ملخص
المتابع العربي لوسائل الإعلام الغربية بالعربية يلاحظ أن مجريات حرب غزة الممتدة إلى جنوب لبنان وكذلك الضفة الأخرى فيها أوجه ازدواجية معايير متعددة، وتبدو توجهات التغطية ونوعية الرسائل المتضمنة في التحليلات والتقارير في النسخة الإنجليزية وكأنها تقف على طرف نقيض من النسخة العربية أو مختلفة في أقل تقدير.
سنوات طويلة وجانب من الإعلام التقليدي وأنصاره والمترحمون عليه يملأون الدنيا والأثير صراخاً وحزناً على مصير المهنية ومآل الصدقية وخاتمة الموضوعية، وذلك بسبب هجمة السوشيال ميديا الشرسة ومداهمة المحتوى الغارق في الأهواء والمنغمس في شهوة الترند والشهية المفتوحة للشهرة والثروة على حساب قواعد الصحافة الرصينة وقيمها الأصيلة.
وما إن اندلعت حرب غزة، وبدأت ملامح التحركات الإسرائيلية تتضح، وأهدافها تتجلى، وأصبح هدف القتل والتخريب والدمار يتضح بديلاً عن المعلن من دفاع وتأمين وإفراج عن الرهائن، حتى فقد جانب معتبر من الإعلام التقليدي أرضيته وخسر جزءاً من سمعته المتمثلة في الحياد والموضوعية والمهنية، بغض النظر عن المصالح السياسية وحسابات المكسب والخسارة ومداهنات ومهادنات المصالح.
المتابع العربي للغرب
المتابع العربي لوسائل الإعلام الغربية، لا سيما تلك التي توجه جانباً من "خدماتها" الإعلامية باللغة العربية، يلاحظ أن متابعة مجريات حرب غزة الممتدة لاحقاً إلى جنوب لبنان وكذلك الضفة الغربية، فيها أوجه ازدواجية معايير متعددة، فمن جهة بدت توجهات التغطية ونوعية الرسائل المتضمنة في التحليلات والتقارير في النسخة الإنجليزية وكأنها تقف على طرف نقيض من النسخة العربية أو مختلفة في أقل تقدير.
النسخة العربية، سواء بدافع إرضاء المتلقي أو انعكاساً لهويات وانتماءات الصحافيين العاملين أو لإقناع المتلقي العربي أن أوجاعه وأحزانه محسوسة ومحسوبة في الخارج أو غيرها، بدت وكأنها فلسطينية الهوى عربية الانتماء تؤمن بالقضية وتدافع من أجل الإنسانية وتناهض الظلم والعدوان وتدعم المظلوم وتدافع عنه. في الوقت نفسه مضت النسخة الإنجليزية قدماً في طريق في اليوم التالي لعملية "حماس" يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023 حين اندلعت الحرب، واندلعت معها التغطيات الإعلامية التقليدية كما لم تندلع من قبل. ما لم يكن متوقعاً، أو ربما كان متوقعاً ولكن على استحياء، هو أن تنقلب التغطية تغطيتين أو ثلاث وأحياناً أربع.
الأيام الـ100 الأولى
الأيام الـ100 الأولى من تغطيات حرب غزة كشفت عن كثير، معيار مزدوج في التغطية اتضح عبر هامش تعاطف وإنسانية للجانب الفلسطيني أقل بكثير من نظيره الإسرائيلي، كما اختلف هذا الهامش واختل مقارنة في الأيام الـ100 الأولى من تغطيات حرب أوكرانيا، إذ وجد الفلسطينيون أنفسهم في قاع ترتيب التعاطف الإعلامي.
هذه كانت أبرز نتائج الرصد الإعلامي الذي أجرته مجلة "ذو ناشون" الشهرية الأميركية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وجد الرصد أن المنصتين الإعلاميتين "سي أن أن" و"إم أس إن بي سي"، اللتين تلعبان دوراً مؤثراً في تشكيل وجهات نظر يسار الوسط الأميركي في شأن غزة، ركزتا بصورة روتينية على المعاناة الإنسانية والأخطار التي يتعرض لها الأوكرانيون، وعلى "الضحايا" والناجين من هجمات السابع من أكتوبر، التي أودت بحياة ما يقرب من 1200 شخص، وذلك بصورة أكبر بكثير من التركيز والإشارة إلى الضحايا من الفلسطينيين، الذين تجاوزت معدلات القتلى بينهم عدد القتلى الأوكرانيين بنسبة 500 في المئة.
وأشارت "ذو ناشون" إلى أن الرصد اقتصر على هاتين المنصتين "الليبراليتين"، وليس "فوكس نيوز" مثلاً، لأن دعم الجمهوريين لإسرائيل أكبر بكثير من دعم الليبراليين لها، أي إن مواقف المنصات الإعلامية المحسوبة أو القريبة من الجمهوريين وميلها للجانب الإسرائيلي أمر مفروغ منه.
اعتراض من الداخل
وفي مقالة لاحقة نشرتها المجلة نفسها هذا العام، لفتت الانتباه إلى أنه على مدار أشهر الحرب في غزة، أعرب صحافيون في جميع أنحاء العالم عن مخاوفهم لمديريهم في ما يتعلق بالتغطية غير المتوازنة والمضللة والخيالية في بعض الأحيان، للحرب الإسرائيلية على غزة، وأن هؤلاء الصحافيين طالبوا بأن تكون التغطية أكثر معقولية ومنطقية في ما يتعلق بما ترتكبه إسرائيل في غزة. وذكرت الصحيفة أنه بدلاً من دراسة أو مناقشة ما يطالب به هؤلاء الصحافيون، تركوا ليدافعوا عن أنفسهم وآرائهم ورغبتهم في مزيد من الموضوعية وحدهم.
الأزهر معترضاً
وفي سابقة تاريخية أصدر "مرصد الأزهر الشريف لمكافحة التطرف" منشوراً عما سماه "خرق وسائل الإعلام الغربية للمعايير المهنية وتواطؤها ضد قطاع غزة". ورأى المرصد التابع للأزهر أن عدداً من التغطيات الإعلامية الغربية لـ"التطهير العرقي والإبادة الجماعية" في غزة كشف عن انتهاكات كبيرة للمعايير المهنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار إلى عريضة وقعها نحو 750 صحافياً من مؤسسات إخبارية مختلفة، منها "واشنطن بوست" و"لوس أنجليس تايمز" و"الغارديان"، قالوا فيها إنهم يدينون قتل الصحافيين على يد إسرائيل في غزة، كما حثوا وسائل الإعلام على تغطية الوضع الإسرائيلي - الفلسطيني بدقة باستخدام مصطلحات مثل الفصل العنصري والإبادة الجماعية للتعبير عن خطورة الفظائع المرتكبة ضد الفلسطينيين في غزة".
واعتبر المرصد أن العريضة الموقعة من صحافيين في مؤسسات إعلامية غربية معروفة تعد دليلاً دامغاً على تلاعب وسائل الإعلام بالمواد المتعلقة بالأحداث في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة على نطاق أوسع، وأن هذا يورط هذه الوسائل الإعلامية، ويجعل منها "طرفاً متواطئاً" في عمليات الإبادة الجماعية المستمرة التي يشهدها القطاع.
اعتراض على الضفة الأخرى
وكما هو متوقع تماماً هناك أصوات على الضفة المقابلة، تتهم وسائل إعلام عربية وغربية بالتحيز ضد إسرائيل، والتعاطف والتضامن مع فلسطين وأهل غزة، لكنها تظل أصواتاً قليلة، يصفها بعضهم بـ"الإضافة الممنهجة لصناعة أجواء المظلومية الإسرائيلية المعتادة، ظالمة كانت أو مظلومة"، وذلك باستخدام لغة ومفردات في شأنها أن تجذب التعاطف وتخلق التضامن من باب المطالبة بالحياد والموضوعية.
لكن هل يمكن للغة أن تفي بحاجات الحياد ومطالب الموضوعية؟ أستاذة اللغويات في جامعة مكواري الأسترالية أنابيل لوكين تشير إلى أن مشكلات عدة تعتري طريق اللغة في محاولتها الوصول إلى الموضوعية المطلوبة في التغطية الصحافية. تقول في مقالة عنوانها "حين يتعلق الأمر بالتقارير الإعلامية عن إسرائيل وفلسطين، ليس هناك مكان للاختباء"، إن اللغة ليس لها وضع محايد في إطار الحديث عن العنف في غزة، بل تجبر مستخدمها على الانحياز لأحد الجانبين.
تغطية العنف الجيوسياسي
لوكين ترى أن هناك طريقتين أساسيتين للحديث عن العنف الجيوسياسي، الأولى وهي المهيمنة إعلامياً تتلخص في التقارير الإخبارية، ومنها ما يسعى إلى تحقيق الموضوعية عبر نقل أحداث واقعية، من دون توجيه اللوم أو تحديد المسؤولية، وفي هذه الطريقة يجري الحديث عن تأثير ما يجري في الأفراد العاديين، لكن على اعتبار هذه التأثيرات نتيجة ثانوية مؤسفة، لكن لا يمكن تجنبها لإجراءات أو عمليات رسمية ذات طابع عقلاني وأهداف مفهومة.
وتقول إن هذه الطريقة مليئة بالمجازات المفضلة لدى الجيوش، وهو ما يعني إعادة إنتاج الروايات الرسمية عبر الإعلام، وكأنها تغطية موضوعية، ويصبح العنف المدمر والمميت محجوباً بمصطلحات مثل "العمليات" و"الحملات" و"الهجمات" و"الاستراتيجيات" و"الأهداف" و"المراحل".
وتوضح أن مثل هذه اللغة تفسر العنف كما لو كان له هدف أسمى، ويستخدم الصحافيون والمذيعون أسماء العمليات العسكرية مثل "حارس الأسوار" وغيرها، وتشرح أنواع تكنولوجيا الأسلحة المستخدمة، كما لو كان نوع الطائرة وطرازها والقنابل التي يجري إطلاقها لها أي تأثير حقيقي في الأحداث.
وتعتبر أستاذة اللغويات أن المشكلة في هذا النمط من التغطية الصحافية هي أن العنف يجسد ويجرد من آثاره في الإنسانية، "تجسيد العنف يعني تفسيره كما لو أنه يحدث من تلقاء نفسه، من دون الرجوع إلى السادة السياسيين الذين يأمرون به، أو أولئك المكلفين بتفعيله".
التكافؤ الزائف
وتستمر التغطية الصحافية حيث الإسرائيليين يقتلون في هجمات صاروخية، أما الفلسطينيون فـ"حصيلة القتلى". وتضيف أن الصحافة الغربية غالباً في إطار بحثها عن الموضوعية والحياد تتعامل مع الجانبين - الإسرائيلي والفلسطيني - كأنهما مشاركان متساويان في اقتراف العنف، وهو ما يبدو واضحاً عبر الاختزال الصحافي حيث "الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني" مثلاً. مثل هذه الصياغات يتجنب إلقاء اللوم على طرف دون آخر، ولكنه في الوقت نفسه يعتبر "إطلاق الصواريخ" (من الجانب الفلسطيني) أمراً لا ينبغي أن يستمر، عكس "الضربات الجوية" (من الجانب الإسرائيلي) فاستمرارها هو أمر طبيعي.
تقول لوكين إنها لا تقلل من شأن الرعب الذي يعيشه الإسرائيليون نتيجة تعرضهم للرشقات الصاروخية، لكن في الوقت نفسه فإن مقارنة أعداد القتلى وحجم الدمار تكذب التكافؤ الزائف، مضيفة "إذا أردت أن تتأكد من ذلك، اسأل نفسك، لو أجبرت على الوجود على واحد من الطرفين، أي جانب تختار، لا من منظور السياسة والأيديولوجيا، ولكن من منظور الإنسان والإنسانية!".
فشل اللغة في اختبار الموضوعية
وهنا تشير إلى الطريقة الثانية في التغطية الإعلامية الخاصة بالعنف الدائر في غزة، وتقول إنه حين يكون العنف المرادة تغطيته غير مشروع، فمن الطبيعي أن يسعى الصحافي جاهداً إلى استخدام لغة تفشل في اختبار "الموضوعية"، تضيف "سيركز الصحافي على العواقب الوحشية واللاإنسانية للعنف، سيجعل مرتكبي العنف مرئيين وسيشيطنهم، سيؤكد حجم العنف وآثاره المدمرة في الأسر والمجتمعات، وهذا يعني أنه لا مجال للحياد والموضوعية".
يشار إلى أن ما كتبه لوكين عن العنف والحياد وغزة كان على وقع أعمال العنف الإسرائيلية في غزة، وقتل ما يزيد على 200 فلسطيني و13 إسرائيلياً، وذلك في عام 2021.
وبعيداً من جدلية الحياد الإعلامي القاتل، أو الموضوعية الظالمة، ومدى أخلاقية التعامل مع الجانبين وكأنهما متساويان أثناء التغطية وفي إطار التحليل والتقرير الخبري والتفسيري، وبعيداً أيضاً عما يصفه كثيرون بـ"ازدواج المعايير" في التغطيات الإعلامية التقليدية حين يتعلق الأمر بحرب روسيا في أوكرانيا مقارنة بحرب إسرائيل في غزة وجنوب لبنان، ألقت الحرب الممتدة كثيراً من الضوء، لا على النسخ الكثيرة من تغطية الحرب، وكأنها حربان أو ثلاث، أو على التفسيرات والتحليلات والتوقعات المتناقضة والمتحلية بالقدر نفسه من "الموضوعية"، لكنها موضوعيتان متناقضتان، إلا أنها كشفت عوار تركيز الأمم على أن تحدث نفسها بنفسها من أجل نفسها.
مخاطبة الداخل
قطاع عريض من الإعلام الغربي يمضي قدماً في تغطياته حول الحرب مخاطباً الداخل الغربي، سواء حكوماته وأنظمته أم شعوبه وجماعات الضغط لديه. والجانب الأكبر من هذا الإعلام الغربي الذي يحتوي على أذرع ومنصات باللغة العربية بدا وكأن سياسته التحريرية سياستان، ومنهجه منهجان، وتوجهه توجهان، الأول يرضي المتلقي الغربي، والثاني يشفي غليل المتلقي العربي.
أما الإعلام العربي فطغت عليه هو الآخر مخاطبة الداخل العربي على اختلافاته وتناقضاته أيضاً، والملاحظ أن السمات الغالبة في هذه التغطيات، هي الحرص البالغ والحساسية المفرطة ومحاولة إمساك عصا الجناحين الفلسطينيين (السلطة الفلسطينية وحماس) من المنتصف.
فرصة العودة كانت كبيرة
فرصة عودة الإعلام التقليدي في هذه الحرب كانت كبيرة، بحسب المركز العربي "واشنطن دي سي"، وهو مؤسسة بحثية، فإن 54 في المئة من المواطنين العرب المستطلعة آراؤهم في 16 دولة عربية اعتمدوا على التلفزيون كمصدر رئيس للمعلومات والمتابعات الخاصة بالحرب، وسبعة في المئة قالوا إنهم يعتمدون على المواقع الإخبارية على الإنترنت، واثنان في المئة اعتمدوا على الإذاعة، وواحد في المئة قالوا إنهم يقرأون الصحف سواء الورقية أم مواقعها الإلكترونية (وجميعها يندرج تحت بند الصحافة التقليدية)، وقال 36 في المئة فقط إنهم يعتمدون على السوشيال ميديا.
طبيعي أن تكون حرب غزة الممتدة إلى لبنان حربين وثلاث وأربع وأكثر بحسب تغطيات السوشيال ميديا، أما أن تكون الحرب نفسها حربين وأكثر في الإعلام التقليدي الرصين الموضوعي فهذا غريب.
المؤكد أن تغطية حرب غزة الممتدة إلى لبنان ألقت كثيراً من الضوء على حال الصحافة والإعلام التقليدي في العالم، من كان ينظر إليه باعتباره أيقونة المهنية وعلامة من علامات الموضوعية خسر كثيراً. المعايير المزدوجة سيدة التغطية، والأمم تحدث نفسها عبر إعلامها، والحرب مستمرة في كونها حربين وأكثر.