ملخص
انتشرت ألعاب القمار بسرعة في العهد العثماني، بخاصة في الجيش وبين عائلات النخبة في إسطنبول، وزاد انتشارها خلال الحرب العالمية الأولى بعد قدوم نحو 150 ألف لاجئ روسي، وكانت الدولة في بعض الأحيان تتجاهل هذه الألعاب، مما سبب معاناة كبيرة للناس.
ألعاب القمار والمراهنة يعود أصلها للحضارتين المصرية والهندية القديمة، وهناك عدد لا يحصى من البقايا واللوحات التاريخية والنقوش ومنحوتات حجر النرد التي تعتبر الأداة الرئيسة لهذا "المرض"، ونسبت حضارات عدة معاني مختلفة للنرد وربطتها بالقدر والثروة.
ففي الحضارة اليونانية القديمة، تقاسم الآلهة بوسيدون وزيوس وهاديس العالم عن طريق رمي النرد وتقسيمه في ما بينهم.
عندما أتينا إلى روما، كانت للمقامرة اجتماعاتها الخاصة، وكان كوكب الزهرة يعني مكاسب غير متوقعة عند الرومان، وهناك عدد من المصطلحات المتعلقة بالمقامرة ترجع جذورها إلى روما، وكانت المسيحية أول ديانة تتفاعل ضد المقامرة وحظرت لعبة الطاولة، التي كانت شائعة في مختلف أنحاء العالم، حتى القرن الـ18، أما بالنسبة إلى الإسلام فرسم خطاً أكثر قسوة ضد القمار، على سبيل المثال ورد في القرآن الكريم في "سورة المائدة"، "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه"، وهذه حدود دقيقة تأمر بتجنب القمار والكهانة.
إضافة إلى النرد كانت أوراق اللعب (الشدة كما تسمى في العامية) أداة أخرى مهمة للمقامرة، فكما تبين أن هذه اللعبة انتشرت من الصين إلى العالم، وكانت لها خطورة أخرى عندما تستعمل لأنشطة مثل "قراءة الطالع".
عقوبة القمار في القانون العثماني
قانونياً كانت ألعاب القمار محظورة كلياً في العهد العثماني، وتغيرت عقوباتها بين الحين والآخر، في عهد السلطان سليمان القانوني انتشر القمار بصورة كبيرة جداً في البلاد، مما استدعى فرض عقوبات أقسى على ممتهني هذه اللعبة، فأصدر قراراً بأن يعاقب المتورطون في القمار بالأشغال الشاقة.
ومع صدور قوانين إصلاح التنظيمات، استبدلت عقوبة الأشغال الشاقة بالضرب المبرح، وتقرر أن يعاقب الشخص الذي يمارس القمار للمرة الأولى، بالضرب في العصا 79 مرة، وإذا لعبها مرة ثانية تتضاعف العقوبة.
ولم يكن القانون العثماني يمنع القمار لأسباب دينية، وإنما لأسباب اجتماعية، ذلك لأن القانون العثماني في ما يتعلق بالجانب الديني لا يتدخل في الحياة الاجتماعية للرعايا من غير المسلمين، أما في ما يتعلق بالقمار فتطبق العقوبة على المواطنين الأرمن واليونانيين.
وكان القانون ينص أيضاً أنه يمكن للدولة الاستيلاء على أية ثروة يحصل عليها من خلال القمار، تحت بند "لا يجوز لأحد أن يستولي على ملك شخص لأسباب غير مشروعة".
ومع اكتساب حركة التحديث زخماً بعد عام 1839، انتشرت بعض التصرفات الجديدة على نطاق واسع بين الناس الذين اعتبروها علامة على "التغريب" مثل رقصة "الفالس" وألعاب القمار، وانتشار المشروبات الكحولية بصورة أكبر في إسطنبول، ومع حركة التحديث التي بدأها والي مصر محمد علي باشا في المنطقة، أصبح هذا الاتجاه لدى المصريين أكثر منه في إسطنبول، لدرجة أن عبدالحميد الثاني قال إنه يجب "اتخاذ الاحتياطات اللازمة لأن النساء والرجال القادمين من مصر كانوا يفسدون أخلاق سكان إسطنبول وينشرون عادات غربية جديدة ومنها القمار".
ولم تكن ألعاب القمار منتشرة على الصعيد الشعبي فقط، بل كان هناك رجال مهمون وفي مراكز حساسة في الإمبراطورية العثمانية يمارسون القمار، منهم كان خليل شريف باشا، وهو أحد كبار المسؤولين الذين عينوا في مراكز مهمة في مصر، كان غارقاً في القمار لدرجة أنه منع من تولي منصبه خارج إسطنبول.
الأديب والكاتب العثماني أحمد مدحت كان يرى أن ألعاب القمار هي عادات غربية، وألف كتاباً يحمل عنوان "الأخلاق الأوروبية أو الإفرنجية"، ويعتقد أن تورط جزء كبير من الضباط في الجيش في ألعاب القمار كان له تأثير في انتشار القمار في المجتمع أثناء ما يسمى "فترة التغريب"، لأن أسرع مؤسسة تغريبية في الإمبراطورية العثمانية كانت الجيش.
كيف أسهم الروس في نشر القمار في إسطنبول؟
تسببت الحرب العالمية الأولى في نفي عدد من الأشخاص من أماكنهم ووطنهم، ومنهم من أصبحوا من "عديمي الجنسية"، وكانت إحدى أهم مواطن اللجوء هي إسطنبول، إذ توافد إليها عدد كبير من الأتراك في الدول الأخرى التي شهدت حروباً، وأيضاً عدد غير قليل من غير المسلمين وغير الأتراك من الدول التي شهدت حروباً، وكانت من بقايا الإرث العثماني، وكان الروس من أكثر اللاجئين الذين قدموا إلى إسطنبول في تلك الفترة، وكان هؤلاء لا يحملون سوى أمتعتهم الصغيرة، ووصل إلى إسطنبول نحو 150 ألف روسي أبيض معظمهم من أفراد الجيش القيصري، وكانت معهم أسلحة ومعدات حربية، وبينهم أمراء وجنرالات وضباط.
وبعد مقتل القيصر الروسي وعائلته عام 1917، عانت روسيا مستنقع حرب أهلية ودماراً، فلجأ أيضاً المنهزمون إلى إسطنبول، وكان عدد سكان إسطنبول في ذلك الوقت نحو 900 ألف نسمة.
كان جزء كبير من الروس الذين سكنوا إسطنبول أشخاصاً من النخبة والمتعلمين وأصحاب الكفاءات، منهم أطباء وأساتذة، واستقر جزء كبير منهم في منطقتي بيوغلو وغالاتا القريبتين من منطقة تقسيم وسط المدينة، وتدريجاً أصبح هؤلاء الروس جزءاً رئيساً من إسطنبول.
أما اللاجئون الروس الآخرون، من غير النخبة، الذين لم تكن لديهم أية مهنة أخرى سوى العسكرة، فكان يتعين عليهم البحث عن طرق أخرى لكسب المال، وأقصر طريقة لكسب المال بسهولة كانت من خلال صناعة الترفيه وألعاب القمار، وسرعان ما أصبحت اللعبة المسماة "بينغو" وسيلة ترفيه لا غنى عنها لسكان إسطنبول، في المقابل اتخذ علماء إسطنبول إجراءات لحظر هذه اللعبة من خلال إعلان الحرب على الأتراك المسلمين، الذين كانوا يعانون بالفعل الفقر، ويخسرون أموالهم في ألعاب القمار ذات الأصل الروسي مثل "بينغو"، وفي وقت قصير تمكن العلماء والنخبة التركية، في ذلك الوقت، من إجبار الناس على التخلي عن هذه اللعبة، وتمت إزالتها من جدول أعمال الجمهور، لكن الروس عرفوا كيف يفجرون عقول الأتراك بأفكار إبداعية أخرى حول القمار.
وابتكر بعض الروس طرقاً أخرى لجذب الناس في إسطنبول للقمار، منها لعبة "سباق الصراصير"، وهذه اللعبة أيضاً جذبت انتباه كثيرين من محبي الترفيه الذين خسروا أموالهم عليها.
كما جعلت صناعة الترفيه الروسية أسماء كبيرة من الأدب التركي زائرين منتظمين لها، منهم الكاتبان والأديبان أحمد حمدي طانبينار وسعيد فائق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يصف حكمت فريدون إيس، أحد الكتاب البارزين في وسائل الإعلام التركية في ذلك الوقت، هذا الوضع على النحو التالي "كان هناك نشاط مذهل واضح في شارع دوموز بجوار تونيل في غلطة، وكان مفتوحاً 24 ساعة في اليوم، مع شيء ساخن للأكل في أي وقت، وأي شيء للشرب في الشتاء البارد، أصبحت بيتروغراد الوحيدة مركز العالم البوهيمي الفكري. ربما كانت عالمية بعض الشيء، لكنها جلبت لمسة أوروبية خاصة. أستاذ جامعي يقبل يد كونتيسة أصلية ترتدي ملابس بيضاء، السيدة النادلة في طريقها إلى المنزل بعد أن أعطيت إكرامية كبيرة في منتصف الليل. كان السيد مصطفى شكيب بك من أحد العملاء المنتظمين".
يتابع فريدون إيس وصف الوضع القائم في كتابه "الروس البيض في إسطنبول والعاصفة الكبرى"، فيقول "في الشارع التالي تجد كلاً من أحمد حمدي طانبينار وجالي إبراهيم وناهت سيري يوريك وكاظم سيفينتش، والممثل راسيت رضا صاحب مطعم (بيزيم لوكانتا) المدمن على الكحول، يأتي عملاؤهم في وقت متأخر من الليل، تجد منفضة سجائر يحيط بها سبعة أشخاص، وهناك بالجانب مركز اجتماعات".
مقامر يحتال على القصر
كان المدعو ياني كابوتشي أحد أشهر الأشخاص الذين لعبوا القمار، وتشرد، ونفذ عملية احتيال ضد القصر العثماني.
روى قصته ونشر وثائقه الدكتور أحمد يوكسل، فيقول "كان كابوتشي شاباً يونانياً ورساماً ماهراً، لكنه لم يحصل على التعليم اللازم، فأراد أن يذهب إلى باريس لتلقي مزيد من التعليم في هذا الفن، لكن لم يكن لديه المال اللازم لذلك، وفي أحد الأيام خطرت في باله فكرة خبيثة، فكتب رسالة إلى وزارة الخارجية التركية (العثمانية)، يدعي فيها أن لديه أسراراً حيوية حول عدد من القضايا المهمة التي تخص الأعيان، وبخاصة السلطان عبدالحميد، هذه الرسالة جذبت انتباه وزير الخارجية أحمد توفيق باشا، فطلب الاهتمام بها، وزعم كابوتشي في الرسالة أن حياته في خطر، فطلب من وزير الخارجية أحمد توفيق باشا أن يرسل له 150 ليرة بعملة تلك الفترة حتى يتمكن من القدوم إلى إسطنبول، وضمن أنه لن يندم على ذلك".
لم يرسل توفيق باشا هذا المال، لكنه أرسل تعليمات إلى السفارة العثمانية في أثينا للتحقيق في مزاعم كابوتشي، ومما ورد في رسالة كابوتشي "وكما ذكرت من قبل، فقد وصلتني أنباء عن مؤامرة دبرت ضدك وضد السلطان، ومن خلال استغلال هذه الفرصة أريد أن أخدم السلطان والدولة العثمانية، وليس بعض المتآمرين، أنوي ضمان مستقبل مناسب لي من خلال النجاح في أداء هذه الخدمة، وليس لدي أدنى شك في أنني سأقدم خدمات مهمة في بلد السلطان، لقد قرأت في كتاب تاريخ عن الإمبراطور نابليون الثالث، كان نابليون يبقي إلى جانبه إيطالياً ينتمي إلى الطبقة الدنيا بسبب تقديمه خدمات جيدة للإمبراطور، لذلك أردت تقليد ذلك الإيطالي، هذا هو هدفي الضعيف في تقديم عرضي لك، وإلا فإن الأمر لا يتعلق بكسب 150 ليرة، إذ يمكنني بالفعل كسب هذا المبلغ من المال خلال خمسة أو ستة أشهر من دون التعرض لأي خطر، وفقط من خلال ممارسة فني الخاص، ومع أخذ ذلك بالاعتبار، فإنني أكرر بإصرار موافقتك على تحويل الأموال التي طلبتها من دون إضاعة الوقت، وأؤكد لك أنك لن تندم على ذلك، إنها ليست كمية كبيرة بما يكفي لإثارة التردد على أية حال، ربما ما سأقوله هو مجرد غصن في شجرة، ولا تنسى أنه إذا تم تقليم الشجرة ستنمو أغصان جديدة، أما إذا تم قطع الشجرة فستجف الأغصان والعقد، وهنا دعني أكرر مرة أخرى أن ترسل الأموال ولا تتردد، تخيل أن الفأر يستطيع أن يظهر معروفاً للأسد الذي أنقذه عن طريق قضم كروم العنب بأسنانه، يترتب على ذلك أن الصغار يمكنهم أيضاً أداء خدمات رائعة".
وزير الخارجية أخذ ادعاءات الشاب الرسام المحتال على محمل الجد، فاهتمت السفارة العثمانية في أثينا بهذه القضية، وفي الثاني من مارس (آذار) 1902 أرسلت السفارة ردها إلى وزارة الخارجية في وثيقة رسمية جاء فيها " على رغم مرور خمسة إلى ستة أشهر على ادعائه، إلا أن أياً من المؤامرات التي يدعي كابوتشي معرفته بها لم تحدث، ولم يحدث أي شيء غير طبيعي على رغم أن كابوتشي قال إن المؤامرة على وشك الحصول، وأيضاً ادعى أن لديه أسراراً بهذه الأهمية لكنه لم يضع عنواناً عريضاً لأي سر يدعيه، كما أنه لم يستجب للدعوة إلى القدوم للسفارة لإعطاء بعض المعلومات حول هذه المواضيع، وبناء على هذا وبعد التحقيق والتأكد من أن كابوتشي ينتمي لمجموعة من المتشردين والمتسولين تبين أن هدفه الوحيد من هذا هو الحصول على المال وليس لديه أية معلومة ذات قيمة، هذا هو تقديرنا للموقف، والقرار النهائي متروك لأمر السلطان ورأيه".
باختصار على رغم من وجود أمثلة لا حصر لها في تاريخنا، كان يعتقد عموماً أن المقامرة في الإمبراطورية العثمانية تفسد المجتمع، وكان ينظر إليها على أنها رمز للتغريب مع إصلاحات التنظيمات، وانتشرت بسرعة بخاصة في الجيش وبين عائلات النخبة في إسطنبول، وزاد انتشارها خلال الحرب العالمية الأولى، كانت الدولة في بعض الأحيان تتجاهل هذه الألعاب، مما سبب معاناة كبيرة للناس، واليوم تنتشر ألعاب القمار في إسطنبول بصورة كبيرة، لكن ينظر إليها على أنها مجرد ترفيه، لكن قد يكون هذا الترفيه هو بمثابة رصاصة في الساق.
ملاحظة: الآراء الواردة في هذه المقالة تخص المؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لصحيفة "اندبندنت تركية".