ملخص
تحظى حصص الفنون بمكانة ثانوية في النظام التربوي اللبناني الذي يمنح الأولوية للمواد العلمية والرياضيات واللغات على حساب حرية "التفريغ النفسي".
وفي الصفوف الأولى يتفاعل الطلاب مع معلمة الفنون بصورة منقطعة النظير، وتتحول ساعة الرسم إلى حصة علاج نفسي وتنفيس عن مكنونات النفس.
أمام لوحة زيتية عملاقة في ميدان إهدن شمال لبنان، تقف الرسامة التشكيلية ياسمين جعيتاني تتأمل في التغييرات الجذرية التي طرأت على مسيرتها الفنية منذ "حصة الرسم" في مدرسة زغرتا الرسمية (شمال) لتاريخ اليوم. تعود في الذاكرة إلى الماضي، عندما بدأت تجاربها الفنية الأولى، إذ لاقت دعماً وتشجيعاً من المعلمات والأسرة التربوية، وراحت تتقدم شيئاً فشيئاً. تقول جعيتاني "خلال 30 عاماً، شهدت مسيرتي تحولات، ولكن الفضل يعود إلى مقاعد المدرسة حيث نمت مواهبي الفنية، ولا أزال أحتفظ حتى اليوم باللوحات والرسوم التي عكست جزءاً من روحي وحالتي النفسية والذهنية". وتلفت إلى الدور للتشجيع الذي حظيت به وكيف كان تأثيره في تطورها وتقدمها، فهي "لاقت دفعاً كبيراً بفعل المشاركة في إحدى المسابقات في زغرتا، وفوزها بالجائزة عن فئة الرسم".
تدريس الفنون
يحتل تدريس الفنون مكانة ثانوية في معظم المؤسسات التربوية في لبنان، إذ تصنف ضمن قائمة المواد الإجرائية لا الأساسية، التي تعطى المدارس حرية الخيار بين اعتمادها من عدمه لمجموعة محدودة من الصفوف، فيما ينصب الاهتمام على مواد العلوم والرياضيات واللغة. وشهد انطلاق العام الدراسي الحالي مؤشراً إلى كيفية التعاطي مع هذه الحصة، إذ قامت وزارة التربية بإعادة هيكلة المواد، وعدد الحصص التعليمية، ونسفت حصة المواد "الثانوية" وفي مقدمها الفنون.
أما بالنسبة للمنهاج المعتمد في الفنون، فالمدارس الرسمية تعطي أولوية لمادة الرسم، فيما تنفرد أخرى بالتدريب المسرحي، والعزف الموسيقي وإنشاء الكورال الغنائي. تؤكد مدرسة الفنون سارة الشرقاوي أهمية تدريس الفنون في تنمية شخصية المتعلمين، وتنطلق من خبرتها التعليمية في المدارس الرسمية، لتميز بين طلاب الصفوف الابتدائية وطلاب المرحلة الثانوية. ففي الصفوف الأولى، يتفاعل الطلاب مع معلمة الفنون بصورة منقطعة النظير، وتتحول ساعة الرسم إلى حصة علاج نفسي وتنفيس عن مكنونات النفس. إذ يكفي أن تطلب المعلمة منهم رسم عائلتهم، حتى تستكشف الأوضاع الأسرية والعائلية لهؤلاء، وتبني على الشيء مقتضاه في الآليات التربوية. أما في ما يتعلق بالطلاب الكبار، فتجد المربية أن "شريحة واسعة منهم تتعامل مع حصة الرسم على أنها حصة فراغ".
وتلاحظ سارة "تفاعل المتعلمين مع الرسوم الكرتونية ذات الصلة على تلك التجريدية. من هنا لا بد من اعتماد أسلوب الترغيب الذي يتطلب ذكاء من قبل الأستاذ لجهة اختيار رسوم بسيطة وسهلة التنفيذ". وتأسف للنظرة الرائجة تجاه الرسم داخل النظام التعليمي، "في إحدى المرات، أسهمت علامة الرسم العالية في إحداث فرق في نتائج أحد الطلاب".
وفي الشأن توضح المدرسة أن "الطالب ربما وجد في الرسم ما يحب، ولا بد من اعتماده بوابة للتوجيه المهني". وتعلق على اعتماد ساعة أسبوعية واحدة فقط لتعليم الفنون، وتعدها غير كافية لتنمية المواهب، لذلك يتجه معلمو الرسم أكثر فأكثر نحو جعلها فرصة للتعبير الفني الحر، والترفيه، وجعل الحصة مقدمة لتنمية المواهب والقدرات والتنفيس، إذ "نطلب منهم إحضار الرسمة التي يرغبون برسمها، ونحن نقوم بمساعدتهم لتنفيذها وتعليمهم على تطوير قدرات فن التلوين".
تعليم الفنون الحاضر دائماً
ويقول عدنان خوجة أستاذ الفنون الجميلة وتاريخ الفنون، إنه "في أعقاب الاستقلال، بدأ وضع أنظمة التعليم الجديدة المستوحاة من النظام الفرنسي، وفرضت مادتا الرسم والأشغال (Peinture)، فكان الأستاذ يضع نموذجاً أمام الطلاب ويطلب منهم رسمه. كان رسم الأشكال الهندسية نقطة انطلاق، فكان يرسم الطالب المثلث والدائرة والهرم وغيرها، قبل الانتقال لرسم الأشكال الموجودة في الطبيعة على غرار المزهريات والأكواب الفخارية والأواني، ومن ثم رسم الفاكهة والأقمشة. أما المواد المستعملة، فكان يشكل قلم الرصاص عمدة التجهيزات، من أجل رسم أشكال دقيقة، قبل دخول أقلام التلوين، تمهيداً للانتقال إلى تقنيات (الأكواريل) بالريشة. كانت هذه الخطوات التمهيدية مقدمة لتقديم الطالب مشاهد فنية، واختيار بعضها لنشره في ملعب المدرسة".
ينبه خوجة إلى قصور في إعداد أساتذة مادة الفنون، "ففي كثير من الأحيان، لم يكن الأستاذ مهيأ لتنفيذ رسوم متقدمة، أو تصحيح اللوحات خلال فترة الستينيات من القرن الـ20، وإنما كانت توزع الحصص على أساتذة غير موهوبين لمجرد إكمال النصاب وتعبئة الساعات، ولم يكن مستبعد إسناد هذه الحصة إلى ناظر أو أستاذ رياضيات أو أستاذ مناوب، مما أفقد المادة مكانتها في كثير من الأحيان". ويلحظ خوجة تطورها بدءاً من عام 1973، "عندما أطلقت الحكومة معهداً لتعليم الفنون والمسرح، وأسست داراً للتعليم في منطقة جونية تخرج أساتذة أكفاء يدرسون لمدة ثلاثة أعوام قبل تعيينهم أساتذة فنون، وتعهد إليهم إيصال المعرفة إلى طلابهم، وتنمية حس الجمال واللطافة، وتهذيب النفوس، وتنمية الأخلاق الفنية والنفسية". في المقابل، يلاحظ خوجة أن "المدارس الإرسالية كانت تحرص على البحث عن أستاذ موهوب ومتخصص لتعليم الفنون، وهذا ما أعطاها في البداية تفوقاً على حساب المدارس الرسمية التي كانت تلغي تعليم الرسم في الأرياف بعد مرحلة الصف الخامس لمصلحة تقوية الطلاب في اللغة الأجنبية والرياضيات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أبعاد جديدة لتعليم الفنون
يتخذ تعليم الفنون أبعاداً جديدة في الجامعات، إذ ينتقل الطالب نحو التخصص. وبهذا الخصوص يلفت عدنان خوجة أن "بداية تعليم الفنون المتخصصة في لبنان كانت في جامعة الألبا ببيروت التي خرجت أبرز الأسماء بدءاً من 1942 لحين الحرب الأهلية، وكانت الجامعة الأهم على مستوى الشرق الأوسط ولبنان، وتخرج فيها حسن جوني ورفيق شرف وكبار أساتذة الفنون في لبنان". أما عام 1965، فقد شهد على إطلاق معهد الفنون التابع للجامعة اللبنانية، وكان مركزه مكان مجلس الإنماء والإعمار على مقربة من السراي الحكومي في بيروت، وكان عميده الأول الفنان نقولا النمار الذي كان يحمل شهادة من باريس، وقد احتضن خريجي الألبا الذين باتوا أساتذة في المعهد الرسمي، وحظي بدعم كبير، وقد ضم المعهد الهندسة المعمارية والهندسة الداخلية والرسم والنحت والمسرح والدراما. وأسهم المعهد في تزويد لبنان بالكوادر الفنية في كافة الاختصاصات وكذلك المسرحية والدرامية الموهوبة والمؤهلة، وكذلك فنانو الديكور والعمارة الذين ذاع صيتهم في لبنان والعالم العربي، وأسسوا أهم المكاتب والشركات في الخارج.
الغناء الشرقي
خطى تعليم فن الغناء والعزف خطوة كبيرة خلال الأعوام القليلة الماضية في لبنان، وفي هذا السياق، يمكن الانطلاق من تجربة بيت الموسيقى كمؤسسة تربوية، الذي انطلق في عام 2007 بالتعاون مع جمعية النجدة الشعبية اللبنانية، وتفرع عنها تسعة فروع ومدارس في مناطق مختلفة، وصولاً إلى تدريب وتعليم أكثر من 3 آلاف تلميذ على مستوى محافظة عكار والشمال. يتطرق هياف ياسين الذي كرس جزءاً من حياته لإقامة أسس تجربة موسيقية شرقية أصيلة "خارج تأثير موسيقى الغجر التي تقوم على المجوز- المزمار والطبل التي تعزف في الأعراس"، لافتاً إلى أن "بيت الموسيقى" جاء خارج الأعراف الاجتماعية التي تعد أن "على التلميذ الجدي والمجتهد أن يدرس اختصاصات علمية ومهنية خاصة".
ويلفت ياسين إلى محدودية الخيارات أمام الطلاب الراغبين في الدراسة الجامعية للموسيقى باعتبارها فناً وعلماً وحاجة فردية وجماعية مثلها مثل اللغات والعلوم، إذ تقتصر على الجامعة الأنطونية في بعبدا، وفرع التربية الموسيقية في كلية التربية ضمن الجامعة اللبنانية، وصولاً إلى تأسيس فرع للجامعة الأنطونية في زغرتا عام 2014.
نحو تطوير تدريس الفنون
تتصاعد المطالبات في لبنان نحو إدماج الفنون في المناهج التربوية الرسمية، والكف عن التعاطي معها كمادة مستوى ثان. يعتقد هياف ياسين أن "على مديري المدارس إدخال مادة الموسيقى في المنهاج التعليمي، لما لها من أثر علاجي على نفسية الطالب، وتفتح الباب أمام اكتشاف المواهب الدفينة وأمام إنشاء بنية موسيقية رصينة خارج إطار الربح والخسارة والموسيقى الخفيفة". ويشير ياسين إلى "وجود مناهج جاهزة لتعليم الموسيقى لدى المتخصصين، تنطلق من تعليم الموسيقى المحلية والتراث اللبناني، وتجذير الهوية الثقافية والمواطنية، بوصفها رابطاً اجتماعياً متيناً، ويعزز اللحمة بين المكونات المختلفة في مجتمع متنوع"، كاشفاً عن "عمل داخل المركز التربوي للبحوث والإنماء من أجل إطلاق ورشة للمناهج، وإعادة تفعيل تعليم الموسيقى انطلاقاً من مفاهيم صحيحة".
من جهتها، تنصح الرسامة ياسمين جعيتاني بتجديد أساليب تعليم الفنون في لبنان، وتشير إلى أنه "لا يكفي أن يكون الأستاذ رساماً موهوباً، وإنما لا بد أن يكون متمتعاً بالمؤهلات العلمية والإعداد التربوي الكافي للتعليم". من هذا المنطلق، يجب أن ينصب التعليم نحو "تنمية الإبداع" ومنح الطالب الحرية للتعبير بواسطة الفن، إذ تتحول حصة الفنون إلى مساحة حرة تعكس ذكاء وتجارب ومعارف المتعلم.