ملخص
في وقت يتآكل النفوذ الغربي في أفريقيا، تتقدم تركيا بسرعة نحو ترسيخ موطئ قدم لها مستفيدة من كثير من العوامل على غرار غياب أي ماضٍ استعماري لها في القارة السمراء وتقديم عروض تبدو سخية لتزويدها بأسلحة واستشارات عسكرية في حربها ضد الجماعات المسلحة.
في وقت يتآكل النفوذ الغربي في أفريقيا، تتقدم تركيا بسرعة نحو ترسيخ موطئ قدم لها مستفيدة من كثير من العوامل على غرار غياب أي ماضٍ استعماري لها في القارة السمراء، وتقديم عروض تبدو سخية في نظر بعض الأنظمة لتزويدها بأسلحة واستشارات عسكرية في حربها ضد الجماعات المسلحة.
وتستضيف جيبوتي اجتماعاً وزارياً بين المسؤولين الأتراك يتقدمهم وزير الخارجية هاكان فيدان بهدف مراجعة الشراكة الشاملة التي تجمع دولاً في القارة وتركيا، وستشارك في هذه الاجتماعات 14 دولة أفريقية وهي موريتانيا وأنغولا وجمهورية الكونغو وغانا واتحاد جزر القمر وجنوب السودان وتشاد وجيبوتي وغينيا الاستوائية وليبيا ونيجيريا وزيمبابوي وزامبيا ومصر.
وستنظم هذه المحادثات منظمة الشراكة التركية – الأفريقية التي أنشئت عام 2008 وتستهدف تعزيز التعاون بين أنقرة والعواصم الأفريقية في وقت تئن القارة السمراء تحت وطأة أزمات أمنية وسياسية حادة.
صديق للأفارقة
وفي أحدث مؤشر على تنامي تأثير تركيا في أفريقيا، قادت أنقرة في حزيران (يونيو) الماضي جهود وساطة بين إثيوبيا والصومال اللذين شهدت العلاقات بينهما توتراً متصاعداً قبل أشهر، وتمكن البلدان من التوصل بالفعل إلى اتفاق "مثير للجدل". وتجمع تركيا علاقات قوية مع الصومال، البلد الموجود في القرن الأفريقي الذي يشهد تدهوراً أمنياً كبيراً بسبب هجمات تشنها "حركة الشباب" المتشددة.
وتاريخياً، بسطت تركيا سيطرتها على كثير من الدول الأفريقية قبل عام 1923، تاريخ تأسيس الجمهورية التركية، لكنها فقدت نفوذها جراء انهيار الإمبراطورية العثمانية ودخول لاعبين جدد هيمنوا على النفوذ هناك مثل فرنسا وبريطانيا، مما جعل تركيا تباهي بأن ليس لها ماضٍ استعماري في القارة السمراء وهي "تهمة" لم تستطِع في المقابل فرنسا التخلص منها.
وقال المحلل السياسي التركي توران كشلاكجي إن "أفريقيا تحتدم فيها الصراعات الآن بين القوى العظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا والقوى الأوروبية، لكن تركيا حينما تدخل القارة لا تفعل ما يقوم به هؤلاء".
وتابع كشلاكجي في حديث إلى "اندبندنت عربية" أن "أنقرة تقدم نفسها كصديق للأفارقة، كما أن القارة تحظى بتعاون دول كثيرة في كنف الاحترام وتعمل معها في مجالات مثل التجارة، ولذلك تنجح العلاقات في ما بينها وتركيا مقبولة لدى الأفارقة".
وخلص إلى أن "تركيا تريد أن تنجح في أفريقيا حتى يكون لها دور تجاري في القارة، وتتنافس مع قوى عظمى وتريد تكريس صداقة وتجارة مع الدول الأفريقية الصديقة".
وعلى رغم أنها تتدخل عسكرياً بصورة معلنة في دول عدة على غرار ليبيا، حيث دفعت بعناصر عام 2019 لدعم "حكومة الوفاق" برئاسة فايز السراج في مواجهة الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، إلا أن أنقرة لا تزال تُقدم نفسها على أنها "بديل" للقوى الغربية التي تفقد مواقعها في القارة السمراء.
دور عسكري وتجاري
وفي محاولتها تعزيز نفوذها في أفريقيا، تعمل تركيا منذ أعوام على ضخ استثمارات في البنية التحتية، حيث أدارت عملية بناء مطار مقديشو الدولي ومستشفيات ومدارس في الصومال ودول أخرى.
لكن دور تركيا يتجاوز ذلك بكثير، إذ إن البلاد وقعت اتفاقات للتنقيب عن الغاز الطبيعي والنفط في القارة السمراء في خطوات مثيرة، وقبل أيام وصلت السفينة التركية "عروج ريس" إلى الصومال للتنقيب عن الغاز الطبيعي والنفط في المياه الصومالية بموجب اتفاق بين البلدين ينص على القيام بأعمال تنقيب في ثلاث مناطق تبلغ مساحة كل منها خمسة آلاف كيلومتر مربع.
وبموازاة ذلك، وقعت تركيا أيضاً قبل أيام اتفاقات مع السلطات الانتقالية المنبثقة من انقلاب عسكري في النيجر في مجال التعدين.
وأفاد الباحث السياسي المتخصص في الشؤون الأفريقية سلطان ألبان بأن "القراءة التاريخية للعلاقات التركية - الأفريقية توضح بصورة جليّة أن تركيا هي رابع أكثر دول العالم تمثيلاً في القارة الأفريقية بعد الولايات المتحدة الأميركية والصين وفرنسا، ومنذ 2008 زار الرئيس التركي (رجب طيب أردوغان) أكثر من 30 بلداً أفريقياً، تأكيداً على هذا التمثيل الكبير".
ورأى ألبان أن "أحد أسرار نجاح تركيا في تعزيز علاقاتها مع أفريقيا، توجيه شركاتها للاستثمار في القارة، كخطوة ثانية بعد تعزيز الحضور الدبلوماسي النشط"، لافتاً إلى أن "من نتائج ذلك انتقال حجم التبادل التجاري بين الطرفين التركي والأفريقي من ثلاثة مليارات دولار عام 2003 إلى 26 مليار دولار عام 2021".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشدد على أن "حجم المشاريع التي قامت بها شركات المقاولات التركية في أفريقيا ارتفع إلى 71.1 مليار دولار عام 2021، من بينها 19.5 مليار دولار في دول أفريقيا جنوب الصحراء من مقاولات وأعمال".
وأضاف ألبان أن "البعد العسكري في المرتبة الثالثة للحضور التركي ضمن القارة الأفريقية، من خلال التدريبات العسكرية المشتركة مع عدد من جيوش القارة التي أتاحت مدخلاً رابعاً للأتراك، إذ باتوا منافساً قوياً للولايات المتحدة وفرنسا في تصدير السلاح التركي إلى كثير من البلدان الأفريقية".
وأنهى الباحث السياسي حديثه بالقول إنه "لدى تركيا اليوم 37 مكتباً عسكرياً في القارة الأفريقية، وارتفعت صادراتها العسكرية إلى القارة السمراء عام 2021 لتبلغ 328 مليون دولار".
أسواق وشركاء جدد
وحاولت تركيا في الأعوام الماضية استغلال صناعاتها وقوتها العسكرية أيضاً لتغلغلها في القارة السمراء، حيث أبرمت نحو 25 اتفاق تعاون عسكرياً مع دول أفريقية بما يشمل إرسال قوات وأيضاً بيع طائرات مسيّرة لكثير من الدول على غرار مالي وبوركينا فاسو، وهما دولتان انسحبت منهما منذ فترة وجيزة القوات الفرنسية والغربية.
لكن تركيا تركز جهودها بصورة كبيرة على الجانب الاقتصادي، إذ تجاوزت قيمة تبادلها التجاري مع أفريقيا الـ 40 مليار دولار عام 2022.
واعتبر الباحث السياسي المتخصص في العلاقات الدولية رابح العروسي أن "التقارب التركي – الأفريقي اليوم ليس وليد العصر الحالي بل له مدة من زمن، فمنذ نحو 23 عاماً تشتغل أنقرة على المحور الأفريقي من خلال مقاربة اقتصادية واضحة، ومنذ 2002 أي العام الذي شهد فوز حزب ’العدالة والتنمية‘ ومجيء أردوغان انفتحت تركيا على أفريقيا".
وفي تصريح خاص، أكد العروسي أن "تركيا تبحث عن أسواق وشركاء جدد لها في مختلف أصقاع العالم، وفي الجانب الأفريقي وبحكم علاقاتها التاريخية مع الدول العربية بالدرجة الأولى وأيضاً سمعتها باعتبار أن ليس لها ماضٍ استعماري، فإن ذلك يخدم أنقرة بصورة كبيرة".
وبيّن أنه "في المقابل الأفارقة الذين طردوا فرنسا والقوى الغربية يبحثون هم أيضاً عن شراكات جديدة موثوق بها وتحترم سيادتهم، واجتماع جيبوتي في اعتقادي يدخل في إطار ذلك، خصوصاً أن تركيا رائدة في عدد كبير من المجالات الاقتصادية والطبية والنسيج والطاقة والخدمات والنقل".
وأنهى العروسي حديثه بالقول إن "الأفارقة يسعون إلى نقل التجارب سواء مع الأتراك أو غيرهم، وتركيا ستجد نفسها في تنافس مع فاعلين جدد في أفريقيا مثل روسيا والصين وإيران، لكن أنقرة تسعى إلى استدامة مشاريعها وشراكاتها، خصوصاً مع الدول التي لها معها مواقف سياسية متناغمة".
وفي خضم الدخول الروسي القوي إلى أفريقيا حيث تنشر موسكو قوات لها في كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فإنه من غير الواضح ما إذا كانت أنقرة ستدخل في مزاحمة مع موسكو.