وتقوم القوات البريطانية بحماية قوافل الإغاثة وإيصال المساعدات إلى سراييفو.

 

وكان رئيس الوزراء البريطاني آنذاك جون ميجور قد بعث برسالة رسمية بتاريخ السادس من سبتمبر (أيلول) 1993 إلى العاهل السعودي الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود عبر من خلالها عن قلقه البالغ إزاء الحرب في البوسنة، مؤكداً للملك فهد التزام بريطانيا وشركائها في الناتو السعي إلى حل سلمي وحماية المدنيين في البوسنة.

وفي ما يخص القضايا العالمية والدولية تطرقت الرسالة إلى القضايا الدولية، إذ تذكر استمرار الاضطرابات العالمية، مشيرة إلى أن الوزير دوغلاس هيرد سينقل تحليلات المملكة حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، بما في ذلك التقدم في المحادثات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.

وحول الحرب في البوسنة، يعبر رئيس الوزراء البريطاني عن قلقه البالغ إزاء الحرب في البوسنة ويؤكد التزام بريطانيا وشركائها في الناتو السعي إلى حل سلمي وحماية المدنيين. كما يعرب عن الاستعداد لاتخاذ إجراءات إذا استأنف الصرب الهجمات.

ووفق الوثائق البريطانية بقي الصراع أحد التحديات الكبرى التي واجهت الفاتيكان في التعامل مع السياسات الدولية المعقدة والضغوط من القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، إذ كانت هذه الدول تتعامل مع الصراع بناءً على مصالحها الجيوسياسية الخاصة، مما عقد جهود السلام، لكن دبلوماسية الفاتيكان ظلت ثابتة في تركيزها على السلام العادل والحوار بين الأطراف.

المزيد من تقارير