Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المسرح الباريسي يتذكر شوينبرغ من خلال 12 حياة عاشها

السينمائي الفرنسي برتران بونيلو يعود إلى نشاطات الموسيقي التي لا تحدها حدود

أرنولد شوينبرغ مبدع استثنائي (ويكيميديا)

ملخص

كان المبدع النمسوي الاستثنائي أرنولد شوينبرغ موسيقياً بالتأكيد وهو بتلك الصفة لحن عديداً من الأعمال والقطع الأوركسترالية والليدر (الأغنيات المنفردة والجماعية) وخاض الرسم والنقد والهندسة وكتب قطعاً أدبية وروايات وقصصاً قصيرة وكان في بعض الأحيان قائد أوركسترا وسوى ذلك من نشاطات تحتاج في مجموعها إلى حيوات لا تحد

قد يكون من الطبيعي لدى أي حديث عن المبدع النمسوي الاستثنائي أرنولد شوينبرغ أن يعد الرقم 12 أساساً في توصيفه. أليس هو المبتكر الأساس للموسيقى الإثني عشرية، والتي كانت محل سخرية واستنكار في مطلع القرن الـ20 وتحديداً في فيينا التي كانت توصف بأنها مدينة الكابوس السعيد، فيينا فرويد وشنيتزلر والتجديد الموسيقي الذي خاض غمار الحداثة من إذ لم يكن أحد يتوقع، كما فيينا كليمت وكوكوشكا وغيرهما من كبار المبدعين في مضمار الرسم؟ ومع ذلك فإن الاستعراض الذي يقدم خلال هذه الأيام في العاصمة الفرنسية تحت عنوان "حيوات شوينبرغ الاثنتي عشرة" قد يكون يقصد ذكر هذا الرقم بوصفه يحيل إلى تلك الموسيقى التي ارتبطت منذ أكثر من قرن من الزمن بصاحب الشأن، لكن مشاهدة ذلك العرض ستقترح علينا بعض الاختلاف في القصد. ففي نهاية الأمر يرينا أن العنوان يعني أيضاً الإشارة إلى الموضوع التاريخي لما يرتبط بالحياة التي عاشها شوينبرغ، حياة يمكن تقسيمها على الرقم 12 انطلاقاً من نشاطات هذا المبدع في مضمار الفنون والمهن التي أبدع فيها.

ملكوت الفن المتنوعة

كان شوينبرغ موسيقياً بالتأكيد وهو بتلك الصفة لحن عديداً من الأعمال والقطع الأوركسترالية والليدر (الأغنيات المنفردة والجماعية) وخاض الرسم والنقد والهندسة وكتب قطعاً أدبية وروايات وقصصاً قصيرة وكان في بعض الأحيان قائد أوركسترا وسوى ذلك من نشاطات تحتاج في مجموعها إلى حيوات لا تحد. وهي على أية حال حاجات متعددة تبرر ذلك العنوان بصورة مدهشة. أو ذلك في الأقل ما افترضه المخرج السينمائي الفرنسي برتران بونيلو مبتكر هذا العمل الذي قال لمناسبة تقديم العرض للمرة الأولى قبل أشهر قليلة من الآن، إنه لو لم يكن سينمائياً لفضل أن يكون قائد أوركسترا. ومن هنا بدا العرض وكأن بونيلو يسعى فيه إلى رسم نوع من أوتوبورتريه له هو نفسه إنما من خلال الحديث عن شوينبرغ الذي كان التمثل به شغفه منذ الصبا. ومن هنا تلك الحميمية التي أسبغها على العمل ككل والتي لفتت أنظار النقاد والمعلقين حقاً وبخاصة أنهم لم يكونوا يتوقعون في النهاية أن يجدوا أنفسهم وسط مجرى عمل يحكي تحديداً الحميمية في موسيقى تتسم بقدر كبير من البرودة الفنية في الصورة والموضوع. ليكتشفوا من خلال النظرة الجديدة التي أسبغها بونيلو على استعراضه من عاطفية حادة تمتد من أول أعمال شوينبرغ، "ليلة متغيرة" خلال عام 1909، إلى آخر أعماله الكبيرة مع الهجمة النازية عبر العمل المسمى "كول نيدر" خلال عام 1938.

إذاً، انطلاقاً من حياة مبتكر واحد من أكثر الفنون برودة تمكن بونيلو من أن يضفي قدراً مقنعاً من التماسك في نظرة الفن إلى الإنسانية، نظرة مغرقة في تعبيريتها تستند إلى بنيان أسلوبي وسياسي في الوقت نفسه ينطلق من الخبو الأخير لنيران الرومانسية إلى اشتداد وطأة النازية، من ثمَّ وسم النص الذي اشتغل عليه بتتابع كروماتيكي، يتبع تدويناً تاريخياً متلاحقاً. وكان واضحاً هنا أننا أضحينا أمام نظرة جديدة بات لا مفر من أخذها في الحسبان في أية استعادة لتاريخ وسيرة وإنجازات أرنولد شوينبرغ (1876-1951)، الذي عرف دائماً بكونه صاحب واحدة من كبرى الثورات في عالم موسيقى القرن الـ20، وها هو استعراض برتران بونيلو يأتي اليوم ليخبرنا أنها كانت ثورة بالتأكيد ولكنها ليست الثورة التي نعتقد.

شوينبرغ الكاتب

نعرف عن أرنولد شوينبرغ أنه كان واحداً من أبرز الموسيقيين الأوروبيين عند بدايات القرن الـ20، خصوصاً بكونه واحداً من مؤسسي الموسيقى الإثني عشرية في فيينا "الكابوس السعيد". ونعرف عنه أنه غالباً ما كتب كلمات أوبراته ومواضيعها بنفسه، على غرار سلفه الألماني الكبير ريتشارد فاغنر. ونعرف أنه كان إضافة إلى هذا رساماً جرب حظه في إطار نوع خاص من التعبيرية الشاعرية… ولا يفوتنا أن نتذكر أن واحداً من كبار الفلاسفة الأوروبيين في النصف الأول من القرن الـ20 ثيودور أدورنو خصه بدراسة بالغة الأهمية تركزت خصوصاً على أوبراه الأشهر "موسى وهارون". ويبقى علينا أن نتناول هنا جانباً آخر لكن ليس أخيراً من جوانب موهبته، نشاطه ككاتب وناقد ومؤرخ وتحديداً في مجال الموسيقى. فالحال أن شوينبرغ لم يتوقف طوال أعوام عديدة من حياته عن خوض الكتابة النقدية والتحليلية حول الموسيقى والموسيقيين، فقد تجمعت له بين عامي 1912 و1950 عشرات الدراسات المتنوعة التي يمكن القول إن كلاً منها أثار في زمنه صخباً لا يقل عن الصخب الذي أثارته إبداعاته الأخرى.

غير أن شوينبرغ لم يجمع تلك الدراسات بنفسه بل جمعت مرتين من طريق غيره، المرة الأولى خلال عام 1950 قبل فترة يسيرة من رحيله، مما أتاح له مشاهدة النسخ الأولى من الكتاب الذي صدر حينها في نحو 224 صفحة ليضم نحو 15 دراسة، أما المرة الثانية فكانت خلال عام 1975 حين صدر الكتاب في حجم مضاعف أي في أكثر من 550 صفحة هذه المرة، وأضيفت إليه عشرات المقالات والدراسات التي كان بعضها اكتشف بعد رحيل المؤلف وبعضها كان هو فضل عدم نشره في حياته. وبهذا اكتمل في المرة الثانية وفي كتاب ضخم نسبياً -لكن يقل قيمة عما كان محتوى الطبعة الأولى إلى حد ما- المتن الكتابي لمبدع كان يصر على خوض كل مجال إبداعي يمكنه الخوض فيه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مواهب أخرى

والحقيقة أن المفاجأة الطيبة هنا كانت أن مهارة شوينبرغ في الكتابة والتحليل لم تكن في صورة عامة أدنى من مكانته في التلحين أو الرسم، ناهيك بأن ثمة من بين دراسات الكتاب مما أدى إلى نوع من إعادة النظر في علاقة حياة شوينبرغ بإنتاجه وكذلك نظرته إلى بعض رفاقه وأسلافه. وحسبنا هنا أن نقرأ دراستيه عن ماهلر وبرامز أو الدراسات الـ10 التي ترد تحت عنوان "موسيقى حديثة" أو "الموسيقى الفولكلورية والنزعة القومية" وبخاصة "القلب والعقل في الموسيقى"، وتلك الدراسة الخاصة التي كتبها بالفرنسية تحت عنوان "نعود دائماً"… لنتيقن من أن الرجل كان ينظر بجدية مطلقة إلى كتاباته الموسيقية بل يعدها في بعض الأحيان جزءاً أساساً من إبداعه الموسيقي نفسه، ولعل خير مثال هنا هو ذلك النص الذي أعطاه عنوان "موسيقى جديدة، موسيقى بائدة، الأسلوب والفكرة"، ففي هذه الدراسة التي كتبها شوينبرغ خلال عام 1946 لتكون بهذا أحد آخر نصوصه، حرص على أن يصفي حسابه مع كل أولئك الذين وقفوا ضد تجديداته منذ بدايات القرن، معتبرين الموسيقى التي يبدعها –وكذلك موسيقى رفاقه في حركته التجديدية من ألبن برغ إلى أنطون فيبرن وحتى سترافنسكي– "فناً بارد الأحاسيس يبتدعه مدعون يلحنون من دون أن يتركوا مكاناً للقلب والعاطفة في أعمالهم".

هذا كله نجده بين صفحات هذا الكتاب الضخم الذي لا يخلو من صفحات شاعرية تضيء كالنيازك وسط زحام من النصوص النظرية والتقنية، أبدعها ذاك الذي قال عن نفسه يوماً "إنني قصير القامة وقصير الساقين وأصلع الشعر على رغم هالة من بعض الشعر الأسود تحيط برأسي، أنفي كبيرة ومدببة وعيناي سوداوان كبيرتان وحاجباي كثيفان، ربما كان فمي أفضل ما لدي. معظم الوقت أسير ويداي متشابكتان وراء ظهري فيما كتفاي منحنيتان". بهذه العبارات وصف أرنولد شوينبرغ نفسه حين طلب منه ذلك ذات مرة. والحال أن شوينبرغ الذي قدم هذا الوصف كان شوينبرغ الرسام أكثر منه شوينبرغ الموسيقي. بل حتى شوينبرغ الكاتب الساخر بقدر ما كان شوينبرغ الرسام والموسيقي هو الذي كان في مطلق أحواله علماً من الأعلام البارزين في عوالم فيينا بدايات هذا القرن، بل كان يعد نفسه بموافقة الآخرين معلماً من معالم عاصمة الثقافة والانحطاط الأوروبيين خلال تلك المرحلة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة