ملخص
حتى وإن كان جون ستيوارت ميل يخصص جزءاً كبيراً من "سيرة حياتي وأفكاري" ليحدثنا عن أبيه وشخصية هذا الأخير وأفكاره، بل حتى تناحراته معه بين حين وآخر، فإنه في الوقت ذاته يحدثنا عن تطوره الفكري الخاص وأزماته الروحية وأصدقائه وظروف ولادة اللحظات التي أغرقته في نضالاته، وصولاً إلى أدواره السياسية والفكرية.
كان في الثالثة من عمره حين بدأ يقرأ اليونانية كما يقرأ لغته الإنجليزية الأم، وكان في السابعة حين أنجز قراءة، وربما فهم، حوارات أفلاطون الستة الأولى، وفي الثامنة حين انهمك خلال قراءته إلياذة هوميروس في دراسة الجبر والهندسة دراسة متقدمة.
وفي الـ 20 حين وضع مؤلفه الأول قبل أن تستبد به شكوكه الفكرية والوجودية ذات يوم وهو في سن الـ 23، فيقف متأملاً معيداً النظر في حياته ومسارها ولسان حاله يقول "لنفترض أن كل الأهداف التي وضعتها لنفسك في حياتك قد تحققت، وأن كل التغيرات والتقلبات والأفكار التي أمضيت حياتك وأنت تشتغل في سبيل تحقيقها قد تمت بنجاح وصورة مفاجئة، هل تراك ستشعر أنك وصلت إلى قمة الفرح والسعادة؟".
على هذا السؤال أجاب جون ستيوارت ميل يومها "أبدا، لن يخامرني أي شعور بالفرح أو السعادة"، وذلك بالتحديد لأنه كان يشعر في ذلك الوقت الباكر من حياته أن ثمة ما ينقصه، والحقيقة أن ميل الذي أخبرنا بنفسه عن مآثره منذ طفولته في ذلك الكتاب المهم الذي، على عكس كتبه وإنجازاته الأخرى، تأخر طويلاً قبل أن يرى النور، بل إنه لم ير النور إلا بعد أشهر من وفاة كاتبه عام 1873، لم يحدثنا في الكتاب عن نفسه بمقدار ما حدثنا عن أبيه المفكر جيمس ميل.
رمز العقلانية
جيمس ميل كان الصانع الحقيقي لابنه الذي سيصبح يوماً واحداً من أعمدة الفكر العقلاني والليبرالي في بريطانيا القرن الـ19، والذي سيقول عنه غلادستون في تأبينه "ستيوارت ميل هو الذكاء المطلق والرجل ذو القيمة الأخلاقية النادرة، ستيوارت ميل هو قديس العقلانية الحقيقي".
وبالتأكيد لم يكن كلام السياسي البريطاني من نوع كلام المناسبات، بل كان انعكاساً للنظرة العامة التي كان العالم ينظر بها إلى ميل، ومع هذا ها هو هذا الأخير يخبرنا في الكتاب الذي كان يفترض أن يكون سيرة لحياته، أنه هو نفسه لم يكن شيئاً لولا ذلك الأب الذي في إمكان الباحثين في سيكولوجيا الطفولة خلال أيامنا هذه أن يوجهوا له لوماً شديداً، إذ من الواضح أنه لم يسمح لابنه أبداً أن يكون طفلاً ولو لشهور في حياته، بل حشا رأسه باكراً جداً بالأفكار والآراء والمعلومات التي صنعته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الواضح أن المعني نفسه لم يكن مستاءً من هذا، وإن كان قد أثار طوال حياته استياء الأوساط الرجعية الإنجليزية التي ما كان من شأنها أن تسرّ أواسط القرن الـ 19 الذي وصلت فيه الإمبراطورية البريطانية إلى أوجها، بمفكر يطالب بحرية المرأة وإعطائها حق الترشح والتصويت البرلمانيين، وإزالة العبودية ونشر حرية التعبير، وغير ذلك من أفكار كان على بريطانيا أن تنتظر عقوداً طويلة قبل أن تتبناها.
أرقام قياسية
حتى وإن كان جون ستيوارت ميل يخصص جزءاً كبيراً من "سيرة حياتي وأفكاري" ليحدثنا عن أبيه وشخصية هذا الأخير وأفكاره، بل حتى تناحراته معه بين حين وآخر، فإنه في الوقت ذاته يحدثنا عن تطوره الفكري الخاص وأزماته الروحية وأصدقائه، وظروف ولادة اللحظات التي أغرقته في نضالاته، وصولاً إلى الأدوار السياسية والفكرية التي لعبها وأوصلته إلى عضوية مجلس العموم.
وهو كذلك يحدثنا عن غرامياته وزواجه المتأخر من السيدة تايلور التي عاونته في عمله طويلاً قبل أن تترمل بعد 20 عاماً من تعارفهما وتصبح زوجة له، والحقيقة أن كل هذا يرويه لنا جون ستيوارت ميل بهدوء ولغة جزلة تحمل جدلياتها ويبدو فيها أحياناً من التجرد، إذ يخيل إلى المرء أنه يتحدث عن سيرة شخص آخر.
وحتى المآثر المدهشة التي يحكيها لنا وتبدو غير قابلة للتصديق، وهي التي افتتحنا بها هذا الكلام، وقد تبدو جديرة بأن تدخل كتاب غينيس للأرقام القياسية لو أن مثل هذا الكتاب كان موجوداً في أيامه، قبل أن يبتذل هذا الكتاب ليصبح ملعباً لصانعي أكبر قرص فلافل أو أطول سندويتش كفتة، فهذه المآثر يحكي ميل لنا عنها ببساطة الأمور العادية، تماماً كما علمه أبوه أن يفعل.
التأسيس الفكري
وبالنسبة إلى جون ستيوارت ميل فقد أتى تأسيسه الفكري من طريق الفلاسفة اليونانيين الذين قرأهم باكراً تحت إشراف أبيه الذي يقدمه لنا بارداً في أفكاره وموضوعياً في أحكامه، ويترك للعقل مكاناً واسعاً في كل ما يقوله أو يفكر فيه، ومن هنا، كما يروي لنا الابن، كان يريد في الأصل أن يجعل من ابنه رجل منطق صارم، لكن المشكلة كمنت في أن الابن سرعان ما تبدى رجل عاطفة سريع التأثر ومهتماً بالفكر الإصلاحي، وعازماً على العمل في سبيل مصلحة شركائه في المواطنة.
وفي مقابل الصورة الفكرية الخالصة التي أرادها الأب للابن، عمل هذا على أن يجعل لنفسه صورة المفكر المناضل، وبدا هذا واضحاً حتى وإن لم يتوقف ستيوارت عنده مطولاً في كتابه، ولسوف يصبح أكثر وضوحاً بعد تلك الرحلات التي قام بها الابن إلى الخارج، ولا سيما إلى فرنسا التي أقام فيها نحو عام، اختلط خلاله بعدد من رجال الفكر والاقتصاد الذين كانوا في الأصل من أصدقاء والده، وهو هنا بعد أن عاد من فرنسا أسس مع عدد من رفاقه من المفكرين الشبان جمعية أطلقوا عليها اسم "الجمعية النفعية"، متأثرين جميعاً بأفكار بنتام الفلسفية والاقتصادية التي كانت على الموضة في إنجلترا ذلك الحين.
وراح ستيوارت ضمن إطار تلك الجمعية يبث أفكاره وآراءه الإصلاحية في مقالات ودراسات مطولة ينشرها في المجلات، ناهيك بأنه أسس مع رفاق آخرين جمعية قراءة خاصة تقرأ النصوص جماعياً وتتناقش فيها، وكل هذا وصاحبنا لا يزال دون الـ 20 من عمره، وبعد حين نراه يصدر كتابه الأول المكتمل "منظومة المنطق"، لكنه بعد إصدار هذا الكتاب مباشرة نجده غارقاً في أزمته الروحية الفكرية الأولى التي أوصلته إلى طرح أسئلة الجدوى حول كل ما يفعل ويكتب، ولسوف يقول لنا هو بنفسه إن العامل الخفي الذي أوصله إلى أزمته كان اكتشافه غياب البعد الروحي في حياته.
أزمة روحية ثانية
لم يكن الدِين من بين الأمور التي حركها أبوه لديه، ومن هنا تحركت لديه تلك الأزمة التي سرعان ما تبدت روحية خلف إطار تساؤلاته عن السعادة والجدوى والنفعية، وصحيح أنه سيجد لأزمته حلاً، لكنه بدا له أول الأمر حلاً موقتاً، فهو عرف كيف يستبدل مسألة البحث عن السعادة الشخصية بسعادة العمل من أجل الصالح العام، وأحلّ العمل من أجل تحسين المجتمع محل العمل من أجل سعادة الذات، لكن هذا الحل سيبدو له ناقصاً حتى اللحظة التي اكتشف فيها الشعر، فالشعر، ولا سيما شعر ووردذورث، كان ما سينقذه حقاً من أزمته، ويقول لنا كيف أنه وجد في شعر ووردذورث "فرح الإنسان عبر احتكاكه بالطبيعة وعناصرها، وعبر التقائه بجمال الطبيعة".
لقد كان هذا الشعر، وفق ستيوارت ميل، هو الذي كشف له "منبع النعم الخالد الذي سينبثق حين تختفي الشرور الكبرى التي تكبل الإنسان"، وكانت هذه الفكرة في حد ذاتها محركاً لإلهام إنساني عميق سرعان ما أتت صداقة ربطت كاتبنا مع الديمقراطي المسيحي فردريك موريس ومع السياسي التقدمي ستيرلنغ، لتوجهه بصورة أفضل ليس فقط ناحية البحث الإنساني عن السعادة، بل كذلك ناحية العمل السياسي.
وهذا التأثير المتعدد سيتضافر لدى جون ستيوارت ميل (1806 - 1873) مع ارتباطه بالمفكر الفرنسي أوغست كونت كما مع الكاتب توماس كارلايل، ناهيك عن ارتباطه بصاحبة الروايات والأفكار النسوية الكبيرة، جين أوستن، لتجعل منه المفكر الذي نعرف، المفكر الذي جعل من الحرية والمساواة بين البشر ومفاهيم التقدم والعقلانية وحرية المرأة والديمقراطية البرلمانية وحرية الفكر وإلغاء الكولونيالية والعبودية مفاتيح فكر لو نتبحر فيها اليوم فسيخيل إلينا أنها مكتوبة في زمننا المعاصر، على إيقاع الفشل الذي طاول ويطاول مختلف الأيديولوجيات التي يتميز فكر ميل عنها بأنه نظر حين فكر إلى الإنسان والمجتمع والطبيعة، قبل أن ينظر إلى الشعارات الكبيرة التي يؤكد لنا مراراً وتكراراً أنها غير مجدية إن لم تضع سعادة الإنسان في المجتمع هدفاً أساسياً لها.