ملخص
"سنة القطط السمان" رواية تاريخية تقع أحداثها في عام 1937، وتوثق تاريخ الكويت غداة بوار حرفة الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، وتباشير اكتشاف النفط، ومن ثم بروز التحولات التي وضعت هذا البلد على درب نهضته الحديثة، في مجالات التعليم والثقافة والسياسة والاقتصاد.
يرسم الكاتب الكويتي عبدالوهاب الحمادي (1979) في روايته "سنة القطط السمان" (دار الشروق - القاهرة) الشخوص، ويسرد الأحداث ويصف الزمان والمكان والظروف مستخدماً ضمير المخاطب. ويتسق ذلك مع ما لاحظه خيري دومة في كتابه "ضمير المخاطب في السرد العربي" (الدار المصرية اللبنانية) من أن "المساحة التي يحتلها السرد بضمير المخاطب، اتسعت على نحو لافت في العقود الأخيرة، بحيث أصبحت (الأنت) جزءاً من القص، وليست مجرد (أنت) اتصالية بين الكاتب والقارئ، فأصبح كلام الراوي بضمير المخاطب تمثيلياً أو تقريرياً، خبرياً وليس إنشائياً، إذا استخدمنا لغة البلاغة الكلاسيكية"، الذي تجلى في نصرة الشعب الفلسطيني حتى قبل أن تقع نكبة عام 1948.
يفتتح الحمادي الرواية بقصيدة "المدينة" لقسطنطين كفافيس بترجمة نعيم عطية: التي تنتهي على النحو التالي: "... وما دمت خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود". ويلاحظ أنها أيضاً مصاغة بضمير المخاطب، وقبلها قدم الحمادي لعمله بفقرة صاغها بالضمير نفسه على النحو التالي: "من المسافة بين الحقيقة والخيال، نسج عالم الرواية وجاءت، مثلما جئت أنت من بين تلك المسافة نفسها"، وربما كانت الكويت هي المخاطب هنا. تبدأ الأحداث في التاسع من يناير (كانون الثاني) 1937، وهو العام الذي سيشهد القبض على "الهندستاني" بتهمة ذبح قطط "سمينة"، وتقديمها لزبائن مطعمه على أنها لحم غنم، ومن هنا سيسمي الناس هذا العام بـ"سنة القطط السمان"، على دأبهم في تلك الفترة الزمنية على تسمية أعوامهم بالأحداث البارزة التي شهدتها.
بين معنيين
على أن الحمادي سيظل، عبر سرد يتولاه بطل الرواية "مساعد"، جاء غالباً في شكل مونولوجات متتالية، مع تدخلات محدودة لراو خارجي عليم، يتلاعب بالزمن، ليتداخل الماضي مع الحاضر، وتحضر ذكرى الراحلين، بين الحين والآخر. فيما المكان يكاد ينحصر في حي "المرقاب"، حيث يعيش "مساعد" الشاب الطامح إلى الثراء، والشغوف بالقراءة وتعلم الإنجليزية من قاموس "إلياس"، مع أمه وأخته وزوجته، بعد رحيل والده الذي كان يعمل في حرفة الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، كثيراً ما نصحه بأن يقنع بما هو عليه، ويتجنب المغامرة، لكنه لم يعمل بنصيحته. كما يتلاعب بمعنى تعبير "القطط السمان" ما بين معناه المباشر، الذي يشير إلى تلك القطط التي أشيع أن الهندستاني يذبحها ويقدمها مشوية لزبائنه، ومعناه السياسي / الاقتصادي، الذي يشير إلى أولئك المحسوبين على أصحاب النفوذ ومن ثم يحققون ثراء تعتريه الشبهات، ويمثلهم التاجر "منصور التاير". يعمل مساعد الذي يبلغ من العمر 25 عاماً، "محاسباً" لدى "التاير"، ويجد أن الراتب لا يكفي، فيعمل أيضاً لدى المعتمد البريطاني "غيرالد ديغوري" سكرتيراً. وبعدما لاحظ "الهندستاني" أن "مساعد" يتردد يومياً على مطعمه ويعجبه ما يقدمه لزبائنه من طعام، وما يحققه بالتالي من ثراء، يعرض عليه أن يشاركه. يرهن "مساعد" بيت عائلته والبيت الذي ورثته زوجته عن أهلها الذين ماتوا في "سنة الهدامة" (1935)، في مقابل مبلغ من المال يقترضه من "التاير"، مستبشراً بقرب تحقق ما تتمناه نفسه، عبر تلك الشراكة.
سيعرف "مساعد" لاحقاً أن "التاير" عرض أيضاً على "الهندستاني" أن يشاركه في مطعمه الرائج، إلا أن الأخير رفض، فأسرها التاجر الذي تثار الشبهات حول ما يبيعه ويشتريه من خلال أسطول سفن يمتلكه، يطمح لأن يكون له موطئ قدم في المشروع البريطاني للتنقيب عن النفط في الكويت، فأوعز إلى إمام المسجد "فالح البطانة" المعروف بتشدده ومحاربة كل مظاهر الحداثة، ليشيع أن هذا الطباخ يغش الناس. وهكذا يدخل "مساعد" في دوامة القلق في شأن المال الذي اقترضه من "التاير" ليشارك "الهندستاني". وتبلغ تلك الدوامة ذروتها عندما يتقرر غلق المطعم، بعد اعتقال صاحبه، على يد رئيس حرس السوق "أبو مبارك"، وقيام "التاير" بوضع يده على منزل "مساعد" ومنزل زوجته، بما أنه يحوز صكي ملكيتهما لضمان سداد الدين.
شبيبة المتنورين
وفي ثنايا تلك الحكاية الإطارية، يتطرق السرد إلى ما كانت عليه الكويت في تلك السنة التي تلت العام الذي تم فيه حفر أول بئر تجريبية للنفط في حقل "بحرة"، وكان على من يرغب من شبابها في التعليم الجامعي أن يسافر إلى مصر أو العراق. ففي مقابل "التاير" الذي لم يكن يأبه لقانونية السبل التي يجني منها المال، وفي الوقت نفسه يمد الملا المتشدد بنصيب منه تحت ستار دفع المستحق عليه من زكاة وصدقة، ليدفعه للإفتاء بما يرضيه، كانت هناك جماعة "المتنورين"، أو المثقفين المهمومين بمستقبل البلد عبر فضح المفسدين، والنقاش حول قضية الهوية التي ينبغي أن تكون عليها الكويت في محيطها العربي وغير العربي، وقضية الوجود البريطاني في البلد الذي يرقى في نظر بعضهم إلى الاحتلال الذي يطمع في ثرواته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان "الملا فالح البطانة"، "يضايق خلق الله"، بحسب الراوي العليم، بـ"سوط الحلال والحرام، وأفتى لخلق كثيرين بتحريم ركوب السيارة". كان يسميها "مركبات إبليس"، ثم لم يجد حرجاً في أن يركبها من مسجده إلى مكتب "التاير" ليتسلم منه "صرة المال"، التي لم تكن سوى عربون للإساءة إلى سمعة "الهندستاني"، والتعريض بالـ"متنورين" الذين يلتقون بانتظام إما على مقهى "ابن الزنان" أو بيت الشاعر "صقر بن شبيب". وكسر الحمادي هيمنة سرد "مساعد" المونولوغي، بأن أفسح المجال لصوت زوجته "سعاد" وصوت أمه، في غير موضع من الرواية. ومن ذلك مونولوغ لسعاد توجه فيه الخطاب إلى زوجها الذي تخشى عليه من أحلام الثراء: "لو أنك تنصت لي يا مساعد، أعلم أن عينيك العسليتين اللتين أحب موصدتان لا تريدان رؤيتي لسبب لا أريد نتخمينه"، صـ 129. واللغة هنا تعتبر أعلى من مستوى تلك الزوجة التي لم تنل سوى حظ يسير من التعليم، وهذا بالطبع يؤخذ على الكاتب، وينطبق الأمر نفسه على ما جاء على لسان الأم في موضع آخر: "الهواء يحمل التراب والأصوات والضجيج إلى البيت، وأنت في غرفتك تتصامم عن الأخبار التي يحملها الهواء وتطرق أبواب البيوت، حتى تلج أذني يا ولدي"، ص 153.
تقنية الحلم
ويتكرر استخدام الحمادي لتقنية الحلم للتعبير عن هواجس "مساعد" الذي كثيراً ما يرى في أحلام يقظته "قطاً أسود بعينين ذهبيتين"، ربما للدلالة على ما يجول في خاطره من طموح إلى الثراء، هو المولود في "سنة الطفحة" (1912)، وتحديداً يوم عاد الغواصون للكويت - بحسب الراوي العليم - قبيل غرة رمضان، ظافرين بمحصول وافر من اللؤلؤ بيع بأضعاف ما جال في أحلامهم من أثمان. كما رأى غير مرة في أحلام يقظة أنه يستخدم بندقية سرقها من مكتب المعتمد البريطاني في قتل "منصور التاير". طفحت البلد في "سنة الطفحة" والسنة التي تلتها بمال "جرى مثل سيل غمر الأحياء". في مدرسة هاشم الرفاعي جاور "مساعد" في الصف أبناء الشيوخ والتجار واليهود، ثم سرعان ما بارت صناعة الغوص، "عندما استزرع ياباني اللؤلؤ في أقصى زاوية الأرض"، فاختار والده العمل عند والد "منصور التاير". أما زميله "المتنور" ناصر التاير فتعلم في البصرة ويرغب في دراسة الإنجليزية في مدرسة خاصة في جبل لبنان، ومنها يتجه إلى مصر ليلتحق بكلية الحقوق، وعاد للكويت من البصرة في "سنة القطط السمان" ليجمع أموالاً تخصص لنصرة الفلسطينيين في الثورة العربية في فلسطين المطالبة بإنهاء الانتداب البريطاني ووقف تدفق هجرة اليهود إلى هذا البلد. أما صديقه الآخر في جماعة "المتنورين"، "حاتم" فكان من أشد الناقمين" على التدين المتعصب الذي كفر المجتمع". أما "خليفة"، فخرج عليهم بتشجيع من "منصور التاير" الذي ساعده ليخلف قريبه "الملا فالح البطانة".
كان "حاتم" يرى وجوب بقاء عالم الكويتيين مرتبطاً بالمحيط الهندي وشعوبه، "لأنهم ينتمون إليها أكثر من انتمائهم إلى عالم عربي لم يعرفهم يوماً" ص 74. كانوا مطلعين على نهوض ثقافي عربي، يتمثل في بعض الكتابات التي كانوا يطالعونها في مجلات وكتب تصلهم بالبريد. كانوا فخورين بعبد العزيز الرشيد الذي ألف عام 1924 مسرحية سماها "محاورة إصلاحية" ومثلها الطلبة، "فكانت حجراً استهدف رؤوس المتعصبين الذين ينكرون نظريات العلوم مثل كروية الأرض وتكون المطر من تبخر الماء ويبعدون الناس عن دراسة اللغات الأجنبية ويصدون دخول المخترعات الحديثة باسم الدين تارة وتارة باسم العادات والتقاليد" ص 42. كانوا يتابعون أخبار بؤر قومية عروبية وديمقراطية وخلايا شيوعية وبعض الحالمين بعودة الخلافة في البصرة ويحلمون بأن يكون لديهم برلمان منتخب كالذي في العراق.
وعموماً اتصف الوصف في هذه الرواية بلغته الجزلة ومن أمثلة ذلك: "كان مساعد مع خليفة يتبعان رجلاً يرفع سراجاً أزرق ينوس بضوء شحيح، عندما التمعت السماء فأضاءت الدنيا لثانية، كأنما طلعت شمس، ثم دوى رعد رج الكون للحظة وانخلع قلباهما وأطبق الظلام اللزج ثانية ص 58.