ملخص
عدل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المبادئ التوجيهية الروسية للاستخدام النووي ليكون للكرملين الحق في استخدام الأسلحة النووية ضد دولة لا تمتلك إلا أسلحة تقليدية إذا كانت مدعومة بقوة نووية، والمقصود هنا بالطبع أوكرانيا التي تدعمها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
في ذكرى مرور ألف يوم على بدء الحرب في أوكرانيا، خفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قيود استخدام الأسلحة النووية بما يسمح برد نووي محتمل من موسكو على هجوم تقليدي من قبل أية دولة مدعومة بقوة نووية، رداً على قرار الرئيس بايدن السماح لأوكرانيا بضرب أهداف داخل الأراضي الروسية بصواريخ "أتاكمس" مما جعل الولايات المتحدة تدقق النظر في خيارات روسيا، وتراقب أنشطتها النووية والعسكرية وتتحسب لسوء التقدير واحتمالات التصعيد النووي، فما السيناريوهات التي تتوقعها واشنطن وما الردود المحتملة على كل منها؟
من دون تأخير
لم تتأخر أوكرانيا والولايات المتحدة كثيراً في استعراض قوتهما عبر توجيه كييف ضربات داخل الأراضي الروسية للمرة الأولى باستخدام ستة صواريخ "أتاكمس" الباليستية التكتيكية الأميركية الصنع، بعد أن منح الرئيس جو بايدن الإذن بذلك في تحول كبير في سياسة الولايات المتحدة، استهدف إظهار أن توفير الحلفاء الغربيين أسلحة أكثر قوة وتطوراً سيؤتي ثماره من خلال المساهمة في تدهور القدرات القتالية الروسية والكورية الشمالية التي تساندها، وتخفيف الضغوط على قوات كييف المنهكة وبخاصة في كورسك الروسية حيث تأمل أوكرانيا في جعل إمداد القوات الروسية المنخرطة في هجمات مستمرة أكثر صعوبة.
لكن الرد الروسي على قرار الرئيس الأميركي بايدن لم يتأخر أيضاً، فخلال اليوم نفسه أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رسمياً عن عقيدة نووية جديدة أشارت إليها موسكو قبل شهرين، حين أعلنت للمرة الأولى أنها ستستخدم الأسلحة النووية ليس فقط رداً على هجوم يهدد بقاءها، ولكن أيضاً رداً على أي هجوم يشكل تهديداً خطراً لسيادتها وسلامة أراضيها، وهو وضع مشابه جداً لما يحدث في منطقة كورسك حيث ضربت الصواريخ الباليستية المصنوعة داخل الولايات المتحدة ترسانات الأسلحة الروسية ومخازن الذخيرة.
وللمرة الأولى أيضاً عدل الرئيس بوتين المبادئ التوجيهية الروسية للاستخدام النووي ليكون للكرملين الحق في استخدام الأسلحة النووية ضد دولة لا تمتلك إلا أسلحة تقليدية إذا كانت مدعومة بقوة نووية، والمقصود هنا بالطبع أوكرانيا التي تدعمها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
أداة مساومة
ومع ذلك، كان من الواضح أن رد الفعل في واشنطن كان أقرب إلى التثاؤب، فقد اعتبر المسؤولون في البيت الأبيض ووزارتي الدفاع والخارجية أن الإعلان عن تعديل العقيدة النووية الروسية ليس سوى مجرد تهديدات نووية غير جدية، وبدلاً من ذلك كانت واشنطن مشغولة بالتكهنات حول من سيفوز بمنصب وزير الخزانة، أو ما إذا كان مات غيتز عضو الكونغرس السابق قادراً على الحصول على الأصوات اللازمة في مجلس الشيوخ للتصديق على تعيينه من قبل الرئيس المنتخب دونالد ترمب ليصبح النائب العام.
وعلى رغم أن حرب أوكرانيا غيرت أشياء كثيرة وأنهت حياة مئات الآلاف وهزت أوروبا وعمقت العداء بين روسيا والولايات المتحدة، فإن واشنطن اعتادت في ما يبدو على التهديدات الروسية المتكررة باستخدام الأسلحة النووية باعتبارها أداة مساومة نهائية، إذ إنه من الناحية العملية تبدو فكرة أن تضغط إحدى الدول التسع التي تمتلك الآن أسلحة نووية على الزر لإطلاق سلاح نووي، من المرجح أن تثير غضباً واستفزازاً واسعين حول العالم ومن المرجح أن يكون لها تداعيات خطرة.
ويتفق أستاذ الأخطار النووية في جامعة هارفرد ماثيو بون في أن الإعلان الروسي ليس سوى محاولة لإرسال إشارات تحذيرية، في محاولة لتخويف الجماهير في أوروبا وبدرجة أقل الولايات المتحدة حتى يتراجعوا عن دعمهم لأوكرانيا، لكن الاحتمال الفعلي لاستخدام روسيا الأسلحة النووية لم يزد في الأمد القريب، وإن كان زاد في الأمد البعيد قليلاً لأن استعداد الولايات المتحدة لدعم الضربات في عمق روسيا يعزز كراهية بوتين وخوفه من الغرب، ومن المرجح أن يستفز ردود فعل روسية من شأنها أن تزيد من خوف الغرب وكراهيته لروسيا.
اطمئنان أميركي
بالنسبة إلى الرئيس بوتين فإن العقيدة النووية الجديدة هي أحدث محاولاته لتحويل أكبر ترسانة نووية في العالم (5580 رأساً نووية منها 1710 جاهزة للاستخدام) إلى شيء قد يخشاه العالم مرة أخرى، مما يمنحه التأثير العالمي الذي لا يمكن أن يحققه اقتصاد بلاده المحدود، لكن البيان الصادر عن مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض دان العقيدة الجديدة ولم يظهر أي شعور بالخطر أو بالإنذار، إذ أشار البيان إلى أنه لم يكن هناك تغيير في الموقف النووي لروسيا على الأرض، من ثم لم تكن هناك حاجة إلى تغيير في مستويات التنبيه أو الإنذار بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي من الواضح أنها عدت أن المغزى الأساس من كلمات بوتين هو محاولة خلق مبررات جديدة للتهديد بالاستخدام النووي.
وبحسب البروفيسور والخبير النووي في معهد ماساتشوستس التكنولوجي فيبين نارانغ الذي عمل أخيراً لمدة عامين في "البنتاغون"، سيظل قرار الرئيس الروسي بوتين نشر سلاح نووي غير استراتيجي في أي مكان، وخلال أي وقت وعلى أي مقياس يواجه عواقب وخيمة إذا تحول إلى موضع التنفيذ، وفقاً لما كرره الرئيس الأميركي جو بايدن مرات عدة والذي عمل خلال فترة ولايته على صياغة إرشادات انتشار نووي جديدة مصنفة سرية في الولايات المتحدة والتي تركز أكثر على ترسانة الصين النووية المتنامية، وشراكتها مع روسيا.
سوء التقدير منخفض
ولهذا لا يزال يتعين على بوتين إعادة حساب الاستجابات وردود الفعل الأميركية والعالمية وإدارة التصعيد وفقاً لنارانغ، مشيراً إلى أنه حتى مع مراجعات بوتين وتعديلاته للعقيدة النووية الروسية، فإنه ما زال واثقاً جداً بأن القدرات النووية والتقليدية للناتو والولايات المتحدة قادرة على ردع الانتشار النووي الروسي، واستعادة الردع حال أخطأ الرئيس الروسي والقيادة في الكرملين حساباتهم أو بسبب سوء تقدير.
ويبدو أن فرصة سوء التقدير أو الخطأ في الحسابات منخفضة كثيراً وفقاً للتقديرات الأميركية، بالنظر إلى أن الرئيس بوتين كان حذراً طوال الحرب حول شن أي هجوم صريح على دول حلف شمال الأطلسي (ناتو)، لأنه يريد إبقاءها خارج الحرب.
ومع ذلك، كانت الولايات المتحدة متخوفة خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2022 من أن بوتين قد يفجر سلاحاً نووياً، عندما تنصت مسؤولو الاستخبارات الأميركية على محادثات بين الجنرالات الروس عززت المخاوف من أن زعيم الكرملين قد يستخدم سلاحاً نووياً في ساحة المعركة ضد قاعدة عسكرية أو هدف تابع للجيش الأوكراني، حينها أخبر بايدن الحاضرين في اجتماع لجمع التبرعات الانتخابية في نيويورك خلال ذلك الوقت أن الولايات المتحدة كانت أقرب إلى القصف المتبادل، باستخدام الأسلحة النووية مع روسيا أكثر من أي وقت منذ أزمة الصواريخ الكوبية مطلع ستينيات القرن الماضي، وهو ما أثار الرعب بين الحاضرين في الاجتماع ولكن في النهاية لم يحدث شيء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكما يلاحظ نارانغ لا يحدد ما يعرف باسم العتبة النووية أو جاهزية استخدام الأسلحة النووية بالكلمات، ولكن من خلال توازن الردع والأخطار المصاحبة لها، وأن التعديلات في تعريف العقيدة النووية لا تغير على الإطلاق من توازن الردع بين الولايات المتحدة وحلف "الناتو" من جانب، وروسيا من جانب آخر.
لا تغيير في مسار الحرب
وما يزيد من طمأنينة الأميركيين بأن روسيا لن تنفذ تهديداتها النووية يبدو أنه يتعلق بمسار الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، إذ يعتقد الأميركيون وكذلك الأوكرانيون أن أي سلاح واحد مثل صواريخ "أتاكمس" لن يغير مسار الحرب، وبخاصة أن تأثير التحول في سياسة البيت الأبيض سيعتمد على كميات الصواريخ التي يتم توريدها لكييف قبل شهرين فقط من عودة الرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، والذي قال إنه سيسعى إلى إنهاء سريع للحرب في أوكرانيا بينما يعترف الجيش الأميركي بأنه لا يمتلك مخزوناً كبيراً من هذه الصواريخ.
كما أن روسيا تمتلك أنظمة دفاع جوي قوية ومتعددة الطبقات، بما في ذلك بطاريات "أس 400" المصممة لمواجهة الصواريخ الباليستية مثل "أتاكمس"، فضلاً عن صواريخ "أس 500" الأحدث والتي تعادل أنظمة باتريوت الغربية الصنع المستخدمة لحماية السماء الأوكرانية.
وتوضح الولايات المتحدة أن استخدام صواريخ "أتاكمس" حالياً ليس الأول من نوعه ضد القوات الروسية، فمنذ وصول أول الصواريخ إلى أوكرانيا خلال أكتوبر 2023 والتي صممت لضرب أهداف تبعد نحو 100 ميل فقط (164 كيلومتراً)، استخدمت كييف إمداداتها المحدودة من الصواريخ لاستهداف أنظمة الدفاع الجوي الروسية في المناطق التي تسيطر عليها روسيا في أوكرانيا فحسب، وبخاصة في شبه جزيرة القرم وحققت ضربات ناجحة على المطارات والقواعد العسكرية الأخرى، وفقاً لصور الأقمار الاصطناعية وتقييمات المحللين العسكريين.
إبقاء صمود أوكرانيا
وإضافة إلى ذلك، من المرجح أن تزداد فعالية روسيا ضد صواريخ "أتاكمس" حتى وإن كان ذلك ببطء، مع تدريب روسيا لأطقم الدفاع الجوي على معالجة هذا التهديد، وفقاً لما كتبه جيك ميزي المتخصص الأمني في تقرير للمجلس الأطلسي في واشنطن خلال شهر سبتمبر (أيلول) الماضي.
ولم توافق الولايات المتحدة على تزويد أوكرانيا سراً بصواريخ "أتاكمس" بمدى 190 ميلاً (305 كيلومترات) إلا خلال أبريل (نيسان) الماضي، ومع ذلك قيدت إدارة بايدن استخدامها لاستهداف القوات الروسية الموجودة في الأراضي الأوكرانية فحسب، ولم تغير استراتيجيتها هذا الأسبوع إلا بعدما دفعت كوريا الشمالية بأكثر من 10 آلاف جندي لدعم نحو 50 ألفاً من القوات الروسية في محاولة لاستعادة السيطرة على كورسك الروسية التي تخطط أوكرانيا لمقايضة أراضيها بالأراضي الأوكرانية التي تسيطر عليها روسيا في شرق أوكرانيا، حال ضغط ترمب من أجل وقف إطلاق النار وقرر وقف المساعدات الأميركية لكييف كما أعلن من قبل.
ولكن حتى إذا كانت أوكرانيا قادرة على إلحاق الضرر بقدرة روسيا على شن الحرب فإن قوات كييف ستظل أقل تسليحاً وعدداً، مما يتطلب مزيداً من الأسلحة التي يستنزفها كلا الجيشين بمعدل محموم، وعلى سبيل المثال كانت ذخيرة المدفعية واحدة من الحاجات المستمرة لأوكرانيا طوال الحرب، وواجهت نقصاً مزمناً في ساحات المعارك مما يزيد من التحديات التي تواجه كييف، ولم يحقق الاتحاد الأوروبي هدفه بتوفير مليون طلقة مدفعية لجهود الحرب الأوكرانية في الوقت المناسب، بل تأخر عن الموعد المحدد بثمانية أشهر بهدف توفير ما يكفي أوكرانيا فقط للصمود، بينما وضعت روسيا اقتصادها بأكمله على قدم وساق في زمن الحرب وتعتمد على الدعم غير المشروط من كوريا الشمالية وإيران.
كل هذا يجعل واشنطن وتحالف الناتو أكثر اطمئناناً بأن التهديدات النووية الروسية لا تتوافق عملياً مع وضعها العسكري الجيد، ما دامت أوكرانيا لن تعمد إلى تجاوز الخطوط الحمر باستهداف العمق الروسي خارج كورسك التي تشهد قتالاً ضارياً الآن، وهو أمر لن تفعله بالتأكيد إلا بضوء أخضر أميركي من غير المحتمل أن يأتي أبداً.
عودة شبح الحرب النووية
لكن على رغم حال الطمأنينة النسبية التي سادت العاصمة الأميركية رداً على التهديدات النووية الروسية، فإن تصاعد الأخطار ولو بصورة محدودة الآن لم يكن هو ما تصوره الزعماء الغربيون في الماضي للفترة الحالية خلال منتصف العقد الثالث من القرن الـ21، فقد بدأ عصر ما بعد الحرب الباردة بتفكيك الأسلحة الروسية والأميركية بوتيرة متسارعة، وسلمت أوكرانيا آلاف الأسلحة النووية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في مقابل ضمانات بالحفاظ على أمنها من روسيا والولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى، وهو ما يجعل الأوكرانيين يندمون على ذلك حتى يومنا هذا، واستفادت أميركا من وقود الطاقة النووية للرؤوس الحربية الأوكرانية والذي شُحن إلى الولايات المتحدة، ولأعوام عدة أضاءت هذه الطاقة المنازل ودفأتها في جميع أنحاء البلاد.
وقبل 15 عاماً فحسب تصور الرئيس السابق باراك أوباما عالماً من دون أسلحة نووية وحتى لو لم تأت تلك اللحظة في حياته، فقد خفض هذا الطموح المتفائل من أهميتها في الاستراتيجية الأميركية على مدى أعوام، لكن سعى بوتين الآن لإظهار أن لديه نفوذاً جديداً أعاد إلى الأذهان شبح الحرب النووية من جديد بعد عقود من الراحة، إذ وضع بوتين أسلحة نووية في بيلاروس من دون أن يواجه أية قيود على أقوى أسلحته النووية وهي الصواريخ الباليستية العابرة للقارات التي يمكن أن تصل إلى الولايات المتحدة، وبعد 15 شهراً أنهى معاهدة "نيو ستارت" التي تحد من عدد هذه الأسلحة الاستراتيجية التي يمكن أن تنشرها واشنطن وموسكو، ولم تعد هناك سوى فرصة ضئيلة لاستبدالها الآن.
ومع عودة الحديث في واشنطن بين الديمقراطيين والجمهوريين عن الحاجة إلى توسيع ترسانة أميركا النووية لمواجهة الشراكة الروسية الصينية الجديدة، وإمكانية استخدام أسلحتهم بصورة مشتركة، تؤكد الرسالة الحقيقية لاستراتيجية بوتين الجديدة أن الأسلحة النووية لم تختف أبداً، وربما يحين الوقت يوماً ما لاستخدامها على رغم كل الأخطار التي تحيق بها.