ملخص
أحدثت الأفكار الذي قدمها احد مفكري عصر النهضة العربية عبد الرحمن الكواكبي ثوارة واعية في الفكر العربي والإسلامي لا بد أن تقول اليوم إن من المؤسف كونها لم تنتقل، كما ينبغي، من حيز الفكر إلى حيز العمل، ما من شأنه أن يجعل منها، لو كنا منصفين، أندلس أخرى مفقودة من أندلساتنا الضائعة
"أقول وأنا مسلم عربي مضطر للاكتتام، شأن الضعيف الصادع بالأمر، المعلن رأيه تحت سماء الشرق، الراجي اكتفاء المطالعين بالقول عمن قال: وتعرف الحق في ذاته لا في الرجال، إنني في سنة ثماني عشر وثلاثمئة وألف هجرية، هجرت دياري سرحاً في الشرق، فزرت مصر واتخذتها لي مركزاً أرجع إليه مغتنماً عهد الحرية فيها على عهد عزيزها حضرة سمّي عم النبي العباس الثاني الناشر لواء الأمن على أكتاف ملكه، فوجدت أفكار سراة القوم في مصر كما هي في سائر الشرق خائضة عباب البحث في المسألة الكبرى، أعني المسألة الاجتماعية في الشرق عموماً وفي المسلمين خصوصاً، إنما هم كسائر الباحثين، كل يذهب مذهباً في سبب الانحطاط وفي ما هو الدواء. حيث إني قد تمخض عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورة الدستورية...". بهذه العبارات يقدم لفصول كتابه الأساسي، واحد من كبار مفكري عصر النهضة العربية التي نمت بعد تأسيسها، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وأحدثت في الفكر العربي والإسلامي ثورة واعية لا بد أن تقول اليوم إن من المؤسف كونها لم تنتقل، كما ينبغي، من حيز الفكر إلى حيز العمل، ما من شأنه أن يجعل منها، لو كنا منصفين، أندلس أخرى مفقودة من أندلساتنا الضائعة. وهذا المفكر الذي نعنيه هنا هو، بالطبع، عبدالرحمن الكواكبي، السوري الحلبي، الذي قارع السلطنة العثمانية وأعوانها العرب بالحجة والمنطق حتى اضطر للهرب إلى مصر، حيث تبعته قوى الظلام وقضت عليه وهو بعد شاب في أوج عطائه، ولم تكتف بذلك بل أرسلت إلى داره في حلب علماء يجمعون كتاباته ويتلفونها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"طبائع الاستبداد"
ومع هذا بقي لنا من نتاج الكواكبي الكثير، ولعل أبرز ما بقي كتابه "طبائع الاستبداد" الذي جاء النص الوارد أعلاه، في مقدمته، وكان حرياً به أن يعتبر حين نشر ككتاب كامل في بداية القرن العشرين، كتاب المستقبل العربي، لكنه ظل مجرد ترف فكري يقرأه المفكرون ويتجادلون في شأنه، من دون أن يجد طريق أفكاره إلى أرض الواقع. وأفكار "طبائع الاستبداد" تأتي في نصوص واعية واضحة، عبر سلسلة مقالات هي التي شكلت متن الكتاب كان الكواكبي بدأ كتابتها وهو بعد في حلب، ثم استكملها وهو في مصر، إذ يقول في المقدمة: "في زيارتي هذه لمصر، نشرت في أشهر جرائدها بعض مقالات سياسية تحت عنوانات الاستبداد: ما هو الاستبداد وما تأثيره في الدين، في العلم، في التربية، في الأخلاق، في المجد، في المال... إلى غير ذلك. ثم في زيارتي الثانية لمصر أحببت تكليف بعض الشبيبة، فوسعت تلك المباحث خصوصاً في الاجتماعيات كالتربية والأخلاق وأضفت إليها طرائق التخلص من الاستبداد ونشر ذلك في كتاب سميته "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد...". ولنذكر هنا، أيضاً أن الكواكبي صدّر كتابه بعبارة "... وهي كلمات حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غداً بالأوتاد" ووقع كتابه كما المقالات حين نشرها متفرقة قبل ذلك باسم "الرحالة ك.".
كما نفهم، إذاً، من تقديم الكواكبي، فإن نصوصه هذه تتناول، تحديداً، واحدة من المسائل التي كانت بالفعل مطروحة على العقل العربي. ولئن كان باحثنا الحلبي قد تدخل في نقاش تلك المسائل، فمن الواضح أنه شاء لتدخله أن يكون علمياً شاملاً، لا مجرد تدخل أيديولوجي. ومن البيّن في هذا المجال أن الكواكبي وضع جزءاً كبيراً من نصوص الكتاب، استناداً إلى عدد من الدراسات والكتب العربية التي كان يقرأها بنهم في حلب. وهو يذكر هذا بكل وضوح، غير أن ما لا يذكره هو تأثره بالعديد من النصوص الإيطالية التي كان يطلع عليها منقولة إلى العربية من طريق أعضاء في جمعيات "الكاربوناري" الاشتراكية الإيطالية، وهم أعضاء تشير مصادر عدة، منها كتاب لعباس محمود العقاد عن الكواكبي أنهم كانوا موجودين وناشطين في حلب في ذلك الحين، وأن الكواكبي كان على اتصال بهم. ويبدو أنهم هم الذين ساعدوه على الهرب من حلب، وكانت لهم علاقة ما بمحاولة اغتيال قنصل إيطاليا في المدينة، وهي محاولة جرت غير بعيد من مقر الكواكبي واتهم هذا بالضلوع فيها. وقد يزيد من حدة التكهنات عن علاقة الكواكبي بالإيطاليين الاشتراكيين، أنه حين قام بجولته الشهيرة في مناطق الجنوب العربي والخليج، قام بها على متن سفينة إيطالية. وكذلك فإن الجانب التاريخي والتحليلي في كتاب "طبائع الاستبداد" يضعنا مباشرة على تماس مع فكر ماتزيني 1805-1872.
أسباب الانحطاط
المهم أن الكواكبي في كتابه الغريب والمجدد، في ذلك الحين، كان همه الأساسي أن يخوض المعركة ضد الاستبداد الذي كان يسم تلك الحقبة من الحكم التركي للبلاد العربية. والحال أن قراءة "طبائع الاستبداد" توضح لنا كيف أن الكواكبي، ووفق تفسير ألبرت حوراني في "الفكر العربي في عصر النهضة" ينطلق في آرائه من فكرة انحطاط الإسلام، مفسراً هذا الانحطاط أولاً "التفسير المألوف إذ يعزوه إلى قيام البدع ولا سيما الصوفية المتطرفة الغريبة عن روح الإسلام، وإلى التقليد الأعمى ونكران حقوق العقل، والعجز عن التمييز بين الجوهري والعرضي في الدين". غير أن الكواكبي – وفق تفسير حوراني – أضاف إلى ذلك شيئاً آخر كان ذكره الأفغاني ومحمد عبده، وهو أن الحكام المسلمين المتأخرين عمدوا إلى تشجيع روح التقليد الأعمى الغاشمة والاستسلام لفكرة الآخرة من أجل تدعيم سلطتهم المطلقة. ولقد ألح الكواكبي على هذا العامل المؤدي بحد ذاته إلى الفساد والانحطاط قائلاً إن "الحكام المستبدين لم يكتفوا في عملهم الشرير بتأييد الانحراف عن الدين الصحيح، بل أفسدوا المجتمع بكامله" فـ"الدولة العادلة التي فيها يحقق البشر غايتهم من الوجود هي تلك التي يعيش الفرد فيها حراً، ويخدم المجتمع بحرية، وتسهر الحكومة على هذه الحرية، وتكون الحكومة نفسها خاضعة لرقابة الشعب". ولنلاحظ هنا أن ماتزيني كان يستخدم في كلامه عن الحكم الجمهوري هذه العبارات نفسها. وبالنسبة إلى الكواكبي فإن "هذا ما كانت عليه الدولة الإسلامية الحق. أما الدولة المستبدة فنقيض ذلك تماماً: فهي تتعدى على حقوق المواطنين، وتبقيهم جهلاء، كي تبقيهم خانعين، وتنكر عليهم حقهم في القيام بدور فعال في الحياة، نتفهم، آخر الأمر، العلاقة الروحية بين الحكام والمحكومين، كما بين المواطنين أنفسهم، وتشوّه كيان الفرد الخلقي بالقضاء على الشجاعة والنزاهة وشعور الانتماء الديني والقومية على السواء". فما الحل؟ للإجابة عن هذا السؤال يقول الكواكبي في الفصل الأخير من كتابه بعنوان "الاستبداد والتخلص منه": "ليس لنا مدرسة أعظم من التاريخ الطبيعي، ولا برهان أقوى من الاستقراء"، وانطلاقاً من هذا الاستقراء يتعرض الكواكبي لمراحل تطور عيش الإنسان من "دور الافتراس" إلى دور "ترقّى فيه قسم من الإنسان إلى التصرف إما في المادة وإما في النظريات... وفي خضم ذلك عاشت كل الأمم "في تقلبات سياسية على سبيل التجريب" ووفق "تغلّب أحزاب الاجتهاد أو رجال الاستبداد"، حتى "جاء الزمن الأخير فجال فيه إنسان الغرب جولة المغوار، فقرر بعض القواعد الأساسية في هذا الباب تضافر عليها العقل والتجريب. وحصحص فيها الحق اليقين فأصبحت تعد من المقررات الاجتماعية عند الأمم الشرقية، ولا يعارض ذلك كون هذه الأمم لا تزال منقسمة إلى أحزاب سياسية يختلفون شيعاً، لأن اختلافهم هو في تطبيق تلك القواعد وفروعها على أحوالهم الخصوصية".
فهل نحن في حاجة إلى أكثر من هذا لكي نرى في هذا الكتاب الاستثنائي وصية سياسية من الكواكبي؟ فالكواكبي الذي ولد لأسرة من الأشراف المثقفين في حلب في عام 1855، سيموت مقتولاً بالسم على الأرجح في 14 حزيران (يونيو) 1902 في القاهرة، أي في العام نفسه الذي انتهى فيه من نشر مقالات هذا الكتاب على حلقات في صحيفة "المؤيد" المصرية لصاحبها علي يوسف. وكان نشر قبله كتابه المهم الآخر "أم القرى"... وهما الكتابان الأساسيان اللذان تركهما لنا، إضافة إلى عدد كبير من المقالات والرسائل، إلى جانب النصوص الضائعة.