ملخص
الرئيس الأميركي جو بايدن لا يترك إرثاً حميداً في السياسة الخارجية، إذ شابت ولايته الرئاسية اضطرابات في مناطق عدة، مثل الانسحاب الكارثي من أفغانستان والغزو الروسي لأوكرانيا واستمرار الصراع في الشرق الأوسط.
ربما لا تكون فترة أربعة أعوام طويلة جداً في تاريخ البشرية، لكن من الصعب أن نتذكر الآمال والهواجس التي تملكت العالم، ولا سيما أوروبا، فيما كانت الولايات المتحدة تتجهز للتوجه نحو صناديق الاقتراع وانتخاب رئيسها في المرة السابقة.
كان الخوف الأول والمباشر هو استمرار عهد دونالد ترمب المزاجي وتياره "أميركا أولاً" لأربعة أعوام إضافية، إذ اُعتقد آنذاك بأن ذلك سيؤدي إلى تخلي الولايات المتحدة عن حمايتها لأوروبا (أو الحد من نطاقها في الأقل) إضافة إلى محاولة التقرب من روسيا مجدداً.
وكان الأمل بأن يسفر فوز جو بايدن، ليس فقط عن عودة شخص متمرس في السياسة الخارجية للبيت الأبيض، بل شخص لديه نزعة أطلسية [داعم لحلف الـ "ناتو"] تقليدية، وكذلك سيعمل على تجديد التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا ويعيد إحياء شيء من النظام بقيادة الولايات المتحدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حسناً، تحقق مراد أوروبا وتبوأ جو بايدن سدة الرئاسة، وتنفس العالم الصعداء من لندن إلى تالين، وبدأ الكلام بحماسة عن عودة الأشخاص المحترفين والمهنيين للإمساك بزمام الأمور، وبدا أن العالم سيعيش أربعة أعوام يمكنه أن يريح باله خلالها من أي هاجس يتعلق بعصر جديد من الانعزالية الأميركية والحروب التجارية واتخاذ الأخطار، وكانت وجهة النظر في لندن أن العلاقة الخاصة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة ستستأنف من حيث توقفت.
فيما تدخل الولايات المتحدة الشوط الأخير في انتخابات هذا العام تستحضر آمال عام 2020 أمامنا المقارنة الكلاسيكية بين كيف بدأت المسألة؟ وكيف تطورت؟، إذ بينت الأيام أن تلك النقاط الإيجابية برأي أوروبا عندها، تلك الأيدي الأمينة والدعم الصلب للـ "ناتو"، لم تحقق الاستقرار بالدرجة المتوقعة، ويجوز القول حتى إن آراء بايدن المتجذرة ونظرته الأطلسية التقليدية جعلت إدارته أقل مرونة وابتكاراً من المطلوب في مجال السياسة الخارجية.
وربما يصح القول بأن بداية مشكلاته كانت مع الانسحاب الفوضوي من أفغانستان خلال أول صيف قضاه في البيت الأبيض، فقد أساءت الاستخبارات الأميركية والبريطانية تقدير سرعة تقدم "طالبان"، وفيما حركت ألمانيا اتصالاتها مع الأطراف في آسيا الوسطى من أجل تسهيل عمليات الإجلاء، كررت المملكة المتحدة والولايات المتحدة مشهد الانسحاب المهين من سايغون، إنما على مستوى أكبر بكثير، وقد تخلى البلدان عن حلفاء ومعدات وخسرت الولايات المتحدة 13 جندياً من المارينز في هجوم إرهابي استهدف مطار كابول، لقد كان فشلاً ذريعاً.
وعلى امتداد خريف ذلك العام تصاعد التوتر بين روسيا وأوكرانيا، ولم تفلح المحاولات الغربية المطولة في ردع روسيا، وفي الـ 24 من فبراير (شباط) 2022 حولت روسيا حرباً استمرت عقداً من الزمن في شرق أوكرانيا إلى أول غزو كامل لدولة أخرى ذات سيادة منذ الحرب العالمية الثانية.
وإزاء عزم أوكرانيا على القتال لم يكن أمام الولايات المتحدة وأوروبا من خيار سوى دعم أوكرانيا والتوجه الغربي الذي تدافع عنه، ولا تزال الحرب مستعرة مع أن الفوز يبدو الآن بعيد المنال بالنسبة إلى أوكرانيا.
ومن ناحية أخرى لا تلوح في الأفق أية نهاية لمختلف الصراعات التي اندلعت في الشرق الأوسط، بعد المجزرة التي ارتكبتها "حماس" بحق الإسرائيليين في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ولم يكن من الممكن أبداً ألا ترد إسرائيل، لكن حجم ذلك الرد وقوته وتبعاته فاقت معظم التوقعات.
ولو جمعنا كل هذه الصراعات فهي لا تشكل سجلاً خارجياً إيجابياً، لا ذلك التورط المكلف في أفغانستان الذي دام 20 عاماً وانتهى بانسحاب مخز مع عودة "طالبان" للحكم، وإلغاء كل التقدم المُحرز على الصعيد الاجتماعي، ولا أول حرب شاملة تشهدها أوروبا منذ 80 عاماً، وهي حرب عجزت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في الـ "ناتو" عن الفوز بها، أو لم يكن لديها الرغبة في ذلك، ولا الوضع الذي تفجر وأفرز صراعات عدة في الشرق الأوسط ليزعزع لبنان ويهدد بحصول مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران.
أضف إلى ما تقدم مدى انشغال الولايات المتحدة بهذه الجبهات التي تورطت فيها والتهائها عما يعتبره الكونغرس وعدد كبير من الأميركيين أكبر تهديد بالنسبة إلى الولايات المتحدة، أي الصين، والخطر الذي يحدق بتايوان برأي بعضهم في حال أحست الصين بوهن الولايات المتحدة في أماكن أخرى، والسؤال العملي جداً عن الدرجة التي قد يدفع بها تورط الولايات المتحدة على جبهتين، في أوروبا والشرق الأوسط، إلى التساؤل حول قدرتها على فتح جبهة ثالثة في المحيط الهادئ.
ومن المنصف أن نقول بأن جو بايدن يترك وراءه سجلاً اقتصادياً لا بأس به في الداخل، لكن لا مفر من النظر إلى الرئيس الأميركي وتقييمه أيضاً بصفته زعيماً نفوذه عالمي، وقد أخفق في ممارسة السلطة التي تتناسب وهذا الدور، مما يعزز الانطباع بأن الولايات المتحدة في تقهقر.
وقد يتساءل المرء أيضاً إلى أي حد يمكن منطقياً تحميله مسؤولية أي من هذه المشكلات، وقد يُقال إن بايدن زُج به في ما اعتبره بعضهم انسحاباً باكراً من أفغانستان بسبب الاتفاق الذي أبرمه ترمب مع "طالبان"، ومن ناحية أخرى كان إنهاء تلك الحرب يلقى صدى شعبياً في الداخل الأميركي، وكان بايدن يملك الوقت الكافي لتنظيم العمليات وإقناع الحلفاء المعارضين للفكرة (ومن بينهم المملكة المتحدة)، لكن ذلك لم يكن انسحاباً فعالاً ووقوراً.
هل كان أي رئيس آخر قادراً على تجنب حرب أوكرانيا والغزو الروسي الذي أشعل فتيلها؟ لا شك في أن ترمب يعتقد أنه قادر على ذلك، وسنرى ما ستكشفه المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، والتي أعتبر أنها تعرضت لانتقادات غير عادلة، في مذكراتها المرتقبة قريباً.
شخصياً أعتقد بأنه كان بالإمكان تفادي الحرب ولو في آخر لحظة لو تبنت الولايات المتحدة موقفاً أقل تجاهلاً لهواجس روسيا الأمنية التي عبرت عنها خلال مساعيها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة والـ "ناتو" في ديسمبر (كانون الأول) 2021، وربما كان بالإمكان إيقاف الحرب قبل أن تلحق بأوكرانيا كل الأضرار التي يرجح أنها تكبدتها الآن لو أيدت الولايات المتحدة المفاوضات في بيلاروس وإسطنبول خلال أشهر الحرب الأولى.
أما بالنسبة إلى الشرق الأوسط فيمكن لإدارة بايدن أن تزعم بصورة معقولة بأنها لم تكن لتقدر على منع هجمات "حماس" ولا كبح جماح رد الفعل الإسرائيلي الأولي، وقد يلوم شخص ذو عقلية ميكافيللية ماكرة ترمب حتى على تأجيج الاستياء الفلسطيني من خلال التفاوض على اتفاقات أبراهام التي اعترفت بموجبها دول خليجية عدة بإسرائيل وتجاهلت الفلسطينيين إجمالاً.
لكن في مسار الصراع الذي تكشف لاحقاً ظلت الولايات المتحدة متخلفة بخطوة أو أكثر عن تطورات الأحداث، في تعارض مع معظم الآراء الدولية، وإما كما بدا عاجزة أو غير مستعدة للتأثير في حليفتها إسرائيل كي تحقق وقفاً لإطلاق النار، فهل كان رئيس آخر يستطيع أن يتصرف بصورة أفضل؟ ربما ليس رئيساً متعمقاً إلى هذه الدرجة في العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل مثل بايدن.
ولا شك في أن الجدالات حول من يتحمل مسؤولية إخفاقات بايدن المؤكدة في السياسة الخارجية ستستمر إلى وقت طويل، وستظل مزاعم ترمب بأنه كان ليتصرف بصورة أفضل فرضيات حتى لو عمل على مراجعة بعض هذه الصراعات أو كلها، كما سيضطر أن يفعل.
إن تزامن الانتخابات مع دخول الولايات المتحدة، وإن عن بعد، في صراعين يدوران في منطقتين مختلفتين من العالم، يخلق أخطاراً بالنسبة إلى المرحلة الانتقالية، فهل تقرر أي من الجهات المتحاربة أن تستغل هذه الأسابيع التي تكون فيها الولايات المتحدة إجمالاً بين زعيمين؟ هل يخاطر بايدن بتدخل درامي في محاولة منه لحل أحد الصراعين أو الاثنين معاً حفاظاً على إرثه؟
من الصعب تخيل هذا السيناريو نظراً إلى الأخطار التي تنطوي على القيام بهذه الخطوة، كما العُرف القائل بأن الرؤساء الذين توشك ولايتهم على الانتهاء لا يُقدمون على عمل يمكنه تقييد أيدي خلفائهم.
ستبقى كل هذه التساؤلات مفتوحة حتى بعد فوز ترمب، لكن الأمر الوحيد المؤكد الآن، مع أنه بدا غير معقول منذ أربعة أعوام، هو أن جو بايدن يخلف وراءه مشهد سياسة خارجية يعج بإشكالات أكبر بالنسبة إلى الولايات المتحدة من تلك التي ورثها.
© The Independent