ملخص
جاءت التصريحات المتضاربة والمتناقضة بين الحكومة العراقية والفصائل المسلحة التابعة لإيران، حين أعلن رئيس مجلس الوزراء السوداني أن قرار الحرب والسلم بيد الدولة حصراً، طبقاً للدستور، لكن تصريحات قادة الفصائل المسلحة أكدت أن العراق بلد محتل ومسلوب السيادة، وبناءً على ذلك، فإن قرار السلم والحرب بيد الفصائل المسلحة.
خاض العراق خلال تاريخه الحديث أطول الحروب في حياة شعبه والمنطقة، فمنذ إعلان الدولة العراقية في عام 1921 حتى الآن يسود اعتقاد أن "حرباً تلد أخرى"، يتواصل فيها ازدياد الضحايا والخسائر البشرية والمادية، وينفق البلد المليارات من موازناته المتعاقبة على حروب بدأت ولم تنته بعد.
وكما أخبرني عامل يدفع عربة بيع الخضراوات في بغداد "نحن بكل عزاء لاطمين" (نلطم في كل عزاء)، وهو توصيف لحياة شهدها ذلك البائع المتجول، وهو يتعدى الـ60 من عمره، لما عاشه من حروب متكررة إبان الثمانينيات والتسعينيات والألفيات حتى القرن الحالي، الذي لا تزال تنتشر فيه اللافتات السوداء ومظاهر الحزن والعزاء.
تعود ثقافة الحزن تاريخياً في العراق إلى زمن السومريين في الألف الثاني قبل الميلاد ليومنا هذا، فما من صوت حزين إلا وخرج من بلاد ما بين النهرين، وما من أغنية تحاكي بأسى الأسلاف الراحلين إلا وخرجت من قلوب هؤلاء القوم الذين يرددون "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء"، يذكون نواح الحزن السومري والبابلي وخراب البصرة.
لكن إلى متى يستمر هذا الاحتدام العراقي ويصحو العراق لبناء نفسه والتمتع بخيراته؟
سؤال بدا ملحاً خلال السنوات الأخيرة يذكيه جيل عراقي جديد تظاهر في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019 وقبله، معلناً "نريد وطناً" وبعد أن يتناهى لسمع الشعب أن ميليشيات ما تطالب بالزحف المقدس لخوض حرب جديدة في ساحة خارج الحدود، أو تعلن إطلاق مسيرة أو صواريخ عابرة للحدود العراقية لضرب "هدف معاد"، تعيد للناس ذاكرة حرب الثمانينيات العجاف، يوم قاتل العراقيون في جبهة إيران وكسر ظهر الجيش واقتصاد البلاد.
قبيل إعلان الحرب
الأجواء السائدة اليوم تشي أن ثمة توتراً مجتمعياً وانقساماً سياسياً.
ثمة من يلوح بالحرب يتمثل في الفصائل المسلحة الموالية لإيران بالعراق التي تعرف بـ"المقاومة الإسلامية"، وتدعو إلى وحدة الساحات المساندة لإيران وسياستها الخارجية في التجييش والتعبئة، وشن هجمات بطائرات مسيرة على أهداف في إسرائيل، ودق طبول الحرب.
كما أن هناك عراقيين يطالبون الدولة بحمايتهم من مغامرة حرب أخرى، تدعو إليها الفصائل المسلحة في العراق، المؤلفة من 74 فصيلاً مسلحاً، بينها 34 فصيلاً تؤول مرجعيتها لـ"الحرس الثوري" الإيراني، في التوجيه العقائدي والأيديولوجي، في مقدمها (حزب الله -العراق) وميليشيات "النجباء" بزعامة أكرم الكعبي، التي تصرح علناً بدخولها على خط المواجهة مع إسرائيل، وترسل عناصرها خارج العراق، مما يمثل حرجاً للحكومة العراقية، ويثير خلافات حادة داخل الإطار التنسيقي الشيعي الحاكم للبلاد الذي لا يرغب في دخول مواجهة في ظل التهديدات الأميركية والغربية.
كلمة الدولة
وكان رئيس حكومة العراق محمد شياع السوداني أعلن "أن قرار الحرب والسلم من شأن الدولة ومؤسساتها الدستورية (الرئاسات الثلاث)، محذراً من يخرج عن ذلك أنه سيكون في مواجهة الدولة، التي تستند إلى قوة الدستور والقانون".
لكن الفصائل المسلحة لم تلتزم ما أعلنه رئيس الحكومة ولا ما طالب به مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، الذي كشف عن "أن بغداد تجري اتصالات معلنة وغير معلنة للحفاظ على البلد والشعب"، وتمارس ضغطا داخلياً وخارجياً من أجل خفض التصعيد، وشدد الأعرجي على أن "الحكومة هي من تمتلك حصراً صلاحية إصدار قرار الحرب والسلم، ولا نية لدى العراق للدخول بحرب قد لا تحمد عقباها".
غير أن وزير الخارجية العراقي الأسبق هوشيار زيباري نبه على "أن إصرار بعض الفصائل على إقحام العراق في الحرب الإقليمية المقبلة، لا سيما (النجباء) وكتائب (حزب الله) بالضد من إرادة حكومة السوداني والبرلمان والإطار التنسيقي، في إعلان حال الحرب أو السلم كقرار سيادي عراقي، إنما يعرضون أمن وسلامة العراق إلى خطر محدق، والخاسر الأكبر سيكون الشعب العراقي، وهم أيضاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قرار الفصائل المسلحة
ويرى مدير مركز الدراسات الاستراتيجية الباحث غازي فيصل "أن الفصائل المسلحة العراقية تتمسك بقرار استمرار الحرب على الولايات المتحدة والتحالف الدولي، وأن المواقف من قضية الحرب والسلام بين الحكومة العراقية والفصائل المسلحة، المتحالفة مع (الحرس الثوري) الإيراني، التي تقلد دينياً ومذهبياً لمرجعية خامنئي، وتعلن قناعتها بمشروع ولاية الفقيه الأممي، بينها (حزب الله) العراقي و(النجباء)"، ويضيف "جاءت التصريحات المتضاربة والمتناقضة بين الطرفين، حين أعلن رئيس مجلس الوزراء السوداني أن قرار الحرب والسلم بيد الدولة حصراً، طبقاً للدستور وبناء على صلاحية مجلس النواب بإصدار قرار عبر التنسيق مع رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، لكن تصريحات لقادة الفصائل المسلحة أكدت أن العراق بلد محتل ومسلوب السيادة، وبناءً على ذلك، فإن قرار السلم والحرب بيد الفصائل المسلحة".
وأشار فيصل إلى أن ذلك جرى "علماً أن الفصائل المسلحة غير ملتزمة الدستور، ولا تخضع للقيادة العامة للقوات المسلحة، وهي تنشر قواعد عسكرية في جنوب لبنان والجولان ودير الزور، إضافة إلى المشاركة في الحرب إلى جانب الحوثي في اليمن، وتتبنى الاستراتيجية الإقليمية لولاية الفقيه الإيرانية، في الحرب والاستمرار في قصف القواعد الأميركية، والتهديد بقصف منشآت النفط في السعودية والخليج إذا ما تعرضت المنشآت النفطية الإيرانية للهجوم".
حال حرب مستمرة
يوضح الباحث القانوني جمال الأسدي البعد القانوني والتاريخي لحال الحرب العراقية مع إسرائيل بقوله "إن إعلان حال الحرب في الدستور العراقي وفرقها عن حال الحرب على إسرائيل بالنسبة إلى الوضع الحالي للعراق كبير".
وأشار إلى أن "إعلان الحرب في الدستور العراقي حددتها المادة (61-1)، وبالتحديد في صلاحيات مجلس النواب على سبيل الحصـر، وقد جاء في نص الفقرة تاسعاً (الموافقة على إعلان الحرب وحال الطوارئ بغالبية الثلثين، بناءً على طلب مشترك من رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، تعلن حال الطوارئ لمدة 30 يوماً قابلة للتمديد، وبموافقة مسبقة عليها، في كل مرة يخول رئيس مجلس الوزراء الصلاحيات اللازمة التي تمكنه من إدارة شؤون البلاد، في أثناء مدة إعلان الحرب وحال الطوارئ". وتابع "تنظم هذه الصلاحيات بقانون بما لا يتعارض مع الدستور، ويعرض رئيس مجلس الوزراء على مجلس النواب الإجراءات المتخذة والنتائج، في أثناء مدة إعلان الحرب وحال الطوارئ، خلال 15 يوماً، من تاريخ انتهائها".
الحرب المعلنة
يؤكد الأسدي "أن العراق في حال حرب معلنة على إسرائيل من قبل كتابة الدستور (2005)، ولا تشمل بالتوصيف الدستوري الذي تم النص عليه وأن العراق قد دخل الحرب ضدها منذ عام حرب 1948 وحتى اللحظة مستمرة ولم يعلن توقفها، إذ دخلت المملكة الهاشمية العراقية الحرب آنذاك كجزء من التحالف العربي، الذي أعلن الحرب على الدولة المحتلة لفلسطين وحرك قواته، ومنذ ذلك الحين كانت الحرب معلنة، وفي حال عداء مستمر"، ويتابع "كما شاركت القوات العراقية في الحرب عامي 1967 و1973 على التوالي، ولم يوقع العراق اتفاقية وقف إطلاق النار مع إسرائيل، ولم يعترف بها كدولة، ومن الناحية الفنية بقي الطرفان في حال حرب مستمرة منذ عام 1948 والمناوشات في هذه الحرب مستمرة إلى يومنا هذا، وفي أوقات مختلفة".
تدمير مفاعل نووي عراقي
وأوضح أنه في عام 1981 نفذت القوة الجوية "الإسرائيلية" عملية (أوبرا) في العراق، إذ قصفت ودمرت مفاعلاً نووياً عراقياً، كان قيد الإنشاء في مركز "التويثة" للأبحاث النووية قرب بغداد، في يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) عام 1991، وشن العراق هجوماً صاروخياً على الكيان المحتل لفلسطين، وأطلق نحو 42 صاروخ سكود على الأراضي المحتلة في فلسطين، في أوقات مختلفة من عامي 2019 و2020، وضُربت مواقع عسكرية رسمية عدة غرب العراق وجنوب بغداد، وأُخبرت السلطات العراقية بصورة رسمية من قبل الولايات المتحدة وعبر ممثليها بأن هذه الضربات كانت من قبل القوة الجوية "الإسرائيلية".
يتابع الأسدي عن نمط العلاقة المحتدمة بين العراق وإسرائيل بالقول "عندما نقول إن العراق في حال حرب مستمرة مع إسرائيل، فإننا يجب أن نتعامل مع هذا الوضع طبقاً لظروفه ومتطلباته وبالتحديد في ما يخص تل أبيب"، وأضاف "تطبيق النصوص القانونية يفترض أن تكون بسقف عال وبعيداً كل البعد من التساهل والتماهل، لأن للحرب ظروفها وإجراءها ووحدة جبهتها الداخلية وضرورة مهمة لتوحيد الموقف وهذا يتطلب إجراءات عدة أبرزها: وحدة خطاب الدولة، وهنا نتكلم عن خطاب الدولة وليس خطاب الحكومة، فحسب، فتبادل المواقف والتصريحات بين مكونات الدولة الرسمية وغيرها، في هدف واحد هو ضرورة مهمة لحماية البلد من الانزلاق في اتجاهات بعيدة عن مبادئ العراق التاريخية".
من ذاكرة العراق
على رغم كل هذا الواقع يرجح كثير من العراقيين بأن العراق بلد في بحبوحة اقتصادية ووفرة مالية عليه أن يحافظ عليها من الضياع، ولا بد له من أن يتذكر كثر وفرة المال عام 1979، حين كان لديه ما يقارب 100 مليار دولار فائضاً نقدياً قبيل دخوله في حرب الثمانينيات الشاملة ليخرج بعد ثماني سنوات من الحرب مع إيران محاصراً بـ300 مليار دولار ديوناً وتعويضات لا تعد ولا تحصى، وحاجته إلى تريليون دولار لبنيته التحتية ومليون عراقي قتيل وجريح وآلاف الأسرى، ويأتيك من يتحدث عن الحرب وتكرار مأساتها.
لكن حين ترتفع طبول الحرب يختفي صوت العقل ويبدأ صوت العواطف والأناشيد والمارشات، وهذا ديدن التاريخ الذي وشم حقباً عراقية كثيرة بأغنيات "احنه مشينا للحرب"، ولكن بعد سنوات حين تضع الحرب أوزارها يبدأ حكماء القوم بالظهور ليمارسوا لعبة الفلسفة على الجمهور.