ملخص
رحل كمال رحيم (1947: 2023) قبل أن ترى روايته الأخيرة "بنداري" (دار العين) النور، تلك الرواية التي يقدم فيها صورة حية لعالم القرية المصرية، وهو العالم الذي أبدع في توثيقه عبر أعماله السابقة، ومنها: "أيام لا تنسى" و"قهوة حبشي" و"دكاكين تغلق أبوابها".
تتناول رواية كمال رحيم الأخيرة حياة "بنداري"، الحارس المخضرم الذي عاش في عهد الملكية وشهد التحولات السياسية بعد ثورة الـ23 من يوليو (تموز) 1952. عمل "بنداري" حارساً على "الشونة" الخاضعة لبنك التسليف، واختاره صاحب البنك لهذه المهمة بسبب قوته الجسمانية، لكن بعد تأميم الشونة تحول بنداري إلى مجرد موظف حكومي ليس ثمة ما يميزه عن غيره. تبدأ الرواية بلحظة حاسمة في حياته: "اليوم هو آخر يوم لعم بنداري في خدمة الحكومة"، اليوم الذي لم يستعد له، الذي قلب حياته رأساً على عقب، إذ فقد فيه السلطة التي كانت تجلب له احترام الناس وعطاياهم. تتكشف فيه أزمته بعد أن فقد مصدر دخله الأساسي، ليصبح معتمداً على "معاش الحكومة"، الذي يصفه أحد شخصيات الرواية بأنه يذل الرجال قائلاً: "ملعون أبوك يا معاش الحكومة، لا تعول ولا تستر، ولست فالحاً سوى في كسر الأنف وخفض الجباه" ص 143. بأسلوب واقعي، تضيء الرواية على مشاعر الفقد والإحباط الناتجة من التقاعد، وما يرافقه من تحولات في المكانة والدخل، مما يجعلها وثيقة إنسانية تعكس قسوة الحياة على المتقاعدين وتغير الأدوار الاجتماعية للأفراد في المجتمع الريفي.
شخص عادي
لا تقدم رواية "بنداري" شخصية عظيمة الخطر، بل تعرض لحياة شخصية بسيطة من الطبقات المهمشة، وهي الشخصيات التي لم يكن يلتفت إليها في الأدب قبل ظهور فن الرواية والثورة الصناعية. مع هذا التغير برز اهتمام القراء بقصص "الناس العاديين"، وبدأ الأدب الواقعي يعبر عن هموم وطموحات الطبقات المتوسطة والدنيا في المجتمع. تقدم الرواية سيرة رجل نشأ في أسرة تعاني الفقر المدقع، "سنكوح ابن سنكوح، والعائلة كلها على هذا النحو" ص 29. يعمل والده حلاقاً للحمير في العلن، وفي الخفاء يسرق الطيور ليطعم بها أسرته الصغيرة. أما والدته فكانت تعمل مساعدة "داية" لكنها لم تحظ بثقة الأهالي، خشية أن تبدل مولوداً بآخر. أما بنداري فبدأ العمل برعي بهائم أحد الموسرين، غير أن لديه تطلعات وطموحات تجاوزت واقعه، "كان واسع الأفق، وله أفكار وتطلعات وليس زلنطحياً كالسيد الوالد" ص 30. وحين أعلنت "الشونة" حاجتها إلى خفراء جدد، تقدم للوظيفة، إذ رأوا فيه المواصفات المثالية: "بنية قوية، قفا عريض، غشيم بتقاطيع وجه صارم" ص 30.
حكمة الحمير
ترسم الرواية صورة للفقر المدقع الذي كانت تعيشه القرى المصرية في تلك الحقبة، وتسرد طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية داخل القرية، وتركز على العلاقة الخاصة بين الفلاحين ودوابهم. يظهر الكاتب علاقة بنداري الوثيقة بالحمير، فهو قادر على ترويضها والتواصل معها أكثر من قدرته على التواصل مع البشر، بل إنه يستشيرها، ويستخلص منها الحكمة. ففي ساعة حزنه الشديد في اليوم الذي انتهت فيه خدمته في الحكومة لم يجد كائناً يشكو له مما حل به سوى الحمار العاطل عن العمل في غيط "أبي اليزيد". رأى فيه صورة لنفسه، فقد قرر هذا الحمار التقاعد رافضاً العمل في "الشونة"، ولم يسمح لأحد بامتطائه نهائياً بعد أن أمن مستقبله في حقل أحد المزارعين. ومن حياة هذا الحمار، استلهم بنداري درسه وهو يخاطبه: «لقد علمتني درساً لن أنساه: ألا أبكي على ما كنت فيه، بل أتعارك مع الحياة وأحصل على ما أريد"، "قبل مغادرته، رمق الحمار بنظرة تقدير كما لو أنه معلم وأستاذ، فيما الحمار ينحني على سبيل التحية» ص 33. هذه العلاقة الفريدة بين بنداري والحمير ليست غريبة، فهو ابن لحلاق حمير وعمل سابقاً في رعي البهائم.
صانع ألعاب
تبرز الرواية الأهمية الكبرى للنشاط الاقتصادي الأساسي في مصر خلال تلك الفترة، وهو زراعة القطن ووسائل بيعه، فبعدما تجاوز بنداري صدمة خروجه من الخدمة وفقدانه للسلطة، قرر التوجه للعمل في تجارة القطن عبر شرائه من أصحاب الملكيات الزراعية الصغيرة، مستعيناً بالعم حبشي، وكذلك بخبرة مديره السابق العم موريس، الذي اضطرته قلة راتبه التقاعدي إلى العمل تابعاً لدى بنداري بعد أن كان في السابق مديراً له، يسخط على الزمن وتقلباته الذي حوله من رئيس إلى مرؤوس.
يتقدم بنداري وموريس إلى المزارعين، ينصبان شراكهم من دون شراء القطن، ثم يظهر حبشي ليشتريه بسعر أقل مما اتفق عليه شركاؤه: "هكذا كانت خطة بنداري، هو صانع الألعاب الذي يمرر الكرة، وحبشي عليه تسجيل الأهداف، أما موريس فمجرد ديكور أو برستيج" ص 121.
وتكشف الرواية من خلال هذه المشاهد عن حيل التجار وأساليبهم في التفاوض مع المزارعين لشراء القطن بأسعار زهيدة، وتخزينه في مستودعات خصوصاً، ثم بيعه لاحقاً عند ارتفاع الأسعار للاستفادة من فرق الأسعار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سرد شعبي
الأسلوب السردي في هذه الرواية جاء متوافقاً مع جو القرية وأسلوب الحكي الريفي، الذي يعتمد على سرد حكائي بسيط ومباشر، مشابه للأسلوب الذي يتداول في القرى المصرية. هذا يظهر منذ بداية الرواية، إذ هناك متحدث يسرد حكايته لمتلق يستمع إليه، وليس مجرد قارئ عادي: "لا يهمنا الآن سوى شونة بلدتنا، ما شاء الله كانت مملكة، أربعة فدادين في صرة البلد..." ص 7. ويزداد هذا الأسلوب وضوحاً في نهاية الرواية، إذ يأخذ السارد شكل راو للحكايات الشعبية: "يا سادة كرام، لا يحلو الكلام إلا بالصلاة والسلام على رسولنا سيد الأنام، وسيدنا عيسى الذي شفى الأبرص والمجذوم، وسيدنا موسى الكريم الكليم، واسمعوا الآن ما تبقى من هذه الحكاية فقد جدت أمور وأمور" ص 143.
هذا الأسلوب في الحكي يحمل دلالات مهمة، إذ ينسجم مع الفن الروائي الذي يسمح للشخصيات الهامشية بأن تصبح بطلة في الأعمال الأدبية. ومن جانب آخر يرصد عملية التحول في سيرة الشخصيات التي باتت تروى للجمهور، إذ اختار المؤلف أن يقدم سيرة بنداري بأسلوب الراوي الشعبي، وهو أسلوب استخدم قديماً لرواية سير أبطال مثل أبي زيد الهلالي وعنترة بن شداد والزير سالم، ولكنه في هذه الرواية يروي سيرة شخص عادي يحمل مزيجاً من الخير والشر.
كما أن اعتماد الكاتب على أسلوب سردي متوائم مع بيئة القرية انعكس في اختيار اللغة المستخدمة، إذ استقى كثيراً من المفردات المحلية من تلك البيئة. دفعه ذلك إلى استخدام هوامش لتوضيح بعض الألفاظ المحلية التي قد تكون غامضة لمن لم يعش في القرية أو لم تعد تستخدم في الوقت الحالي، مثل مصطلحات متعلقة بالقطن ودرجاته نظراً إلى ندرته اليوم، ومن الأمثلة على هذه الألفاظ: (مشلوح، أي مطرود من وظيفته، يخنصر، أي يغش في الحساب، فتلة حلوة جيزة 94 في إشارة إلى أحد أصناف القطن الجيدة، سنكوح ابن سنكوح أي بلا أصل).
تتسم الرواية أيضاً بملامح السرد الشعبي التي تركز على الحكي أكثر من الوصف، مما يزيد من سرعة الإيقاع ويختصر كثيراً من التفاصيل، ولكن قد يعطي هذا للقارئ انطباعاً بأن الرواية انتهت بصورة متعجلة، فبعد نجاح بنداري في تجارة القطن، تختتم الأحداث بصورة مفاجئة بوفاة أبطال الرواية.