ملخص
في قلب المأساة، يتحول النادي السوداني في لبنان من صرح ثقافي إلى ملاذ إنساني يستقبل يومياً بين 50 و65 نازحاً، مانحاً لهم بصيص أمل وسط التحديات. قصص أحمد وحياة وغفران تجسد رحلة الألم والصمود بحثاً عن أمان مفقود.
وسط الأزمات المتشابكة التي تعصف بلبنان يقف السودانيون على مفترق طرق بين الماضي الذي هربوا منه في وطنهم الأم، والمستقبل الغامض الذي يواجهونه في أرض اللجوء. وبين قصص الرحلة الشاقة من السودان إلى لبنان عبر طرق محفوفة بالأخطار وتجارب الحياة اليومية التي تحمل معاناة اقتصادية وأمنية، تتجلى صورة معقدة للمعاناة والصمود. ومع غياب الدعم الكافي من المؤسسات الدولية والمحلية يصبح النادي السوداني الملاذ الأخير لأفراد الجالية إذ تتلاقى قصصهم في مكان يجمع بين التحديات المشتركة والأمل في غد أفضل.
"ضياع في الوطن البديل حيث لا نهاية للجحيم" هذا ما أجمع عليه غالب السودانيين اللاجئين عند اختصارهم لواقع الحياة التي يعيشونها، لم يدركوا خلال فرارهم من الحرب في وطنهم بحثاً عن ملاذ آمن في لبنان، الخارج من جحيم حرب مستعرة باتفاق قضى بوقف لإطلاق النار مع إسرائيل، أن رحلتهم نحو الأمان المنشود ستتحول إلى كابوس آخر حيث أصبحوا في صلب مأساة مضاعفة.
ويشهد اللاجئون ظروفاً قاهرة في لبنان من تشرد وجوع وعدم استقرار وغلاء فاحش، فضلاً عن غياب أدنى مقومات الرعاية الصحية، مع افتقارهم للحماية القانونية بعد انتهاء مدة إقامتهم في ظل غياب تام للإحصاءات الدقيقة لأعدادهم ودعم الجمعيات والمنظمات الإنسانية الدولية، ليجدوا أنفسهم ضائعين في شتات وطن يعاني أهله أساساً أزمات متلاحقة دفعت بشبابه إلى أبواب السفارات حالمين بالهجرة، ما يسطر فصلاً آخر لمأساة إنسانية عابرة للحدود.
قصص من اللجوء والصمود
في حديث لـ"اندبندنت عربية"، يقول اللاجئ السوداني أحمد سليمان (32 سنة) "كحال كثر من أبناء بلدي بدأت رحلتي من الخرطوم إلى سوريا، وهو المسار الوحيد الذي كان يعد آمناً نسبياً. وبعد الوصول إلى سوريا كان الطريق إلى لبنان محفوفاً بالصعوبات، إذ قطعت أكثر من 75 في المئة منه سيراً على الأقدام والتنقل من جبل إلى آخر". ويضيف "الضغوط التي كنا نعيشها في السودان تجعل الإنسان يفعل المستحيل للهرب. وكنت مستعداً للرحيل بأي ثمن على رغم عدم امتلاكي أوراقاً ثبوتية، مما يزيد احتمالية التعرض للاعتقال. وغالب السودانيين الذين وصلوا إلى لبنان سلكوا هذا الطريق الثلاثي "السودان - مصر – سوريا" وكانت أصعب مراحل المعاناة هي من سوريا إلى لبنان"، لافتاً إلى أن "البحث عن الأمن دفع كثراً للمخاطرة على رغم الظروف الاقتصادية الصعبة في لبنان".
يصف سليمان رحلته الشاقة من سوريا إلى لبنان، مشيراً إلى "دفع مبالغ كبيرة للمهربين لتسهيل عبورهم كسياح، والبقاء في فندق لأيام حتى تنظيم المجموعة. وشملت الرحلة التنقل بحافلة ثم سيارات أجرة، يليها باص صغير (فان) عبر الجبال لمدة من خمس إلى سبع ساعات، قبل السير على الأقدام لمسافات طويلة وصلت إلى ساعة ونصف الساعة، وسط إرهاق شديد خصوصاً لكبار السن". وبعد الوصول، عانى سليمان من تورم وألم حاد في قدميه نتيجة المشقة.
أما في لبنان، فواجه سليمان صعوبة كبيرة في العثور على عمل خلال أول ثلاثة أشهر، إلى أن تمكن من العمل داخل مطعم في مجال التنظيفات. وعلى رغم حلمه بالعودة إلى السودان رأى أن "الأمان هناك بات شبه مستحيل"، ويظل مستقبله في لبنان غامضاً دون وجهة واضحة.
السيدة حياة، من الجالية السودانية وتعيش في لبنان منذ 14 عاماً، تسرد رحلتها المؤلمة بعد أن فقدت منزلها في الضاحية الجنوبية لبيروت جراء القصف الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة. وتقول لـ"اندبندنت عربية" "وصلت إلى لبنان للعمل في منطقة النبطية (جنوب) وتمكنت بمرور الوقت من بناء حياة لي هنا. وكنت أعيش أخيراً في منزل صغير بالضاحية، ولكن كل شيء دمر في لحظة بسبب الحرب". وتضيف أن "النادي السوداني أصبح اليوم المأوى الوحيد لي، إذ وجدت فيه الدعم والمأوى بعد فقداني كل شيء. هذا المكان لم يوفر لي سقفاً يحمي رأسي وحسب، بل منحني أيضاً شعوراً بالأمان والتكاتف وسط الأزمة".
أما غفران حاملة الجنسية الفلسطينية والتي جاءت إلى النادي السوداني منذ شهر مع زوجها وأطفالها الثلاثة، فتعيش مخاوف كبيرة في شأن مستقبلها ومستقبل أسرتها. وتقول "أنا متزوجة من سوداني ولدينا ثلاث بنات وصبي، وأنا الآن حامل في الشهر السابع. ومنذ وصولنا إلى النادي نقوم معاً بإعداد الطعام لكل الموجودين هنا. نقشر البطاطا ونطبخ لنتشارك الطعام في هذا المكان الذي أصبح ملاذاً لنا جميعاً".
لكن الغموض يحيط بولادة طفلها القادم، إذ تقول غفران "لا أعلم في أي مستشفى سألد. الأوضاع هنا صعبة للغاية وأنا خائفة من تفاقم الأزمة أكثر، لكنني أريد أن أنجب طفلي هنا في هذا البلد الذي أصبح بالنسبة لنا على رغم صعوباته مكاناً نبحث فيه عن الأمان".
من مركز ثقافي إلى ملجأ للنازحين
يتجلى دور النادي السوداني كملاذ أساس لأبناء الجالية السودانية في لبنان، إذ يقدم المأوى والدعم للعائلات النازحة، مثل حياة التي فقدت منزلها، وغفران التي تواجه تحديات الحمل. ويستقبل المركز يومياً بين 50 و65 شخصاً، ليصبح ملاذاً يخفف من وطأة الأزمات ويعيد بصيصاً من الأمل لقاصديه.
وفي السياق كشف السكرتير العام للنادي السوداني في لبنان آدم أحمد إبراهيم محمود في حديث إلى "اندبندنت عربية" عن التحول الذي شهده النادي، من مركز ثقافي إلى مركز إيواء ليصبح ملاذاً رئيساً للسودانيين النازحين جراء الحرب. وأوضح أن "السودانيين في لبنان، خصوصاً في الجنوب مثل قانا وصور والنبطية كانوا الأكثر تضرراً من الحرب، إذ أجبروا على النزوح دون العثور على أماكن للإيواء بعد إغلاق المدارس والجامعات أبوابها"، لافتاً إلى أن "النادي السوداني كان الملجأ الوحيد لهم، وقرر مجلس إدارة النادي فتح أبوابه لاستقبال جميع النازحين السودانيين".
السودانيون بين نارين
وتابع محمود أن "الجالية السودانية في لبنان التي اختارت الهجرة إليه منذ أعوام بسبب الظروف القاهرة في السودان، أصبحت اليوم تواجه وضعاً مأسوياً". وقال "نقف بين نارين، حرب السودان وحرب لبنان. ومع قلة الإمكانات لا تستطيع الدولة السودانية ترحيلنا، ولا تتوافر لدينا أية مساعدة من الدولة اللبنانية أو منظمات دولية كافية"، مشيراً إلى أن "المطارات في السودان أصبحت غير آمنة مما يزيد من تعقيد الوضع".
وعلى رغم الصعوبات أكد محمود أن "النادي السوداني فتح أبوابه أيضاً لجنسيات أخرى من فلسطينيين وسوريين وإثيوبيين وسيريلانكيين وهنود، نظراً إلى تنوع الجنسيات المرتبطة بالجالية السودانية من خلال الزواج أو غيره"، مشيراً إلى تشكيل "لجنة لإدارة الأزمة لتقديم المساعدات ومتابعة الحالات"، ومتسائلاً عن "غياب دور الأمم المتحدة في تأمين حلول للنازحين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن التحديات اليومية أشار السكرتير العام للنادي السوداني إلى أن "السودانيين يعيشون في مناطق مختلفة، في حين تعيش 77 عائلة سودانية في كنيسة بمنطقة العيشية الجنوبية، إضافة إلى 45 شخصاً في شقق صغيرة بمنطقة مار إلياس في بيروت. ومنهم من يقيم في مناطق أكثر أماناً، لكنهم لا يزالون يعانون الأوضاع الاقتصادية المتردية"، لافتاً إلى أن "السفارة السودانية، على رغم جهودها لتفقد الرعايا، لا تقدم خطة واضحة للإجلاء أو الدعم"، معتبراً أن "النادي السوداني أصبح الملاذ الوحيد لنا، ولولاه لكنا نمنا في الشوارع".
الاقتصاد يفاقم المعاناة
مع انهيار الاقتصاد اللبناني تفاقمت معاناة السودانيين، وأوضح محمود أن "دخل العامل السوداني لا يتجاوز 250 دولاراً شهرياً وهو مبلغ لا يغطي حتى إيجار غرفة صغيرة"، مشيراً إلى أن "هذه الظروف تزيد من معاناة الجالية لكنها تدفعهم خلال الوقت نفسه إلى التكاتف ومساعدة بعضهم بعضاً لمواجهة الأزمة".
وعلى رغم الظلام المحيط بالوضع الراهن، يعبر محمود عن تطلعات الجالية السودانية إلى وطن آمن ومستقر يتيح لأبنائهم فرص التعليم والحياة الكريمة، قائلاً "الواقع جارح لكنه لا يلغي الأمل. نحلم بعودة السلام إلى السودان ولبنان وبأن تتوقف الحروب ويتاح للجميع فرصة العيش بكرامة".
الجالية السودانية
في حديث خاص لـ"اندبندنت عربية" قدر قنصل سفارة جمهورية السودان في بيروت الرازي سيف النصر عدد أفراد الجالية السودانية في لبنان "بما يراوح ما بين 4000 و5000 شخص"، موضحاً أن "معظم السودانيين في لبنان لا يحملون تصاريح إقامة رسمية، مما يجعل عملية تحديد العدد الدقيق صعبة".
وعن برامج المساعدات الإنسانية لدى السفارة السودانية أشار القنصل إلى أن "السفارة السودانية بالتعاون مع الجالية السودانية في لبنان عملت على توفير مراكز إيواء للسودانيين المتضررين. وخُصص النادي السوداني في شارع الحمرا (ببيروت) كمركز رئيس للإيواء إضافة إلى مراكز أخرى موزعة في مختلف المناطق اللبنانية. وتشمل المساعدات الإنسانية التي تقدمها السفارة المواد الغذائية وغيرها مثل الفرشات والأغطية والوسائد والشراشف"، مضيفاً أن "المساعدات لم تقتصر على الإيواء فحسب، إذ إن السفارة نسقت مع منظمات محلية ودولية لتنفيذ برامج مخصصة للأطفال النازحين. ومن بين هذه المبادرات تنظيم برنامج ترفيهي للأطفال في منطقة الجفينور في الحمرا، بالتعاون مع منظمة محلية متخصصة"، مؤكداً "التزام السفارة بتقديم الدعم الإنساني والقنصلي للجالية السودانية في لبنان بالتعاون مع الجالية نفسها والمنظمات المحلية والدولية، لضمان استمرار تقديم المساعدات في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان".
وعن الخدمات القنصلية وتسهيل العودة للسودانيين إلى بلادهم أوضح القنصل أن "السفارة تقدم جميع الخدمات القنصلية والهجرية للسودانيين المقيمين في لبنان. وتعمل بالتنسيق مع الأمن العام اللبناني على تسهيل عودة الراغبين منهم إلى السودان"، مؤكداً أن "قرار البقاء أو العودة يترك للسودانيين أنفسهم، إذ يفضل بعض البقاء بينما يختار آخرون العودة إلى وطنهم".
وعلى صعيد التعليم، أشار القنصل الرازي سيف النصر إلى أن "التعليم يحظى باهتمام خاص من السفارة السودانية في لبنان، إذ تتابع السفارة أوضاع الطلاب السودانيين الذين يواصلون دراستهم الجامعية في لبنان، سواء في الجامعات الأميركية أو المحلية"، موضحاً "عديد من هؤلاء الطلاب يعتمدون على المنح الدراسية التي تسهم بصورة كبيرة في دعم مسيرتهم الأكاديمية وتخفيف الأعباء المالية عنهم".
التصعيد الأمني يضاعف تحديات السفارة السودانية
وفي ظل التصعيد الأمني الذي شهده لبنان كشف القنصل أن "السفارة بالتعاون مع الجالية السودانية، زارت الجرحى السودانيين الذين أصيبوا جراء الغارات في الضاحية الجنوبية لبيروت وجنوب لبنان وتقديم الدعم اللازم لهم، إضافة إلى ترتيب نقل جثامين الذين قتلوا إلى السودان بناء على طلب عائلاتهم، أو توفير الدعم اللازم لمراسم دفنهم في لبنان"، لافتاً إلى أن "الغارات أسفرت عن سقوط أربعة سودانيين، اثنين في الضاحية واثنين في الجنوب"، مؤكداً أن "هذه الجهود تأتي ضمن التزام السفارة تقديم العون الكامل لأفراد الجالية في ظل الأوضاع الصعبة التي يمر بها البلد".
أما عن التحذيرات المستمرة وتواصلهم الدائم مع الجالية، فأشار القنصل إلى أن "السفارة تحرص على توجيه تحذيرات مستمرة لرعاياها لتجنب المناطق الخطرة، كما تبقي خطوط التواصل مفتوحة معهم عبر منصات التواصل الاجتماعي لتقديم الإرشادات والتحديثات".
دور وزارة الشؤون الاجتماعية في الحماية
وفي سياق متصل، أكدت رئيسة مصلحة الجمعيات الأهلية في وزارة الشؤون الاجتماعية اللبنانية والمتخصصة في مكافحة الاتجار بالبشر والنوع الاجتماعي عبير عبدالصمد، أن "الوزارة تلعب دوراً محورياً في هيئة إدارة الكوارث التابعة لرئاسة الحكومة اللبنانية"، موضحة أن "الهيئة وضعت خطة للاستجابة للأزمات، موزعة الجهود بين مختلف الوزارات"، مشيرة إلى أن "المساعدات لا تستهدف فئة بعينها، بل تشمل جميع العمال الأجانب المقيمين على الأراضي اللبنانية".
حماية العمال الأجانب ومكافحة الاتجار بالبشر
قبل الأزمة، حرصت وزارة الشؤون الاجتماعية على تعزيز حماية حقوق العمال الأجانب في لبنان، وتعاونت الوزارة مع المؤسسات الدولية لإعداد أطر مرجعية وإجراءات توجيهية موحدة تهدف إلى حماية الأجانب من جريمة الاتجار بالبشر. ومع تصاعد الأزمات بدأت الوزارة نقاشاً جدياً لتخصيص مركز إيواء مخصص للعمال الأجانب، بالتنسيق مع منظمة الهجرة الدولية.
وفي ما يخص الخدمات الأساس شددت عبدالصمد على أن "وزارة الشؤون الاجتماعية لا تمارس أي تمييز تجاه أية فئة، إذ يستفيد اللاجئون والنازحون من الجنسيات كافة من المساعدات بالتساوي مع اللبنانيين"، موضحة أن "الوزارة تشرف على كل مراكز الإيواء الرسمية وتنسق مع الجمعيات الأهلية لتأمين الحماية للأطفال والنساء من جميع صور العنف والاستغلال".
وأكدت عبدالصمد أنه "لم يتم تسجيل أية شكاوى من الجالية السودانية حتى الآن، لكن الوزارة تتعامل مع الشكاوى الواردة من جنسيات أخرى بالتنسيق مع هيئة إدارة الكوارث ومنظمة الهجرة الدولية، وسفارات الدول المعنية"، مضيفة أن "الوزارة تعمل على حل أية مشكلات داخل مراكز الإيواء بالتعاون مع الفرق المتخصصة".
العودة الطوعية والتنسيق الدولي
وبالنسبة للعودة الطوعية أوضحت عبدالصمد أن "هذا الملف مسؤولية منظمة الهجرة الدولية، التي تمتلك فرق عمل متخصصة في عمليات الترحيل وإعادة الاندماج. وأضافت أن "الوزارة تنسق مع مختلف الجهات لتسهيل هذا الإجراء عند طلب الشخص العودة، بالتعاون مع الأمن العام اللبناني وسفارات الدول".
وحول الخطط المستقبلية لتحسين أوضاع اللاجئين، أشارت إلى "وجود وثيقة تشغيلية شاملة كانت قيد الإعداد قبل الأزمة، تهدف إلى تعزيز التنسيق بين الجهات الحكومية المختلفة والسفارات والمؤسسات المعنية"، موضحة أن "الوثيقة تركز على حماية اللاجئين والحد من الاتجار بالبشر، وتحدد مسؤوليات كل جهة معنية بصورة واضحة".
وأكدت عبدالصمد فيها أن "وزارة الشؤون الاجتماعية لا تستثني أية فئة، وبخاصة الفئات المهمشة من خدماتها"، مشددة على أن "الوزارة تعمل على رصد هذه الفئات واستقطابها لتقديم الخدمات على قدم المساواة مع اللبنانيين بما يضمن حماية وحقوق الجميع دون تمييز".