Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف غذى اقتصاد الموت آلة الحرب الروسية؟

المدفوعات التي تدفع للجنود الذين يقتلون على الخطوط الأمامية تعمل على تحويل الاقتصادات المحلية في بعض أفقر مناطق روسيا

تقدر كلف المدفوعات والتعويضات بنحو ثمانية في المئة من الإنفاق الحكومي خلال العام حتى يونيو 2024 (اندبندنت عربية)

ملخص

منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا رفعت موسكو إنفاقها العسكري إلى أعلى مستوياته منذ حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، مما أسهم في تخفيف تأثير العقوبات الغربية إضافة إلى أن مصانع الأسلحة تعمل على مدار الساعة، مما يوفر فرص عمل ورواتب عالية

أمام الخسائر الفادحة التي تتكبدها روسيا في أوكرانيا تقدم السلطات الروسية رواتب عالية ومكافآت لجذب المجندين الجدد، وفي بعض أفقر المناطق الروسية يمكن أن تصل الأجور العسكرية إلى خمسة أضعاف متوسط الرواتب، وتتلقى عائلات الجنود الذين يقتلون في ساحات القتال تعويضات مالية كبيرة من الحكومة.

ويقول المتخصص في الشأن الاقتصادي الروسي فلاديسلاف إينوزيمتسيف إن "عائلة رجل يبلغ من العمر 35 سنة يقاتل لمدة عام ثم يقتل في ساحة المعركة ستتلقى نحو 14.5 مليون روبل (150 ألف دولار)، من راتبه العسكري وتعويضات الوفاة، وهو أكثر مما كان سيكسبه طوال حياته المدنية حتى سن الـ60 في بعض المناطق"، مضيفاً "العائلات مؤهلة للحصول على مكافآت أخرى ومدفوعات تأمينية".

ووصف إينوزيمتسيف هذا الاتجاه في حديثه إلى صحيفة "وول ستريت جورنال" بـ"اقتصاد الموت"، قائلاً "الذهاب إلى الجبهة والموت بعد عام أكثر ربحية من استمرار حياة الرجل بصورتها التقليدية".

وتظهر المدفوعات الضخمة لعائلات الجنود الروس الذين لقوا حتفهم والتي بلغت نحو 30 مليار دولار حتى يونيو (حزيران) الماضي، جانباً من كيفية تأثير الحرب في المجتمع والاقتصاد الروسي.

فمنذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا رفعت موسكو إنفاقها العسكري إلى أعلى مستوياته منذ حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، مما أسهم في تخفيف تأثير العقوبات الغربية إضافة إلى أن مصانع الأسلحة تعمل على مدار الساعة، مما يوفر فرص عمل ورواتب عالية.

في حين باتت هذه التعويضات المالية تشكل مصدر ثراء لبعض أفقر المناطق الروسية، في مقابل تدفق مستمر للجنود لدعم المجهود الحربي.

وبحسب الإحصاءات الرسمية، فإن مستويات الفقر بلغت أدنى معدلاتها منذ بدء جمع البيانات خلال عام 1995، وتغيرت نظرة المواطنين إلى التجنيد العسكري بصورة كبيرة.

فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي كان ينظر إلى الخدمة العسكرية لأعوام على أنها مهنة للرجال غير الموهوبين ممن لم يجدوا فرصاً في الوظائف المهارية، وخلال تلك الفترة التي لم تشهد حروباً كبيرة كان الجنود يقضون معظم وقتهم في مكاتب الجيش أو القيام بأعمال روتينية.

"زمن الأبطال"

لكن حرب أوكرانيا غيرت من وضع أولئك المستعدين للقتال إذ ارتفعت دخولهم وأصبحت مكانتهم الاجتماعية أفضل.

وأطلقت الحكومة برنامجاً جديداً يحمل اسم "زمن الأبطال" يهدف إلى تدريب العسكريين لشغل مناصب حكومية، مما يعكس تحولاً في نظرة المجتمع الروسي نحو الخدمة العسكرية.

وفي جميع أنحاء روسيا تنظم محاضرات في المدارس يلقيها جنود عادوا حديثاً من جبهات القتال، وتركت الطاولات فارغة تكريماً لأحد "الأبطال" المحليين الذين لم يعودوا من الجبهة مع تفاصيل سيرته الذاتية محفورة عليها وأشياء من حياة الجندي الراحل.

خلال الوقت نفسه، يروج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لـ"نخبة جديدة" من العسكريين الذين يتمتعون بعديد من الامتيازات ومسار سريع نحو السياسة، وساعدت هذه الحوافز في تهدئة التوترات الاجتماعية التي تفاقمت بسبب التفاوتات في الدخل، بطريقة لم تتمكن المراسيم الرئاسية أو خطط إعادة توزيع الدخل من تحقيقها، وتظهر الاستطلاعات التي أجراها مركز "ليفادا" المستقل زيادة ملحوظة منذ الفترة التي سبقت الحرب في نسبة الروس الذين يعتقدون أن البلاد تسير في الاتجاه الصحيح.

وبالنسبة إلى الكرملين، تساعد المدفوعات السخية في تجنب تعبئة عامة للرجال في سن القتال بعد جولة سابقة خلال عام 2022، والتي أزعجت البلاد ودفعت عديداً من الشباب إلى الفرار.

وقال المتخصص في الشأن الاقتصادي في معهد "فيينا" للدراسات الاقتصادية الدولية فاسيلي أستروف إلى الصحيفة نفسها "هذه أموال لم يرها معظم الناس في هذه المناطق الفقيرة طوال حياتهم، لذا ليس من المستغرب أن يقبل عديد منهم"، مضيفاً "وبالنسبة إلى الكرملين فإن تقديم رواتب جيدة للجنود هو السبيل الوحيد للحفاظ على جهودهم الحربية بمستوى عال من الدعم المحلي".

وروج بوتين علناً لفكرة أن الموت على الجبهة أكثر جدوى من العيش في ظروف قاسية في بلدات روسيا الفقيرة.

المكاسب الاقتصادية من الموت في الحرب

خلال الوقت نفسه، يروج بعض المسؤولين الروس بنشاط لفكرة المكاسب الاقتصادية من الموت في الحرب، إذ قال حاكم إحدى المناطق في أقصى الشرق الروسي خلال اجتماع لدعم الأطفال المتأثرين بالحرب "يجب أن تفهم كطفل أن والدك قام بعمل بطولي ومات، لكن بفضل عمله البطولي حصلت على شقة"، مضيفاً "هذا يجعل الأطفال أكثر وطنية".

ومنذ بداية الحرب تكبدت روسيا أكثر من 600 ألف ضحية بما في ذلك القتلى والجرحى وفقاً للتقديرات الغربية، ولتحفيز التجنيد تدفع الحكومة للجنود الذين يقاتلون في أوكرانيا راتباً شهرياً أدنى قدره 210 آلاف روبل (2140 دولاراً أميركياً)، وهو أعلى بكثير من المتوسط الوطني البالغ 75 ألف روبل(770 دولاراً).

أيضاً تمنح مكافآت إضافية للمشاركة في العمليات العسكرية الهجومية وللتفوق في ساحة المعركة، وتقدم الحكومات الإقليمية دفعات إضافية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أيضاً يمكن لعائلات الجنود الذين قتلوا في المعركة أن يتلقوا أكثر من 150 ألف دولار من التعويضات الفيدرالية والإقليمية وتأمينات الحياة.

ونتيجة لذلك، تستطيع روسيا حالياً تجنيد نحو 1000 رجل يومياً، وفقاً لتقرير لوزارة الدفاع البريطانية خلال سبتمبر (أيلول) الماضي.

وقالت الوزارة "من المرجح أن تعزز زيادة المدفوعات مستويات التجنيد لبقية العام" لكن الخسائر لا تزال مرتفعة بصورة مذهلة، إذ قال رئيس القوات المسلحة البريطانية الأميرال توني راداكين إلى هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" الأحد الماضي "القوات الروسية كانت تعاني متوسط 1500 إصابة يومياً طوال شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2023".لكن المدفوعات المرتفعة لم تأت من دون توتر، إذ نظرت محاكم روسيا قضايا قدمها أشخاص يتهمون آخرين بمحاولة سرقة مدفوعاتهم المتعلقة بالحرب، أو يشكون من ظهور قريب غائب لفترة طويلة في محاولة للمطالبة بحصة من المال المستحق عن وفاة ابنهم، ووصلت بعض هذه النزاعات إلى المحكمة العليا في روسيا.

وفي إحدى القضايا من وسط روسيا خدع رجل امرأة لتسليم بطاقتها المصرفية وسحب من حسابها مبلغاً يعادل 4500 دولار كان جزءاً من تعويض تلقته عن وفاة زوجها في أوكرانيا، وفي قضية أخرى داخل جمهورية كومى المجاورة لسيبيريا حكمت المحكمة بأن رجلاً غير مؤهل لتلقي حصة من تعويضات وفاة ابنه، لأنه لم يتحدث إليه لمدة أكثر من 15 عاماً، "ولم يهتم بمصيره ولم يعمل وكان يعيش حياة معادية للمجتمع".

مدفوعات لا تخلو من الأخطار الاقتصادية

لكن هذه المدفوعات لا تخلو من الأخطار الاقتصادية، إذ تقدر كلف المدفوعات بنحو ثمانية في المئة من الإنفاق الحكومي خلال العام حتى يونيو 2024، مما يزيد من العجز في الموازنة وفقاً لتحليل من مجموعة "آر أي روسيا" البحثية.

وأسهمت هذه المدفوعات في ارتفاع معدل التضخم داخل روسيا مما دفع البنك المركزي إلى رفع أسعار الفائدة إلى مستوى قريب من الرقم القياسي البالغ 21 في المئة، وزيادة عدد الرجال الذين يذهبون إلى الجبهة تؤدي إلى نقص في العمالة، مما يترك أصحاب الأعمال في حاجة إلى اللحامين والسائقين والبنائين.

لكن في مناطق روسيا النائية تشكل المدفوعات الحربية فارقاً كبيراً، إذ يزيد معدل الفقر داخل منطقة توفا النائية في روسيا بثلاث مرات عن المعدل الوطني.

وفي توفا، التي تشهد زيادة بنسبة 151 في المئة في ودائع البنوك منذ يناير (كانون الثاني) 2022 أي قبل حرب أوكرانيا وفقاً لبيانات البنك المركزي، تشهد المنطقة أيضاً طفرة في قطاع البناء مع ظهور مجمعات سكنية متعددة الطوابق في العاصمة الإقليمية كيزيل. وتقول "وول ستريت جورنال" إن الأمر يبدو وكأن جيلاً كاملاً وجد عملاً في الخارج ويعيد الآن إرسال الحوالات المالية.

وأن الناس في أفقر المناطق ينفقون أيضاً بصورة أكثر، ففي منطقة ألتاي جنوب روسيا ارتفعت إيرادات المطاعم والحانات 56 في المئة هذا العام مقارنة بالعام الماضي، بينما ارتفعت تسعة في المئة فحسب على مستوى روسيا ككل، وفقاً للإحصاءات الرسمية.

المناطق الأفقر في روسيا استفادت من الحرب

وقالت المستشارة العليا في معهد "بنك فنلندا" للاقتصادات الانتقالية لورا سولانكو إن "أفقر الأماكن في روسيا هي التي استفادت أكثر من الحرب، إذ كان الناس هناك تاريخياً يواجهون فرصاً قليلة، لذلك فإن وتيرة التغيير دراماتيكية".

في حين أن أحد الأمثلة الأكثر وضوحاً على كيفية تحول الحياة في روسيا هو الحياة داخل بورياتيا، وهي منطقة جبلية في سيبيريا الشرقية التي تقع بعيداً من العاصمة الروسية لدرجة أن عديداً من سكانها يعدون أنفسهم أقرب ثقافياً إلى أجزاء من منغوليا الشمالية التي تحدها.

ويشار إلى أن إعلان تعبئة خلال سبتمبر 2022 تسبب في اضطرابات اجتماعية في بورياتيا التي أرسلت عشرات الآلاف من الرجال للقتال في أوكرانيا، إذ قتل منهم في الأقل 1719 بحلول أكتوبر الماضي وفقاً لموقع "ميديازونا" الروسي المستقل. وتنشر المواقع الإخبارية المحلية في بورياتيا نعياً يومياً لرجال قتلوا في ساحة المعركة، لكن هذه الوفيات تقبل إلى حد كبير وفقاً للباحثة السياسية من بورياتيا للكسندرا غارمازابوفا والتي تدير الآن منظمة تدافع عن الديمقراطية في المنطقة.

وقالت غارمازابوفا التي تعيش خارج روسيا "كنا نتوقع أن يتسبب عدد الجثث العائدة إلى بورياتيا في تحفيز الناس على الاحتجاج ضد الحرب، لكن ذلك كان له تأثير معاكس".

وربما يساعد تراكم الثروة الهائل داخل هذه المنطقة الفقيرة في تفسير السبب، فمنذ يناير 2022 ارتفعت الودائع البنكية في بورياتيا بنسبة 81 في المئة، وهذا العام ارتفع البناء السكني 32 في المئة مقارنة بمتوسط وطني اثنين في المئة.

ليودميلا امرأة تبلغ من العمر 54 سنة من إحدى القرى الصغيرة في بورياتيا قرب الحدود مع منغوليا، فقدت ابنها وزوجها في الحرب، وتقول إن "خمسة رجال آخرون من قريتها قتلوا في أوكرانيا"، مضيفة أنها "أمضت أعواماً في توفير المال لشراء شقة لعائلتها في عاصمة المنطقة أولان أودي، لكن المدفوعات التي تلقتها عن مقتلهما جعلتها قادرة على شراء شقتين هناك، إضافة إلى سيارة لابنتها ألينا".

وقالت ليودميلا "ابني وزوجي كسبا هذه الأموال بدمائهما، لقد نظمت جنازتيهما بفارق أربعة أشهر بينهما، ودفعت لبناء تمثالين لهما داخل المقبرة المحلية وفي بناء مدرسة القرية، دفعت لتركيب لوحين تذكاريين تكريماً للأبطال الذين قتلوا في أوكرانيا."

اقرأ المزيد