Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قصة واحدة من أكبر الأكاذيب في تاريخ حكايات الغرام

حوارات المفكر غريب الأطوار مع حبيبته ألوويز لم تكن سوى تواصل مع الذات

تمثال بيار أبيلار (غيتي)

ملخص

 يمكننا القول إن ما اكتشف أخيراً من أن حكاية أبيلار وألوويز كما وصلتنا التعديلات الراهنة التي طرأت عليها، لم تحدث تذكيراً يذكر في نظرة الإنجليز الذين يبدو أنه قد سرهم إضفاء السمات الرومانسية عليها بدلاً من اعتبارها أدب تراسل حقيقياً.

من ناحية مبدئية تعتبر حكاية غرام المفكر والمعلم النهضوي بيار أبيلار مع حبيبته وتلميذته ألوويز واحدة من أشهر حكايات الغرام في تاريخ أوروبا، وهي حكاية يستشهد بها عادة بالنسبة إلى ما يلامس هذا الموضوع المؤسس في العلاقات الغرامية في أوروبا، تلك الأزمنة، على اعتبار أن الدليل على حضورها في التاريخ الفكري والاجتماعي ماثل في الواقع من خلال الكيفية التي انعكست بها في دليل لا يمكن دحضه، وما هذا الدليل سوى تلك الرسائل التي تركها صاحب الشأن نفسه كجزء أساس من تراثه الخاص، حتى وإن أتت على شكل رسائل متبادلة بينه وبين حبيبته.

وكانت كما يعرف كثر منا رسائل محملة بكل أنواع الشغف والعواطف وتنم عن الحب الذي جمع بين المعلم وهو في مقتبل العمر، وبين تلك الحسناء الرائعة التي تفيدنا الرسائل بأن حكاية غرامه بها كانت واحدة من أحلى حكايات الحب، لكن الدراسات الحديثة جاءت لتقول لنا إنها لم تكن سوى حكاية تخيلها عقله وصاغتها أمنياته إلى درجة أن كل الرسائل إنما كانت من كتابته ولا شأن لها بها.

 

الخلفية حقيقية

ومع ذلك يؤكد لنا التاريخ أن ألوويز قد وُجدت حقاً، وأنها كانت حقاً تلميذة أبيلار، وأنهما قد تعايشا تحت سقف واحد لفترة من الزمن، وهذا كان كل شيء، أما بقية الحكاية فمن اختراع المفكر وصياغة مخيلته الخصبة لا أكثر ولا أقل.

ومن الواضح أن هذا التعديل التاريخي إنما ينسف تلك الحكاية وأسطوريتها الجميلة بصورة بائسة، ولكن ما العمل وحقائق التاريخ تنتهي إلى أن تفتح عادة، ولكن بعد كل شيء لا بد من التوقف هنا عند ذلك الافتتاح، ولو أن من شأن هذا التوقف أن ينسف سحراً لطالما افتتنت البشرية به، وأثار مخيلات لدى متابعي الحكاية لحظات من سحر كان يخيل إليهم أنه لا ينضب أبداً، وتاركة لنا طعم العلقم في فائدة دائماً ما انتهت في أيام الرومانسية التي لا تمل.

أصل الحكاية

أو بالأحرى كيف ولدت تلك الحكاية وكيف انهارت بعدما عاشت طويلاً وحركت مخيمات المبدعين وعواطفهم؟ الحقيقة أن أية إجابة على هذين السؤالين الأساسين لا بد من أن تنطلق من سؤال سيبدو للوهلة الأولى غير ذي علاقة حاسمة بهما، وهو سؤال قد يبدو بالغ الغرابة في هذا السياق: ما الذي دعا عمّ ألوويز الوصي عليها ورجل الدين النافذ الأب فولبرت إلى دعوة أبيلار للإقامة في داره بهدف تربية ابنة أخيه وتعليمها مبادئ العلوم والأفكار، حتى ولو أنفق المعلم الكبير كل وقته وجهده ليلاً ونهاراً منصرفاً إلى ذلك؟

أما الجواب فبسيط ومنطقي، فلقد فعل العم ذلك انطلاقاً من أبهته الاجتماعية كما من بخله، فباكتفاء أبيلار بالحصول على المأوى والطعام في دارة فولبرت كان في مقدور الوجيه الورع أن يستخدم لتلك الغاية التربوية علم أبيلار ومكانته من دون مقابل تقريباً، غير أن هذا السؤال كان منذ زمن بعيد أبسط الأسئلة وأسهلها جواباً، فثمة من بعده كثير من الأسئلة الأخرى الأكثر تعقيداً، ولنغُص الآن بصورة أعمق في عالم الحكاية وفي الأقل حتى نفهم الأطروحة التي توغل فيها كتاب بالغ الجِدة صدر عام 2013 عن مطبوعات جامعة "أكسفورد" التي ما اعتادت أن تأخذ الأمور على عواهنها.

دوافع المعشوقة الغريبة

ولعل أهم الجديد الذي يقدمه هذا الكتاب المعنون وبكل بساطة "مجموع مراسلات بيار أبيلار وألوويز" هو نفسه من الأساس، أن تكون المراسلات حقيقية ومتبادلة بين "العاشقين"، لكنه في خضم ذلك لا يتوقف على طول صفحاته عن طرح أسئلة يحمل كل منها في خلفيته مفاجأة من العيار الثقيل، وربما يكون السؤال الأكثر ضخامة هو: لماذا رفضت ألوويز، على رغم أنها كانت حاملاً من أبيلار، أن تتزوج منه؟ ففي مثل حالها كان من المحتم أن تقبل به زوجاً على رغم كل شيء كي تداري فضيحة قاتلة، لكنها رفضته، ثم ما الذي جعل أبيلار المتزوج أصلاً زواجاً سرياً من امرأة أخرى يطلب الزواج من ألوويز ثم يرضى، وقد رفضته، بأن يبعث بها إلى مكان ناء في الغرب الفرنسي (مقاطعة بريتانيا) كي تضع المولود المنتظر؟

الحقيقة أن العاشق الولهان كان قد بدأ في ذلك الحين يحس تناقصاً في شغفه تجاهه، غير أن ما من أحد ينوب عن صاحب العلاقة نفسه في إخبارنا بكل ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحكاية من مصدرها

فالحياة كما وصلتنا عبر التاريخ لن نجدها في أي مصدر من مصادر الزمن الذي حدثت فيها في ذروة العصر النهضوي، ذلك أن كل ما وصلنا منها إنما يستقى من رسائل العاشق التي يوجهها إلى معشوقته، وكذلك من رسائل هذه الأخيرة التي سيتبين بعد قرون أن أحداً غير أبيلار لم يصلها، وإن حملت وجهة نظر ألوويز في ما حدث.

وعلى أية حال فسواء كان أبيلار مخترع الحكاية أو غير ذلك فإن التاريخ يتابع الحكاية، ولا سيما من خلال موقف فولبرت الذي ما أن أدرك ما حدث لربيبته حتى جن جنونه، وأقبل على المعلم الذي يخبرنا أن مساعدي رجل الدين قد "تكالبوا على قطع أعضائي التناسلية التي أسهمت في مساعدتي على ارتكاب جريمتي"، بهذا العقاب الذي لا يتوقف أبيلار عن وصفه وصفاً شديد القسوة، ينتهي هذا الفصل الأول من الحكاية كما يصفها لنا العاشق وكما تستكملها المعشوقة، ولعل من الطرافة بمكان هنا أن نذكر أن عدداً من المعلقين في الأزمنة التالية للحكاية كانوا يعتقدون حين يلاحظون تطابقاً في أسلوب رسائل أبيلار وألوويز أن ذلك يعود لكونه معلمها، وهي كانت متأثرة بلغته وأسلوبه، غير أن هذا ليس صحيحاً لأن الدراسات العلمية الحديثة أكدت لنا أن أبيلار كان هو كاتب كل الرسائل الصادرة والواردة، والحقيقة أن مجمل الدراسات التي اشتغلت على هذا الموضوع، والتي يتصدى لها اليوم هذا الكتاب الجديد الذي يضم في نهاية الأمر مجموعة من الدراسات الفيلولوجية التي تولى مؤرخ النهضة الفكرية ديفيد لاسكومب تحريرها واستخلاص نتائجها، حسمت الأمر أخيراً بين منطقين يتعلقان بمدرسة تلك الرسائل الأدبية: هل تراها تنتمي إلى أدب الرسائل أم إلى الأدب الرومانسي؟ وجاء الجواب ببساطة: إنه أدب رومانسي من اختراع ذهنية واسعة الخيال، أدب لا علاقة لألوويز به لا من قريب ولا من بعيد، بل ربما لم توجد هذه الأخيرة أبداً!

شغف أنجلو-ساكسوني

وهنا قد يبقى لدينا في اللعبة سؤال أخير يأتي من خارج الحكاية ذاتها: لما انفرد المؤرخون الإنجليز، بل حتى قراء الإنجليزية، بجعل حكاية أبيلار وألوويز محط اهتمامهم أكثر مما فعلت أي من الشعوب الأخرى، على رغم أن الحكاية فرنسية الجذور، وعلى رغم أن أدب الرسائل مفضل لدى الفرنسيين أصحاب الحكاية الأصليين؟

وهنا أيضاً قد يتسم الجواب المنطقي بقدر لا بأس به من البساطة المقنعة، فببساطة لأن لدى الإنجليز ما يمكننا اعتباره شغفاً بالتاريخ، وما الاهتمام بتاريخ هذه الحكاية التي يتعامل معها الإنجليز عادة بوصفها قصة رومانسية، وندر أن قرأوها كتطبيق لأدب التراسل، وإن كان كثر من مؤرخيهم يرون أنها كانت بداية مستوردة إنما غير موفقة إلى حد كبير لهذا النوع من الأدب الذي يكاد يكون فرنسي الجذور في عصرنا الحديث، ومن هنا يمكننا القول إن ما اكتشف أخيراً من أن حكاية أبيلار وألوويز كما وصلتنا التعديلات الراهنة التي طرأت عليها، لم تحدث تذكيراً يذكر في نظرة الإنجليز الذين يبدو أنه قد سرهم إضفاء السمات الرومانسية عليها بدلاً من اعتبارها أدب تراسل حقيقياً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة