ملخص
منذ إعلان نتائج الانتخابات الأميركية تعيش أوروبا قلقا كبيرا من عودة الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، ليس بسبب تأثير خططه التجارية في اقتصادات دولها فحسب، بل أيضاً بسبب استراتيجيات تضع القارة العجوز أمام استحقاقات أمنية وسياسية وصحية وبيئية كبيرة يصعب تحملها في ظل متغيرات دولية ومحلية كثيرة طاولتها خلال الأعوام الأربعة الماضية.
عندما حسمت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة، تسابق زعماء أوروبا على تهنئة المرشح الجمهوري دونالد ترمب بالصيغة ذاتها تقريباً، وفحواها أن "التعاون بين دول القارة وأميركا قديم وسيستمر لمصلحة شعوب الغرب"، لكن العائد إلى البيت الأبيض بعد أربعة أعوام ازدحمت بالمتغيرات الدولية والأوروبية والمحلية يضع في الاعتبار مصلحة بلاده أولاً ومن بعدها الطوفان، وفق القول الفرنسي المأثور.
ليس كل قادة أوروبا قلقين بالقدر ذاته من عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، فللرئيس الجمهوري حلفاء زاد عددهم بوضوح في القارة العجوز خلال السنوات الأربع الماضية، وهؤلاء احتفلوا بفوزه كأكبر "جرعة" دعم لليمين على اختلاف درجاته وتوجهاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، في حين يراه اليساريون والليبراليون انتكاسة لجهود سلفه جو بايدن في مساندة قضايا ومنظمات كثيرة حول العالم.
عندما جاء ترمب إلى السلطة عام 2016، كان نظراؤه الفاعلين في أوروبا ينتمون إلى التيارات المعتدلة مثل المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ورئيس فرنسا إيمانويل ماكرون ورئيس الحكومة الهولندية مارك روته ونظيره في إيطاليا جوزيبي كونتي، ولم يبقَ من هؤلاء سوى ماكرون الذي يتعكز على حكومة أقلية قد تسقط في لحظة لأنها محاطة بخصوم كثر من اليمين واليسار فازوا في انتخابات البرلمان الأخيرة قبل أشهر.
على رأس الحكومة في روما اليوم زعيمة الحزب اليميني "إخوة إيطاليا" جورجيا ميلوني، وفي برلين انهار تحالف المستشار الوسطي أولاف شولتز بعد فوز ترمب مباشرة ومضت البلاد إلى انتخابات عامة مبكرة في فبراير (شباط) عام 2025، يستعد لها جيداً "حزب البديل لأجل ألمانيا" اليميني الذي حقق انتصارات كبيرة في انتخابات الولايات خلال السنوات الماضية ويُتوقع أن يفجر مفاجأة في الاستحقاق المقبل.
في هولندا، يعتبر "حزب الحرية" اليميني المتطرف بقيادة خيرت فيلدرز، الشريك الأكبر في الائتلاف الحكومي، أما المجر فيقود حكومتها الرئيس اليميني فيكتور أوربان الذي استضاف "القمة السياسية الأوروبية" في بودابست قبل أيام وأطلق العنان لنفسه في حث زعماء القارة على مناقشة رؤيته للسلام في أوكرانيا استناداً إلى حقيقتين، الأولى هي علاقته الجيدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والثانية عودة ترمب.
وفي بولندا، يعاني رئيس الوزراء المعتدل دونالد توسك تداعيات سياسات الشعبويين الذين قادوا البلاد خلال الأعوام الماضية، ومعاناة توسك مع اليمين المتطرف اليوم ستتسع لتشمل كامل أوروبا مع عودة الرئيس الجمهوري وفق أرميدا فان ريج، الباحثة في الشؤون الأوروبية بمركز "تشاتام هاوس" ببريطانيا التي حقق فيها نايجل فاراج، صديق ترمب وزعيم حزب "ريفورم" اليميني، انتصاراً كبيراً في الانتخابات البرلمانية قبل أشهر ووصل مع أربعة من رفاقه إلى مجلس العموم للمرة الأولى في تاريخه.
تقول ريج إن الصلة بين القادة الشعبويين عبر الأطلسي هي مصدر قلق كبير، فلم يعُد ترمب معزولاً في أوروبا بل محاطاً بحلفاء يتفق معهم على "التهديد الوجودي" للهجرة والحاجة إلى "القيم العائلية التقليدية" و"مناهضة فكر اليقظة"، وباختصار هم برأيها، يتشاركون في نظرة "غير ليبرالية" للعالم تهدد المشروع الأوروبي.
أخطار أمنية
وبعيداً من قضايا الهوية والعائلة والدين، ثمة قاسم مشترك بين ترمب والشعوبيين في أوروبا يتمثل في خطة إنهاء حرب أوكرانيا على أساس "وقف القتال وليس إحلال السلام"، وفق مستشار الأمن القومي البريطاني جوناثان باول، وهنا يجد المعارضون أنفسهم أمام خيارين، إما التسليم بمشيئة رئيس أميركا الجديد أو تحمل كلفة الحرب عسكرياً واقتصادياً بمفردهم وبعيداً من حلف "الناتو" الذي تقوده الولايات المتحدة.
الباحث في مركز "السياسة الأوروبية" بول تايلور اختصر الأمر على النحو التالي، إن أراد ترمب وقف حرب أوكرانيا على أساس الواقع الجديد الذي خلقته في جغرافيا البلدين، فهو يضع قادة القارة أمام استحقاق القبول أو اللجوء إلى عقد صفقات سلاح كبيرة مع واشنطن تقنع أو "تغري" الرئيس الأميركي الجديد بمواصلة دعم كييف ضد موسكو، أما الخيار الثالث فهو إدارة ذلك الصراع بجهود أوروبية بحتة.
والوجه المشرق في الخيار الأخير وفق تايلور، هو أنه يحرض الاتحاد الأوروبي على التعاون أكثر مع بريطانيا عسكرياً وأمنياً، ولكن ذلك قد لا يكفي لنصرة أوكرانيا ويمكن أن يتسبب في انقسام الاتحاد نتيجة لاختلاف وجهات النظر حوله، وللكلفة الاقتصادية الكبيرة التي يحتاج إليها ويصعب تحملها مع اقتصادات يتوقع لها أن تئن تحت وطأة تعريفات جمركية يخطط ترمب لفرضها على واردات بلاده من أنحاء العالم.
وبغض النظر عن أي خيار يتبناه الأوروبيون في ما يخص أوكرانيا، فإن الحقيقة التي يتفق عليها الجميع وفقاً لتايلور، هي أن الدول الأوروبية في عهد ترمب ستشعر بحماية أقل من حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، كما سيجب عليها دفع أموال أكثر لتعزيز موازنة "الناتو" كما يريد الرئيس الأميركي الجديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تداعيات اقتصادية
على المستوى الاقتصادي، سيترجم شعار "أميركا أولاً" الذي يرفعه ترمب منذ ولايته الأولى، من خلال رسوم جمركية يفرضها على واردات بلاده بنسبة 10 إلى 20 في الماة (وتصل إلى 60 في المئة على سلع الصين)، على رغم تحذيرات خبراء الاقتصاد من التأثير الضار لذلك في النمو الاقتصادي للولايات المتحدة وارتفاع الكلف بالنسبة إلى المستهلكين، فإن سياسة الرئيس الجمهوري العائد إلى البيت الأبيض تركز على تقليص العجز التجاري أكثر من فتح فرص جديدة في السوق لأسباب جيوسياسية.
من وجهة نظر كبير الاقتصاديين في البنك الهولندي "أي أن جي" كارستن برزيسكي سيتحقق "أسوأ" كابوس اقتصادي في أوروبا من خلال عودة ترمب إلى البيت الأبيض، محذراً من أن تداعيات السياسات المالية والجمركية للرئيس الجمهوري الجديد قد تدفع منطقة اليورو إلى "ركود كامل" خلال العام المقبل، على حد تعبيره.
وحذرت لويزا سانتوس، نائبة مدير "مجموعة العمل الأوروبية" التي تمثل آلاف الشركات من أن التعريفات الجمركية سترفع الكلف وتعوّق الاستثمار، وهي تأمل في أن يعيد الرئيس ترمب النظر فيها بسبب أهمية العلاقة الاقتصادية مع الحلفاء في القارة العجوز، حيث بلغ إجمالي الاستثمار المباشر للاتحاد الأوروبي في الولايات المتحدة عام 2022 نحو 2.5 ترليون دولار، مما أدى إلى خلق أكثر من 3.4 مليون وظيفة في السوق الأميركية.
الخشية الاقتصادية من عودة ترمب تنسحب على إنتاج الأدوية وليس فقط على التجارة، فالرئيس العائد كثيراً ما توعد شركات الأدوية وضغط عليها من أجل ضبط أسعارها، مما يؤثر في نشاطها عالمياً، والضغط على شركات الأدوية هو جزء من قلق أصاب قطاع الصحة دولياً، ذلك لأن ترمب كثيراً ما أبدى رغبته في الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، كما لديه خطط للانسحاب من "اتفاقية باريس للمناخ"، وكل فراغ تحدثه الولايات المتحدة في أي منظمة دولية أياً كان اختصاصها، يجد الأوروبيون أنفسهم في مأزقه.