ملخص
يوافق مواطنون كثر على خصم عمولات تصل إلى 30 في المئة من المساعدات المالية التي يتلقونها عبر التحويلات البنكية مقابل الحصول على الأموال نقداً، كما تأثرت أسواق المواشي والمحاصيل الزراعية بشح السيولة وانحسار المتداول منها.
شكل طول أمد الحرب في السودان التي أكملت شهرها الـ18 ضربة قاضية للاقتصاد مع استمرار إغلاق عدد كبير من المصارف وتوقف حركة الاستيراد والتصدير، وكذلك انهيار الجنيه السوداني في مقابل العملات الأجنبية، وبات العبء ثقيلاً على المواطنين، لا سيما بعد توقف الأعمال اليومية وعدم صرف رواتب العاملين بالقطاعين العام والخاص لأكثر من عام ونصف العام.
ونتيجة لهذه الأوضاع تفاقمت أزمة السيولة النقدية بصورة غير مسبوقة، وبالكاد تتوفر أموال لاستخدامها في التعامل اليومي، خصوصاً في المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة إلى جانب غالبية المدن الآمنة. وليس غريباً أن يوافق مواطنون كثر على خصم عمولات تصل إلى 30 في المئة من المساعدات المالية التي يتلقونها عبر التحويلات البنكية مقابل الحصول على الأموال نقداً، كما تأثرت أسواق المواشي والمحاصيل الزراعية بشح السيولة وانحسار المتداول منها.
عمولات واقتطاعات
الشفيع سعد الله، أحد الموجودين في ولاية جنوب كردفان قال، إن "الإقليم يشهد شحاً كبيراً في السيولة إلى جانب الندرة والارتفاع الجنوني في أسعار السلع الغذائية، بسبب الحصار المفروض على الولاية من قبل قوات (الدعم السريع) والحركة الشعبية، فضلاً عن عدم وصول المساعدات الإنسانية".
أضاف، "في ظل تفاقم الأزمة وحاجة المواطنين الماسة إلى الأموال يضطرون إلى التوجه إلى الأسواق للحصول على سيولة نقدية عبر تحويلات التطبيقات البنكية لتحصل المفاجأة بتوظيف عمولات واقتطاعات على المواطن الذي يذعن للأمر للحصول على النقدي (الكاش)".
وأوضح سعد الله أنه، "اضطر إلى تحويل 100 ألف جنيه سوداني (نحو 40 دولاراً) من تطبيقه البنكي لأحد التجار في سوق مدينة كادقلي مقابل الحصول على 70 ألف نقداً بعمولة تعادل 30 في المئة من أجل شراء حاجات أسرته الضرورية".
وتابع، "أسهمت هذه الأوضاع في التأثير بأسواق المواشي والمحاصيل الزراعية، إذ يعاني السكان نظراً إلى عدم توافر النقد اللازم للبيع والشراء".
تبادل ومقايضة
وفي إقليم دارفور فاقمت أزمة السيولة النقدية من أزمة المجاعة خصوصاً بعد ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى أكثر من 300 في المئة.
محمود شعيب، أحد سكان مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور، قال إن "القيود المصرفية وتحفظات التجار على التعامل مع التحويلات الإلكترونية فاقم من شح النقد المتداول، علاوة على تحول الكتلة النقدية إلى أيدي التجار في المناطق الحدودية من دون عودتها مرة أخرى نتيجة توقف الصادرات، إلى جانب خفض قيمة الجنيه السوداني في مقابل العملات الأجنبية، وزاد الارتفاع الجنوني للأسعار الأمر سوءاً بتضاعف حجم السيولة المطلوب لعمليات الشراء، من ثم فإن خطر تمدد المجاعة بات وشيكاً".
وأشار إلى أن "المواطنين اضطروا لمبادلة سلع بحوزتهم بأخرى يحتاجون إليها، لا سيما المنتجات الزراعية الخام، لعدم توافر النقد اللازم للبيع والشراء وانعدام السيولة النقدية، مما ضاعف العبء على السكان وأصبح من الصعب عليهم الحصول على حاجاتهم الضرورية".
ولفت شعيب إلى أن "الأزمة أسهمت في توقف عدد من أسواق المواشي عن العمل، إضافة إلى الركود في عمليات بيع وشراء المحاصيل الزراعية".
تأثير الحرب
واعتبر المتخصص في الشأن الاقتصادي العاقب زين العابدين أن "إغلاق عدد من البنوك في المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة أسهم في عدم إتاحة الفرصة لبنك السودان المركزي معرفة أوضاع الكتلة النقدية من أجل استبدالها أو سحبها وضخ فئات جديدة".
أضاف، أن "هناك أربع ولايات خارج سيطرة الحكومة ولا يتعامل معها البنك المركزي أو وزارة المالية، من ثم فهي حالياً خارج دائرة الاقتصاد إلى حين انجلاء الموقف".
وأوضح زين العابدين أن "الحرب امتدت كذلك إلى ولاية الجزيرة أكبر أقاليم البلاد من حيث الإنتاج الزراعي بما في ذلك القمح الذي يسهم في حصة مهمة من الأمن الغذائي لمعظم المواطنين، إضافة إلى توفير رصيد مهم من النقد الأجنبي لجهة إحلال الواردات أو الصادرات، كذلك امتد تأثير الصراع المسلح إلى ولايات دارفور الخمس، وأيضاً أقاليم كردفان، إذ تمثل الولايات الثماني المركز المالي والاقتصادي للسودان ومحور الإمداد الغذائي".
معاناة المرضى
وفي المدن السودانية الآمنة، يعاني المرضى الأمرين من أجل الحصول على الأموال لإجراء الفحوص الطبية وتلقي العلاج بسبب أزمة السيولة النقدية وتحفظات إدارات بعض المستشفيات والمراكز الطبية على التعامل مع التحويلات عبر التطبيقات البنكية.
وفي هذا الصدد، يقول المواطن مبارك ميرغني، إن "مرافقي المرضى يصطفون ساعات طويلة أمام البنوك للحصول على النقود، على رغم أنها وضعت سقوفاً مالية للسحب، مما فاقم من المعاناة اليومية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أضاف، أن "التجار وبعض أصحاب الصيدليات يحصلون على عمولات تصل ما بين 20 و30 في المئة للتحويلات عبر التطبيقات البنكية مقابل منح المواطنين الأموال نقداً، أو إجراء معاملة شراء مواد غذائية وأدوية علاجية".
ولفت ميرغني إلى أن "نفاد المدخرات المالية أجبر مواطنين كثراً على الاعتماد على تحويلات المغتربين في توفير حاجاتهم اليومية، ومع أزمة شح النقد المتداول يضطر الغالبية إلى التعامل مع التجار والموافقة بشروط العمولات مقابل الحصول على "الكاش".
خسائر فادحة
ويشهد عدد كبير من المدن السودانية أزمة في السيولة النقدية وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية، خصوصاً القضارف وعطبرة وبورتسودان وأم درمان، مما أدى إلى خفض القدرة الشرائية.
وفي مدينة النهود بولاية غرب كردفان توقف عمل ثاني أكبر بورصة للصمغ العربي في السودان مع تراجع كبير في أسعار البيع والشراء.
وإزاء هذا الوضع، تأثرت سوق المحاصيل الزراعية في مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان بأزمة السيولة النقدية بصورة كبيرة، واضطر مزارعون كثر لبيع محاصيل الذرة والدخن والسمسم بأسعار أقل من كلفة الإنتاج، ودفعوا فاتورة باهظة الثمن بسبب الحرب وتعرضوا لخسائر فادحة.
عوامل اقتصادية
على صعيد متصل أرجع الباحث الاقتصادي السوداني يوسف الدويخ أزمة السيولة النقدية إلى "فقدان عدد كبير من المواطنين لمصادر رزقهم، سواء في الأعمال الخاصة أو الحكومية، مع ارتفاع معدلات التضخم وتدهور العملة المحلية بنسبة فاقت 100 في المئة، فضلاً عن كلفة الحرب المباشرة، وخروج عدد كبير من مناطق البلاد المنتجة، خصوصاً في دارفور وكردفان، عن الدورة الاقتصادية، إذ كانت تشكل إضافة إلى الناتج المحلي الإجمالي. هذا إلى جانب تعطل حركة وصول الثروة الحيوانية للأسواق، وأيضاً توقف حركة الصادرات".
ونوه إلى أن "توقف 70 في المئة من فروع البنوك في المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة أسهم في تفاقم الأزمة في غالبية مدن السودان".
ونبه الدويخ من أن "نسبة الأموال النقدية المتداولة تحتكرها الفئات الغنية من رجال الأعمال وأصحاب المحال التجارية، فضلاً عن عمليات السلب والنهب التي استهدفت المدن كافة، من ثم فإن البسطاء من الناس يعانون بشدة ويدفعون الثمن".