ملخص
من بين المعلومات المضللة ونظريات المؤامرة التي هيمنت على المشهد الانتخابي في الولايات المتحدة، كان الزعم بأن الديمقراطيين يستوردون مهاجرين للتصويت لهم بصورة غير قانونية، واستبدال الأميركيين البيض، إضافة إلى مقولات أن وكالات الاستخبارات الأميركية لديها خطط لاغتيال حلفاء ترمب بعد انتخابات عام 2024، وأن الهايتيين يأكلون الحيوانات الأليفة في سبرينغفيلد - أوهايو، وأن النخب تتحكم في مسار الأعاصير، أو أن ترمب جلس على منشفة سوداء، تبين أنها معطفه لاحقاً، خلال مقابلة أجراها مع قناة 'فوكس نيوز' لإخفاء أثر تبوله اللاإرادي لكبر سنّه.
مع وصول المنافسة في انتخابات الرئاسة الأميركية 2024 إلى محطتها الأخيرة، وفوز الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترمب ليكون سيد البيت الأبيض الـ 47 في تاريخ الولايات المتحدة، كان لافتاً هيمنة المعلومات المضللة والعقلية التآمرية على المشهد الانتخابي الأميركي خلال أسابيع وشهور المنافسة الشرسة بينه ومنافسته الديمقراطية نائبة الرئيس كامالا هاريس.
"يعيش الأميركيون واقعاً منفصلاً، ويواجهون سيلاً من المعلومات المضللة حول كل شيء، والعقلية التآمرية منفتحة على كل شيء". بهذه الكلمات قرأت سارة إليسون عبر تحليل لها في صحيفة "واشنطن بوست" الجو العام داخل الولايات المتحدة، مشيرة إلى خوف ناخبين كثر من التعبير عن آرائهم أو مناقشة اختياراتهم علناً، وهو ما استدعى معه أسئلة حول مدى اتساع دائرة الإيمان بـ "نظرية المؤامرة" داخل المجتمع الأميركي وأسباب قابلية انتشارها وتداعيات ذلك، في وقت تزداد المخاوف من احتمالات اندلاع عنف سياسي ومعارك قانونية بين حملتي المرشحين في أعقاب إعلان نتائج الانتخابات.
هيمنة "نظرية المؤامرة" على المشهد
وبحسب تحليل "واشنطن بوست" فإن التصويت الراهن في انتخابات 2024 يحدث في "واقع منقسم، إذ يتعين على الأميركيين التعامل مع الادعاءات المضللة، ليس فقط حول السياسة والانتخابات، ولكن حول كل جانب من جوانب حياتهم تقريباً، مثل الرعاية الصحية والتعليم والهجرة وحتى الطقس"، موضحة أن هذه البيئة المنقسمة دفعت الناس بعيداً من التحقق من الحقائق التقليدية والحجج المنطقية إلى عالم "ما بعد الحقيقة"، حيث يبدو النقاش نفسه، وهو أمر أساس للديمقراطية، خطراً.
وترجع الصحافية سارة إليسون بداية ترسخ "نظرية المؤامرة وانتشار المعلومات المضللة" في المجتمع الأميركي إلى تاريخ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) عام 2016، وفوز دونالد ترمب برئاسة الولايات المتحدة في العام ذاته، مما دفع قواميس أكسفورد لاختيار عبارة "ما بعد الحقيقة" لتكون كلمة العام، معرّفة إياها بأنها "تتعلق أو تشير إلى الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في تشكيل الرأي العام من مناشدات العاطفة والمعتقد الشخصي".
وتشرح إليسون رؤيتها قائلة إن "تجاوز مفهوم ما بعد الحقيقية عام 2016، وبعد أن كان إنكار نتائج الانتخابات الأميركية عام 2020 هو الكذبة الكبرى، أغرقت نظريات المؤامرة مجال المعلومات في عام 2024"، موضحة أن "نظريات المؤامرة تساعد الآن في تعريف الانتخابات التي كان الفائزون فيها هم من يحددونها".
وأضافت إليسون أنه "بعد خسارة ترمب الانتخابات عام 2020 أنكر نتائجها، كما فعل كثير من مؤيديه، وعليه تمحورت الكذبة الكبرى المزعومة حول رفض نتائج الانتخابات الرئاسية"، مشيرة إلى أنه "مع توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع هذا العام فإنهم يواجهون سيلاً من التأكيدات الخادعة والكاذبة التي تتجاوز مسائل نزاهة الانتخابات".
ومن بين المعلومات المضللة ونظريات المؤامرة التي هيمنت على المشهد الانتخابي في الولايات المتحدة خلال انتخابات الرئاسة الحالية، استعرضت "واشنطن بوست" عدداً منها، مثل زعم أن الديمقراطيين يستوردون مهاجرين للتصويت لهم بصورة غير قانونية، واستبدال الأميركيين البيض، إضافة إلى مقولات أن وكالات الاستخبارات الأميركية لديها خطط لاغتيال حلفاء ترمب بعد انتخابات عام 2024، وأن الهايتيين يأكلون الحيوانات الأليفة في سبرينغفيلد - أوهايو، وأن النخب تتحكم في مسار الأعاصير، أو أن ترمب جلس على منشفة سوداء، تبين أنها معطفه لاحقاً، خلال مقابلة أجراها مع قناة 'فوكس نيوز' لإخفاء أثر تبوله اللاإرادي لكبر سنّه".
ونقلت الصحيفة عن الأستاذة المشاركة في جامعة كورنيل والتي تدرس النظام البيئي المعلوماتي المعاصر والمعلومات المضللة، كلير واردل، قولها إن "الناس يسيئون فهم المعلومات المضللة على أنها معلومات فردية يمكن التخلص منها، جاهلين بذلك حقيقة عملها ببناء عقلية تآمرية مع مرور الوقت يمكن استغلالها في الظروف المناسبة"، مضيفة أن "الروايات الكامنة التي تؤدي إلى ظهور الادعاءات الكاذبة هي وقود التفكير التآمري الذي تسرب بالفعل إلى الناخبين إلى درجة أن الطلب على المؤامرة قد يفوق العرض".
من جانبها قالت المؤسس المشارك لمختبر مستقبل المعلومات في جامعة براون، ستيفاني فريدهوف، إن "أحد أسباب عدم اتفاق الناس على مجموعة مشتركة من الحقائق هو أنهم لا يعيشون في الحقائق المعلوماتية نفسها"، مشيرة إلى أن "الأمر استغرق أعواماً للوصول إلى هنا، ونحن نبتعد أكثر فأكثر عن بعضنا بعضاً".
كذلك نقلت "واشنطن بوست" عن هانا برايد سميث (26 سنة) من آن أربور بولاية ميشيغان، والتي تعمل مساعدة بيطرية في ملجأ للحيوانات وصوتت لمصلحة كامالا هاريس، قولها "كامرأة شابة عزباء فإن الأمر مخيف بعض الشيء في مواجهة هذه المعتقدات، نظراً إلى أن معظم الأشخاص الذين تعاملت معهم ممن يطلقون هذه الادعاءات هم رجال بيض في منتصف العمر"، معتبرة أنه "من الصعب أن تشعر بالأمان خلال الدخول في محادثات ساخنة وجدلية".
وبحسب "واشنطن بوست" فإن برايد سميث تحصل على معظم أخبارها من وسائل التواصل الاجتماعي والأصدقاء والعائلة، وقد شاركت في استطلاع رأي أجرته الصحيفة للناخبين المسجلين في الولايات المتأرجحة، ونقلت عنها قولها "عندما كنت أصغر من ذلك بكثير لم يكن الحديث عن السياسة أمراً خطراً، أما الآن فلم يعد الأمر كذلك".
فيما أعربت بري بوريس (18 سنة) من كونكورد بولاية نورث كارولينا، وهي خبيرة تجميل صوتت للمرة الأولى لترمب، عن ترددها في المشاركة، وقالت "أنا لا أحاول إقناع الناس بآرائي".
لماذا انتشرت "نظرية المؤامرة" أميركياً؟
بحسب تحليل "واشنطن بوست" فإن مشكلة انتشار "نظرية المؤامرة" أو الترويج للحقائق المغلوطة والمعلومات المضللة لم تبدأ منذ ظهور ترمب أو وصوله إلى الرئاسة عام 2016، وعلى رغم أنه لم يكن الأول في الترويج لمثل هكذا اتجاهات، لكن له دوراً كبيراً في نشرها منذ أول يوم تسلم فيه السلطة، موضحة "لم يبدأ الاستقطاب والشائعات الكاذبة مع ترمب، ولكنه قام بشحنها بصورة كبيرة"، إذ بدأت الولاية الأولى له في الحكم بمطالبة الجمهور بمراعاة "الحقائق البديلة"، كما قال أحد كبار مستشاريه، عند الحكم على حجم الحشود في حفلة تنصيبه، وذلك قبل أن ينتهي الأمر بـ "تمرد عنيف" وهو يهاجم وسائل الإعلام بصورة روتينية ويصفها بأنها "عدو الشعب"، ويحط من قدر الخبراء في الحكومة ويصفهم بـ "الدولة العميقة".
وتتابع، "حفرت الشكوك المتزايدة تجاه مجالات السلطة التقليدية، بما في ذلك مسؤولي الانتخابات والعاملين في مجال الرعاية الصحية والصحافيين والعلماء، الشكوك في حجر الأساس للديمقراطية الأميركية، كما ساعدت خوارزميات الإنترنت التي تفضل أكثر القصص تطرفاً وتقدمها بصورة متكررة، في تحول المعتقدات الحالية إلى عقليات تآمرية كاملة".
وتضيف أنه استناداً إلى آراء محللين فإن آلية انتشار المعلومات المضللة أو نظريات المؤامرة عملية طويلة المدى وتدرجية وتحصل على مراحل عدة، إذ يصبح معها المرء شيئاً فشيئاً أكثر تقبلاً للحقائق الغريبة البعيدة من الواقع، ويصبح أكثر استعداداً وجهوزية لتصديق ناشري المعلومات الخاطئة من المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي أو السياسيين، مما يضعف أساس المجتمع الديمقراطي ويجعله أكثر عرضة لخطر تدخل عناصر خارجية في سياق الانتخابات مثل روسيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق الصحيفة فقد أدت هذه السياقات إلى انخفاض ثقة الجمهوريين بوسائل الإعلام الرئيسة من 70 في المئة عام 2016 إلى 40 في المئة فقط عام 2024، كما أصبح 40 في المئة من الجمهوريين يفضلون وسائل التواصل الاجتماعي مصدراً للمعلومات، ويعود ذلك جزئياً لهجوم شخصيات مؤثرة مثل ترمب على الصحافة.
وأوضحت الصحيفة أن "تآكل الثقة في المؤسسات الإعلامية التقليدية سمح بازدهار نظريات المؤامرة، بخاصة خلال الأزمات الوطنية مثل الأعاصير التي هزت البلاد في الفترة السابقة أو جائحة كورونا".
وذكرت "واشنطن بوست" أنه مع هبوب عاصفتين خطرتين على الجنوب الأميركي هذا الخريف، تناغمت مجموعة من المؤثرين ومروجي الأخبار المضللة الأجانب والمحليين بقصص ومنشورات لزرع عدم الثقة والاستياء من خبراء الأرصاد الجوية الذين كانوا يقدمون معلومات عن الأعاصير، وكذلك الوكالات الفيدرالية المكلفة بجهود الإغاثة، ومن بين الأمور المثيرة حث الأفراد مواطنيهم على قتل خبراء الأرصاد الجوية الذين لم يدعموا النظرية القائلة بأن "الديمقراطيين أرسلوا العواصف لمعاقبة أعدائهم السياسيين"، كما حثوا الناس المتضررين من العواصف على تعطيل جهود الإغاثة التي تبذلها الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ، والتي كانت تعاني شائعات كاذبة بأن أموالها نفدت بسبب دعمها للمهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى الولايات المتحدة.
وكذلك عندما تحدث واقعة إطلاق نار في أحد المدارس، يجد الباحثون أن المجتمع المتضرر الذي يتعامل مع واقع المأساة يكون لديه حديث مختلف تماماً عن بقية البلاد، إذ غالباً ما يكون المجتمع في حال حداد وباقي البلاد في حال صراع حول قوانين الأسلحة. وأيضاً بالنسبة إلى الأشخاص الذين استمعوا لأعوام إلى الأخطار المزعومة للهجرة، والذين كانوا مهيئين بالفعل للاعتقاد بأن الحكومة الفيدرالية تتدخل كثيراً في حياتهم وتأخذ كثيراً من أموالهم، فإن الادعاءات الكاذبة حول الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ تتماشى مع وجهات نظرهم بأن أموال الضرائب قد أسيئ استخدامها لمصلحة الأشخاص الذين لا يحملون وثائق، وكانوا على استعداد للترحيب بهذه الادعاءات الكاذبة، إضافة إلى ما أتاحته جائحة كورونا من فرصة لنشر عدم الثقة في الخبرة والحكومة الفيدرالية، وهما من ألدّ أعداء ترمب منذ فترة طويلة، وفق الصحيفة.
أية تبعات مرتقبة؟
على وقع تدهور مكانة وسائل الإعلام التقليدية ولجوء الأميركيين إلى مصادر محلية مألوفة للحصول على الأخبار، مثل الأصدقاء والعائلة وشخصيات وسائل التواصل الاجتماعي، بحسب نتائج "مركز بيو" للأبحاث والاستطلاعات، فضلاً عن تحول الانقسام السياسي داخل البلاد إلى مشكلة حقيقية باتت تهدد نسيج المجتمع الأميركي، وظهر أثرها في الانتخابات، تطرح الأسئلة حول تبعات ترسخ فكر نظرية المؤامرة والمعلومات المضللة داخل المجتمع، ولا سيما مع ارتفاع نسبة التخوف من ردود الفعل العنيفة بين أفراد المجتمع أثناء النقاش.
وتقول "واشنطن بوست" إنه "في وقت أصبح فيه التفكير التآمري أكثر رواجاً بين المحافظين، إلا أنها لم تعد مشكلة تقتصر على جانب واحد من الطيف السياسي في البلاد"، مشيرة إلى انتشار كثير من الأكاذيب التي صممت لتشويه ترمب أو إلحاق الضرر به على الإنترنت خلال وقت سابق هذا العام، كما حدث بعد محاولة اغتياله في ولاية بنسلفانيا، حيث زعمت حينها تقارير مشككة على وسائل التواصل الاجتماعي أن إطلاق النار كان مدبراً لحشد الدعم للرئيس السابق.
وخلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وبعد أن جلس ترمب لإجراء مقابلة في برنامج "فوكس آند فريندز"، افترضت بعض حسابات وسائل التواصل الاجتماعي حينها بصورة "غير صحيحة" أنه جلس على منشفة سوداء محاولاً إخفاء أثر تبوله اللاإرادي.
وأوضحت ستيفاني فريدهوف أنه "غالباً ما نفكر في هذا الأمر على أنه مشكلة محافظة، لكنها في الحقيقة مشكلة إنسانية"، مضيفة أنه "الناس شجعوا لأعوام على التفكير باستخدام عدسة تآمرية، وهو ما لم يكن يحدث عام 2016".
واعتبرت فريدهوف أن "خلق القصص من نقص المعلومات مجرد جزء من كيفية عمل دماغنا وكيفية عمل تحيزاتنا المعرفية"، موضحة أنه "يمكن أن تبدو نظريات المؤامرة بمعزل عن غيرها غريبة، ومن الأسهل فهمها في ضوء كيفية بنائها مع مرور الوقت، فهذه عملية متتالية حيث تعتاد تدريجياً على الأشياء التي يتم إبعادها من الواقع بصورة متزايدة".
ونقلت "واشنطن بوست" عن محامي التعديل الأول من الدستور الأميركي، تيد بوتروس، وصفه أزمة المعلومات المضللة بأنها "تهديد وجودي للديمقراطية"، معتبراً أن "حرب ترمب مع الصحافة سبب رئيس للمشكلة".
وقال بوتروس إن "وجود رئيس أصبح سيد التضليل أمر صعب للغاية على الصحافة والديمقراطية"، مضيفاً أن "لدينا رئيس في حال حرب مع الصحافة والحقائق والحقيقة، وهو وضع سام للغاية بالنسبة إلى بلدنا"، ومؤكداً أنه "عندما لا تُدرك الحقائق فإن المعتقدات تتدخل لملء الفراغ".
وقالت المتخصصة في درس النظام البيئي المعلوماتي المعاصر والمعلومات المضللة في جامعة كورنيل، كلير واردل، "نحن نتطلع حقاً إلى الأشخاص الذين نعرفهم أو الذين نعتقد أننا نعرفهم، للحصول على أخبار موثوقة، لكن الثقة في الأفراد أكثر من المؤسسات يمكن أن يُساء استخدامها"، معتبرة أن "هذا الاتجاه سهّل صعود المؤثرين على الإنترنت الذين يخاطبون المشاهدين بحميمية الأصدقاء، مستغلين في كثير من الأحيان انعدام الثقة الذي زرعته أعوام من الخطاب الحزبي، حتى إن بعض المؤثرين الذين عززتهم شبكات الدعاية الممولة من روسيا مثل 'تينيت ميديا' نشروا رسائل مضللة أحياناً ومصممة لدعم ترمب، مما أدى إلى تعميق الانقسامات."