Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كي تصدق المقولة عن نقش الفلسفة في الصغر

نحو تشجيع ازدهار مجتمعات التساؤل العربي في بيئات التعليم والتعلم عبر الدمج بين المهارات الاجتماعية الحوارية وتلك الفكرية النقدية

تعليم الفلسفة في الصغر (صفحة تابولارازا - فيسبوك)

ملخص

إذا كان "العلم في الصغر كالنقش في الحجر" فإن هذا العلم يزداد كثافة وحضوراً وعمقاً حين يكون مرصعاً بجواهر المعرفة الفلسفية. وأن يأتي متأخراً الإدراك بضرورة تعليم الفلسفة منذ مرحلة رياض الأطفال خير من يتأخر كثيراً أو ألا يأتي أبداً.

ظلت الفلسفة على مدار قرون عديدة غريبة عن العقل العربي منذ هجمة أبي حامد الغزالي على الفلاسفة واتهامهم بالكفر في كتبه، وبخاصة "المنقذ من الضلال" و"مقاصد الفلاسفة" و"تهافت الفلاسفة". وعلى رغم "الحرب الضروس" التي شنها الغزالي على الفلسفة وشيطنتها، واتهام المشتغلين بها بالإلحاد، فإن فيلسوف العقل ابن رشد رد على "افتراءات" الغزالي وفككها وبين تهافتها. بيد أن الواقع الذي شهد هزيمة الإمبراطورية العربية الإسلامية اقترن بهزيمة موازية تمثلت في أفول أنوار التفكير الفلسفي التي شعت على الضفة الأخرى من أوروبا، إذ وصلت ما انقطع، وشيدت عمارة الفلسفة التي ما زالت شاهقة ترفد العلوم الأخرى، وتتغلغل في بنية العقل، وترشده إلى التحليل، بدلاً من الركون إلى الخرافة، والغرق في لجة الميتافيزيقا.

ما زالت الفلسفة مقصاة عن كثير من أقسام الجامعات العربية، وما انفكت المناهج المدرسية تتعامل مع الفلسفة كتاريخ، وليس كأسلوب تفكير، وهذا ما أخذ في الآونة الأخيرة يتغير ببطء، بعدما اكتشف "الخبراء" وأهل الاستراتيجيا أن تغييب الفلسفة من المدارس والجامعات والمجال العام، أنتج البذور الأولى للعنف والتطرف، وتقسيم العالم إلى فسطاطين، فسطاط كفر، وفسطاط إيمان.

وإذا شاء بحث ثقافي وسوسيولوجي معمق أن يدرك أسباب العلة في "تخلف" العقل العربي، وتزمته، وتمسكه بالشعارات لا بالمفاهيم، وتغلغل التدين الشعبي في بنية تفكيره، فعلى ذلك البحث أن يسأل أولاً: ماذا فعل تهميش الفلسفة، واختزالها بالافتراء بأنها تدعو إلى الكفر والإلحاد، في وصول غالبية المجتمعات العربية إلى مستوى ما قبل الدولة، وما قبل الحداثة؟ وحتى لا يكون الهجاء عنواناً لحديثنا، فإن أضواءً تنبثق من هنا وهناك تعيد للتفكير الفلسفي بهاءه، وتنفض الغبار عن العقل، وتشتبك مع العصر بأدوات مبتكرة، وتحاكي الحضارة بلغتها.

"بصيرة" والفلسفة

يمكن الإشارة إلى "معهد بصيرة" الذي انبثق من السعودية، والذي يتولى، كما يقول موقعه الإلكتروني "إعداد الأفراد والمنشآت التعليمية للتيسير في التفكير الفلسفي بمنهجية P4C (Philosophy For Children) كأساس لتطوير أدوات التعليم والتعلم والأساليب البيداغوجية والبيئة التعليمية".

هذا المشروع الذي انطلق عام 2011 يركز على تعليم الفلسفة للأطفال في إطار علمي خلاق يقوض الفكرة الشائعة عن صعوبة الفلسفة واستعصائها وتجريدية مفاهيمها. ويهدف أيضاً إلى بناء القدرات الإدراكية عبر تعلم العادات الذهنية العليا (التساؤل الفلسفي، التفكير المفاهيمي، التفكير الناقد...) ودمجها في منهجيات التعليم والتعلم الحواري، فضلاً عن تشجيع ازدهار مجتمعات التساؤل العربي في بيئات التعليم والتعلم، عبر الدمج بين المهارات الاجتماعية الحوارية، وتلك الفكرية النقدية (الإصغاء والتواضع الفكري، المعقولية والثبات الانفعالي...).

واحتفاءً باليوم العالمي للفلسفة، شهدت وقائع المؤتمر الدولي الرابع للفلسفة الذي ينظمه، سنوياً، بيت الفلسفة في الفجيرة، نتائج دراسة نظمها معهد بصيرة، بإشراف مؤسسته داليا تونسي التي عرضتها، بمشاركة الباحث عماد الزهراني، حول "أثر تعليم التفكير الفلسفي على طلاب الصف الخامس" في إحدى مدارس الفجيرة، إذ جرى ابتكار استراتيجيات للتعليم تعتمد تشجيع التساؤل الفلسفي، وتحفيز التعليل والتفكير المفاهيمي، وتشجيع الحوار، وقبل ذلك إعداد معلمين مؤهلين قادرين على مغادرة مربع التلقين، إلى التفكر والتدبر والنظر المعمق الذي أوله خيال ومنتهاه حكمة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الدراسة أجريت خلال 2023 - 2024، وشارك فيها 18 معلماً ومعلمة و224 طالباً وطالبة، وتباينت أسئلتها، بحسب الزهراني، بين ثلاث نقاط، أولها الأصول الفلسفية والخلفية التاريخية لمنهجية "الفلسفة للأطفال" وتعليم التفكير الفلسفي اعتماداً على المنهج السقراطي والتفاعل الرمزي والبنائية الاجتماعية والبراغماتية، وثانيها التساؤل عن أثر تعليم التفكير الفلسفي في القدرات غير المعرفية لدى الطلبة، وثالثها التساؤل عن أثر تعليم التفكير الفلسفي بهذه المنهجية في الممارسات التدريسية للمعلمين، الذين أدلوا، بدورهم، في الحديث عن التحديات التي واجهتهم، وكيف ساعدت منهجية "الفلسفة للأطفال" في تطوير الطلاب أثناء دراستهم للمواد المختلفة. كما تحدث الطلاب عن أثر الرحلة المعرفية وغناها.

تجربة تعليم الفلسفة للأطفال ليست جديدة، فقد دشن مشروعها البذري عام 1969 رائد الفلسفة للأطفال (P4C) ماثيو ليبمان مع زملائه من الرابطة الدولية لفلسفة الأطفال (IAPC)، إذ جرى تطوير منهج مكتوب بصورة خاصة لتدريس الفلسفة للأطفال، ليقود بعدها قاطرة تعليم الفلسفة للأطفال.

التجربة العربية في تدريس الفلسفة للأطفال ما زالت في مهدها. ومع ذلك هناك خطوات حثيثة لدى عدد من الدول لتطوير مناهجها، بحيث تكون الفلسفة جزءاً أصيلاً فيها، ما يعني التخفف من غلواء النظر "المشبوه" إلى الفلسفة، وأيضاً، وهذا هو الأهم، إعداد معلمين متخصصين في الفلسفة لتدريسها في المدارس. ولما كان حظ الفلسفة في أقسام الجامعات العربية قليل، وأن غالبيتها لا يدرس الفلسفة أصلاً، فإن المهمة تصبح صعبة وتحتاج إلى نفس طويل تسبقه إرادة عميقة ومؤسسية بتدريس هذا العلم الذي من شأنه أن يغير هوية المجتمعات، ويوجه بوصلتها إلى التفكير الخلاق، وقبول الاختلاف والرضا بالتعددية، والانتظام في ورشة الثقافة الديمقراطية.

التفكير الناقد الذي يحلل ويفكك ويركب ويشك ويتساءل هو ما يتعين أن يرافق الطلبة من رياض الأطفال، لأن العلوم والاكتشافات والاختراعات مدينة للفلسفة فيما توصلت إليه، ومدينة أيضاً للخيال الفلسفي، والدهشة الفلسفية، والتجريب الفلسفي الذي بدأ بفكرة شبه مستحيلة، ثم صارت مع المحاولات الدؤوبة أمراً واقعاً. ولنا في تجربة اكتشاف القمر والتجوال في فضائه عبرة. وبفضل الفلسفة صار متوقعاً أن نسأل أحدهم أين ستقضي عطلتك المقبلة، فيجيب: على سطح القمر!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة