Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المخرج والتر ساليس ينبش الماضي البرازيلي الديكتاتوري

الخراب النفسي الذي تسبب به نظام العسكر في فيلم "لا أزال هنا"

من جو الفيلم البرازيلي (ملف الفيلم)

ملخص

الديكتاتوريات العسكرية التي حكمت أميركا الجنوبية ألهمت كثيراً من الأفلام عبر الزمن. آخرها "لا أزال هنا" لوالتر ساليس، العائد بعد غياب 12 سنة عن الشاشات، وكنا شاهدناه في مهرجان البندقية الأخير، الذي نال فيه جائزة السيناريو، وتستعيده الدورة الحالية من مهرجان القاهرة، بعد فيلمه السابق، "على الطريق" (اقتباس سينمائي لرواية جاك كرواك).

ينبش المخرج البرازيلي والتر ساليس اليوم فصلاً من فصول تاريخ بلاده، في عمل سيبقى مرجعاً عن تلك الحقبة الدموية، يظهر مدى تأثير الاستبداد العسكري في حياة المواطنين الذين عاشوا تحته.

الديكتاتورية العسكرية في البرازيل حوصرت في عقدين من الزمن، لكن الأضرار النفسية والتروما الجماعية الناتجة منها تجاوزت تلك الفترة، إذ تركت خلفها آثاراً لم تمح بسهولة فصنعت كوارث إنسانية لا تحصى. والفيلم في طور توثيقه هذه الانتهاكات يهتم بمصير عائلة واحدة، لكن معاناتها تختزل مآسي كثر من الناس. الجرح الذي نكأه بطش العسكر وظلمهم لم يلتئم مع الزمن، خصوصاً إذا طاولت الخسارة التي تسبب بها فرداً من أفراد العائلة، وظل مصيره مجهولاً لسنوات طويلة. فبعضهم قضى تحت التعذيب في أقبية الأمن والاستخبارات ولم تعثر على جثته، فبات في عداد الأحياء الموتى. لكن، هل يموت الإنسان حقاً من وجهة نظر عائلته وأحبائه في غياب الجسد؟ أي حداد ممكن في مثل هذه الحالة؟ هذه المسألة لم تكن حكراً على النظام العسكري في البرازيل، بل رأينا مثلها في بلدان كثيرة من تلك التي عاشت حروباً أهلية وتقاتلاً.

الآلاف الذين قضوا من دون أن يعرف لسنوات طويلة ما حل بهم، هم الحجر الأساس لهذا الفيلم الذي يرد الاعتبار إلى عذابات أهاليهم. بعد سقوط الديكتاتورية ودخول البلد في مرحلة الديمقراطية، سلموا وثيقة وفاة تغلق نهائياً هذا الملف. والتر ساليس يوثق في "لا أزال هنا" الظلم الذي وقع على البرازيليين بين الستينيات والثمانينيات، من خلال فيلم سردي يستوفي كل شروط السينما التي تضع الإنسان في قلب التاريخ. 

الفيلم اقتباس لمذكرات مارسيلو روبنز بايفا، ابن نائب يساري (يلعب دوره سلتون ميللو). والكتاب روى في كتابه الصادر عام 2015 ما عانته أمه بعد الاعتقال التعسفي لوالده روبن بافيا. وكان هذا السياسي النزيه قد اعتزل العمل السياسي ليهتم بشؤون عائلته عندما داهمت عناصر من الجيش بثياب مدنية في يوم من أيام عام 1971. أُوقف وجُرَّ إلى التحقيق ثم سجن بعدما ألصقت به تهمة مساعدة أعداء النظام. مشهد الاعتقال يأتي بعد مقدمة جميلة نرى فيها هناء العيش الذي سيعكر النظام صفوه. يفتتح الفيلم على أحد شواطئ ريو دي جانيرو، واضعاً إيانا داخل تفاصيل الحياة العذبة. نلمس السعادة في عيون الكبار والبراءة في أفعال الصغار، علماً أن القمع والعسف كانا من يوميات البرازيليين منذ فترة لا تقل عن ست سنوات، عند لحظة بدء الفيلم.

بعد الاعتقال، تصبح الزوجة أونيس (أداء بديع لفرناندا توريس) بطلة الفيلم. تحاول طوال الساعتين التاليتين البحث عن زوجها ومحاولة الإفراج عنه، وصولاً إلى المصالحة مع فكرة أنه لن يعود بعد اليوم، وذلك عندما تعي أنه قُتل. لن يبقى لها بعد ذلك سوى إعالة أطفالها وكأن شيئاً لم يحدث، في سلوك إنساني حكيم يمكن وصفه بالنموذجي، خصوصاً لجهة تعاملها مع الأزمة على نحو يجنب الأطفال التروما النفسية الناتجة من غياب والدهم المحبب. لكن هذا كله سيكون له مخاض عسير نرى تفاصيله في الفيلم، إذ ستحاول مراراً التدخل لدى السلطات للإفراج عنه، بيد أن كل المحاولات سيكون مصيرها الفشل. أونيس ستبحث عن الحقيقة، كل ما تريده هو أن تعرف ما حل بزوجها، كي تحسم أمرها وتتابع حياتها، لكن لا جواب، فلا هو حي ولا هو ميت. وعليه، ستحتكر كل الأدوار، لتصبح أماً وأباً لأولادها الخمسة، فمناضلة حقوقية ومحامية في آن معاً. الفيلم إعادة اعتبار إلى هذه السيدة العظيمة التي لن تستسلم ولن تنتهي حربها مع الواقع الذي فرض عليها سوى مع رحيلها. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تفاصيل كثيرة في الفيلم يمكن الإشارة إليها، منها المنزل العائلي الذي كان ينبض بالحياة. بعد غياب الأب/الزوج، سيصبح فجأة بؤرة ذكريات أليمة ينبغي على الزوجة التعايش معها بصورة يومية. ذكريات تحاول هي عدم تحويلها إلى ذكريات كونها لا تزال مقتنعة (في البداية)، بأن الأمر لم ينته تماماً والأمل لا يزال قائماً. المطبخ حيث يجتمع أفراد العائلة له رمزية أيضاً. في هذا المكان حيث كانت تعلو الأصوات سيعشش الصمت والموت والجمود. كل حادثة تحتاج إلى مكان، وفي غياب جسد المعتقل/المقتول، يصبح بيته (الغائب عنه) دليلاً على وجوده السابق وحضوره. داخل جدران البيت، سيجتمع الخاص والعام، حد الانصهار الكلي.

مع هذا العمل الذي يحرص على تذكيرنا بأن العالم الذي نعيش فيه اليوم قد ينتج ديكتاتوريات جديدة في أي لحظة، يختزل ساليس نضال نصف قرن، راسماً على وجه بطلته المرهفة ملامح مرور الزمن وقسوة الغياب الذي يترجم بحضور. إلا أن ما يميز تلك الملامح هو القوة التي لا تفتقر إلى الهشاشة. هذه سمة الذين لا ينكسرون، وإذا حاربوا الوحوش ظلوا في منأى عن الوحشية. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما