Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تقليص الأجور يهدد الحكومة التونسية بفقد الكفاءات الإدارية

مد العمل ببرنامج التقاعد المبكر قبل بلوغ السن القانونية لموظفي القطاع العام حتى سنة 2027

11762 موظفاً أحيلوا إلى التقاعد المبكر حتى أغسطس 2024 (أ ف ب)

ملخص

أتاح قانون المالية لسنة 2022 إمكان أن ينتفع بهذا البرنامج الأعوان الذين يبلغون عمر 57 سنة في الأقل خلال الفترة الممتدة ما بين الأول من يناير عام 2022 والـ31 من ديسمبر المقبل والذين قضوا فترة العمل الدنيا المشترطة للحصول على جراية التقاعد

في وقت تحرص تونس على ضغط موازنتها عبر تقليص كتلة الأجور الضخمة مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، تلجأ أيضاً منذ أعوام عدة إلى عمليات تسريح كبيرة لآلاف الموظفين عن طريق الإحالة إلى التقاعد المبكر.

ولنحو ثماني سنوات، نص مشروع الموازنة العامة للبلاد صراحة على وقف الانتدابات الجديدة في العمل الحكومي باستثناء بعض القطاعات الحساسة والاستراتيجية على غرار الأمن والصحة والتعليم.

وتطور الأمر قبل عامين باستنباط طرق جديدة أبرزها الإحالة إلى التقاعد المبكر لمن عمره 57 سنة، في خطوة تعتبرها الحكومة حلاً جذرياً لتقليص كتلة الأجور التي تقارب 40 في المئة من إجمال الموازنة.

ولكن هذا الإجراء له تداعيات جانبية قد تشكل خطراً  على الإدارة التونسية التي قد تفقد قوتها ومردوديتها، بينما البلاد بحاجة ماسة إلى خبرات ومهارات في القطاع العام العليل" لمعالجة الملفات الاقتصادية الشائكة.

التمديد في برنامج التقاعد المبكر

تضمن مشروع قانون المالية لسنة 2025 مد العمل ببرنامج التقاعد المبكر قبل بلوغ السن القانونية لموظفي القطاع العام والوظيفة العمومية.

وتضمن الفصل 12 من المشروع مواصلة العمل بأحكام الفصل 14 من قانون المالية لسنة 2022 لفترة زمنية أخرى تمتد من مطلع يناير (كانون الثاني) عام 2025 حتى نهاية ديسمبر (كانون الأول) عام 2027 بحسب الشروط والصيغ والإجراءات نفسها، مما يعني أن الموظفين في القطاع العمومي والوظيفة العمومية الذين بلغوا عمر 57 سنة واستوفوا الشروط القانونية بإمكانهم التمتع بالتقاعد المبكر قبل بلوغ السن القانونية المحددة بـ62 سنة.

وللتذكير فقد أقر قانون المالية لسنة 2022 في فصله الـ14 برنامجاً خصوصياً للإحالة على التقاعد قبل بلوغ السن القانونية بتمكين الأعوان العموميين من طلب إحالتهم على التقاعد المبكر قبل بلوغهم السن القانونية المحددة بـ62 سنة.

وأتاح قانون المالية لسنة 2022 إمكان أن ينتفع بهذا البرنامج الأعوان الذين يبلغون عمر 57 سنة في الأقل خلال الفترة الممتدة ما بين الأول من يناير عام 2022 والـ31 من ديسمبر المقبل والذين قضوا فترة العمل الدنيا المشترطة للحصول على جراية التقاعد.

ويتكفل المشغل بمبالغ الجرايات وكذلك بالإسهامات الاجتماعية المستحقة طوال المدة الفاصلة ما بين تاريخ الإحالة إلى التقاعد وتاريخ بلوغ السن القانونية للإحالة على التقاعد.

وبررت الحكومة مد العمل بهذا البرنامج بالسعي إلى تقليص كتلة الأجور والنزول بها تدريجاً إلى نسب مناسبة من الناتج المحلي الإجمالي لاستعادة التوازنات المالية.

وبلغ العدد الإجمالي للمطالب المقبولة منذ انطلاق البرنامج حتى أغسطس (آب) الماضي 12351 طلباً وانتفع نحو 11762 عوناً بجراية التقاعد المبكر.

فرصة ذهبية للقطاع الخاص

وعلى رغم تردد الحكومة مع بداية تطبيق هذا القرار، فإن كثيراً من الموظفين في القطاع العمومي في تونس تجرأوا على المغامرة التي قد تكون مدروسة لعدد مهم منهم بتوظيف ما راكموه من خبرة ودراية بدواليب الإدارة التونسية وعرض هذه الخبرة على القطاع الخاص في البلاد.

خليل العبيدي (54 سنة) الذي عمل لأكثر من عقدين في وزارتي المالية والاستثمار ليقرر بعث مكتب دراسات واستشارات اقتصادية مثمناً خبرته الطويلة في إدارة الاستثمار وعرضها على القطاع الخاص، يقول لـ"اندبندنت عربية" إنه لم يجد صعوبات كبيرة في الاتصال بالقطاع الخاص ومرافقة كبرى الشركات العالمية للعمل في تونس بفضل الخبرة التي تمتع بها لما كان مديراً عاماً لوكالة النهوض بالاستثمار الخارجي ودرايته الواسعة بعالم الاستثمار التي وظفها جيداً في حياته المهنية الجديدة.

ويمثل خروج آلاف الموظفين التونسيين على التقاعد المبكر فرصة ذهبية للشركات الخاصة للتمتع أولاً بخبرتهم في إدارة المسائل الإدارية وتسهيل عمل هذه الشركات، وثانياً لن يشكلوا على الشركات الخاصة أعباء مالية إضافية على مستوى دفع رسوم الضمان الاجتماعي والضرائب.

كتلة الاجور

 يشار إلى أن مشروع موازنة تونس ضم 663 ألفاً و757 موظفاً حكومياً، تمثل مستحقاتهم نحو 40 في المئة من إجمال الموازنة، مما يعادل 24 مليار دينار (7.7 مليار دولار)، بينما تسعى الدولة إلى تقليص الأجور لتصل إلى 13 في المئة فحسب من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي.

وواصلت مختلف الحكومات المتعاقبة خلال الأعوام الثمانية الأخيرة عدم اللجوء إلى الانتدابات المكثفة في القطاع العام لعدم إثقال الموازنة بالأجور التي وصلت عام 2016 إلى مستويات قياسية، إذ تُعدّ من أعلى كتل الأجور في العالم بحسب صندوق النقد الدولي.

تهديد لنجاعة عمل الإدارة

في غضون ذلك، يعتقد متخصصون بأن العمل في القطاع الحكومي صار صعباً ومضنياً في تونس ولم يعُد جذاباً، خصوصاً أن ظروف العمل أصبحت صعبة وكبار الموظفين أضحوا بطرق سهلة عرضة للمساءلة القضائية في عدد من الملفات الحساسة، مما أرسى مناخاً مكبلاً لتطوير قدراتهم.

ويشكل الفصل 96 من المجلة الجزائية التونسية، سيفاً مسلطاً على الموظفين على رغم وعود الحكومة بتعديله في اتجاه إعطاء حرية أكثر للموظفين للتعاطي في بعض الملفات، خصوصاً ذات الطابع المالي والاقتصادي.

وفي هذا الصدد يوضح المتخصص الاقتصادي بسام النيفر أن مواصلة العمل بالبرنامج الخاص للإحالة على التقاعد في القطاع الحكومي لحل إشكالية كتلة الأجور المرتفعة من شأنها أن تؤثر في نجاعة العمل الإداري العمومي الذي يواجه لأعوام عدة كثيراً من الصعوبات، ويحذر أيضاً من عملية إفراغ للإدارة التونسية من كفاءاتها وخبراتها.

وفي حديثه إلى "اندبندنت عربية"، دعا الحكومة إلى تنظيم أكثر للإحالة على التقاعد في القطاع العام لتجنب الانحرافات التي قد تحصل في العلاقة بعدد من الملفات المهمة التي قد ينتفع بها القطاع الخاص.

ضعف مخصصات التقاعد

تظهر إحصاءات رسمية أن نحو 70 في المئة من الموظفين التونسيين الذين خرجوا على التقاعد المبكر أو "شرف المهنة" مثلما يطلق عليه في تونس هم من كبار الموظفين (درجة مدير عام أو مدير ورئيس مصلحة) ولهم تكوين علمي في الهندسة أو العلوم القانونية وشهادات عليا في التصرف وراكموا في الأقل خبرة لأكثر من عقدين في العمل الإداري وهم على دراية بأدق التفاصيل.

ومن ضمن عوامل طلب الإحالة إلى التقاعد لعدد مهم من الموظفين الحكوميين في تونس ضعف جراية (مخصصات) التقاعد، مما يجعل عدداً لا بأس به من بينهم يبحثون عن شغل بعد مغادرة العمل الحكومي وهي مسألة صارت تجلب اهتمام كبرى الشركات الخاصة في تونس للانتفاع بخبراتهم.

في غضون ذلك، صارت هذه الوضعية محفزة جداً للشركات الخاصة في تونس على الاتصال مباشرة بهؤلاء الموظفين المحالين على التقاعد وعرض عليهم عقود شغل برواتب مجزية لأجل الانتفاع بخبرتهم وإلمامهم الدقيق بالمسائل والتفاصيل الإدارية التي تغفل عن القطاع الخاص، تحديداً في تسهيل الإجراءات والتواصل مع زملائهم المباشرين في القطاع الحكومي.

وهناك مسألة أخرى يجب الانتباه إليها في هذا الملف وهي أن كثيراً من كبار الموظفين الذين غادروا العمل في القطاع الحكومي لديهم ربما أسرار عمل على علاقة بمشاريع اقتصادية مهمة يمكن أن يهتم بها القطاع الخاص وينتفع بها.

تسريح مقنن

ويضيف النيفر أن الحكومة تعتزم تسريع نسق تسريح الموظفين تحت غطاء التقاعد المبكر خلال الفترة بين عامي 2025 و2027، موضحاً أن عدد إجمالي الموظفين الذين سيحالون على التقاعد القانوني في هذه الفترة 50 ألف موظف، من بينهم جانب كبير ومهم سيحالون على التقاعد المبكر في إطار ما وصفه بالتسريح المقنن.

وأكد أن عملية تسريح الموظفين أو دفعهم إلى الخروج على التقاعد المبكر تطرح إشكاليات في الموارد البشرية من خلال خروج إطارات قبل سن التقاعد لها خبرة كبيرة وقضت عقوداً في دواليب الإدارة

ويوضح أنه "على عكس ما يعتقد الناس، فإن أفضل الكفاءات والخبرات في تونس موجودة في القطاع الحكومي وأن أكبر المسؤولين في المجامع الاقتصادية الخاصة في البلاد هم من خريجي القطاع العمومي".

ويشير إلى أن من أبرز أسباب الخروج على التقاعد المبكر يعود للتأجير الضعيف، لافتاً إلى أن مديراً عاماً في إحدى الإدارات التونسية يتقاضى راتباً شهرياً في حدود 3300 دينار (1046.5 دولار) مع بعض الحوافز العينية.

وفي المقابل، قال المتحدث لـ"اندبندنت عربية" إن قرار تونس بتقليص كتلة الأجور مقبول في حدود 12.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي حتى بداية عام 2025، ويؤكد أن تلك النسبة لا يمكن أن تتحقق في الوقت الراهن، مما دفع الحكومات إلى تجميد الانتدابات وإيقاف الاتفاق مع الاتحاد العام التونسي للشغل عام 2022 في شأن زيادات الأجور.

فائدة للجانبين

ويعتقد العبيدي بأن الإحالة إلى التقاعد المبكر للموظفين في تونس "لا يمكن تناولها من زاوية سلبية فحسب، إذ يقول إن الشركات الخاصة ستنتفع بدورها من مهارات موظفي القطاع العمومي عند العمل لديهم بما يحسن من جودة إنجاز المشاريع، إلى جانب الإبقاء على هذه الكفاءات داخل البلاد".

ويرى أن عمل كبار الموظفين الحكوميين في القطاع الخاص سيحسن من العلاقة ما بين الطرفين من خلال إمكان أن يكون الموظفون الحكوميون العاملون في القطاع الخاص كمخاطب وحيد مع الإدارة التونسية التي تتطلب دراية ومعرفة من أجل تسريع الإجراءات الإدارية، لا سيما في المجال الاستثماري.

ويوضح أنه "لا يجب تهويل المسألة إلى درجة إفراغ الإدارة التونسية، فهناك لجان تعمل على مستوى كل وزارة لدراسة طلبات الإحالة إلى التقاعد المبكر وأن هذه اللجان بإمكانها رفض طلب التقاعد المبكر، نظراً إلى حاجة الإدارة لنوعية معينة من المسؤولين الأكفاء".

اقرأ المزيد