ملخص
تسترجع رواية " اسمي زيزفون " للروائية السورية سوسن جميل حسن، 50 عاما من تاريخ سوريا المعاصر، بهدف تفسير ما آلت إليه الأوضاع هناك، عقب انتفاضة العام 2011 وفيها تتردد بقوة أصداء المتاهة السورية.
تأخذنا رواية "اسمي زيزفون" (دار الربيع - القاهرة) إلى تجربة مهمة في تفكيك بنى التسلط السياسي والهيمنة الذكورية، من خلال سردية مصوغة وفق شروط فنية متينة البناء. وتعري الرواية أشكال التحالف بين قوى الاستبداد وممثلي القوى الدينية المحافظة، ومواجهة منطق العشيرة والقبلية، في مقابل دعم حرية الفرد في التمرد، ورفض صور التمييز والكراهية كافة. الرواية هذه هي السادسة في رصيد صاحبتها، بعد "خانات الريح" (2018) و"قميص الليل" (2014) و"النباشون" (2012) وسواها.
تفتتح الرواية بمشهد بطلتها جهيدة، وهي في المستشفى بعد صحوتها من الغيبوبة، كاشفة عن مساعيها نحو تغيير اسمها إلى "زيزفون"، وكيف أنها تندم لأنها لم تجرؤ طوال حياتها على تحقيق تلك الأمنية. حين بلغت الـ60 قررت تدوين ما عاشته للإمساك بالذاكرة المسكونة بهواجس الموت والدمار الذي حل، فتلجأ إلى الكتابة لمواجهة العدم و"ما أبشعه" كما تقول، وعبر مختلف صور التناسل السردي ينتقل القارئ من حكاية إلى أخرى، وبين ماهو آني وما هو مدون في الدفاتر، ليصبح فعل التذكر بمثابة أداة للمقاومة ووسيلة للبحث عن السلوى والعزاء.
مصاعب وأزمات
نعرف أن والد البطلة تمنى قبل مولدها لو رزقه الله بولد يسميه جهاد، ولكن لما وصلت طفلة سماها جهيدة، ومع عودتها من الغيبوبة يستيقظ ماضيها كله، وتستدعي ذاكرتها ما عاشته مع العائلة وخصوصاً الأم، من مصاعب وأزمات. ظلت الأم داخل دكانها الذي حولته إلى محطة للمسافرين إلى الشام والعكس، وهناك كانت تستقبل عبلة، الدلالة التي كانت تأتيها ببضائع من تركيا تبيعها لنساء القرية الهادئة، وتحصل على عمولتها قبل أن تستجيب القرية لموجات التغيير التي سرقت بساطتها، فتآلف أهلها لتدخل محطة جديدة في ظل حكم البعث. ومعها تبدأ علامات التفرقة وتتصاعد امتيازات الطبقة والطائفة، ليصير الناس "حشرات بأجنحة ضعيفة وعمر قصير".
يصاب الأب بالشلل في إشارة دالة على تداعي المجتمع القديم، لكن الراوية تدين عدم جذرية مواقفه وتحوله، من نقد السلطة إلى التماهي مع خطابها. وحين بدأ بالذات الحديث عن الثورة من وجود مؤامرة تستهدف البلاد، وهنا تلح الرواية على ما حدث من تضليل الوعي وكيف مورس بكثافة وإصرار.
تسير الرواية في خطين متوازيين، الأول يقوم على ما تعيشه سوريا في الزمن الراهن بعدما اندلعت الحرب الأهلية التي أدت إلى نزوح ملايين عقب احتجاجات عام 2011 وتحويلهم إلى لاجئين. أما الخط الثاني فيستعمل تقنية الاستدعاء أو "الفلاش باك"، ماراً على الزمن الذي تقوم الرواية باسترجاعه منذ ستينيات القرن الماضي وحتى عام 2020، ويشير إلى أجواء خانقة شاع فيها الخوف، وأدت إلى بلوغ المصير الدامي. وبالتالي تنزع الرواية بالبيئة المحلية التي اختارتها بيئة الطائفة العلوية، صور التمييز كافة التي يظن بعضهم أنها كانت قائمة منذ تولى البعث السلطة في سوريا.
تروي البطلة تفاصيل حياة قاسية عاشتها بعد وفاة والدها المقعد الذي لم يتقبل وجودها بسهولة، فأورثها مسؤولية عائلة بأكملها تضم شقيقين وأختاً واحدة. وتستعرض علاقات صاغتها جهيدة، في زمن الطفولة تقوم على رفقة الأهل والجيران داخل قرية المقص، في جبلة على الساحل السوري. لكن أهم ما ظل لها، يتلخص في صداقة عميقة عاشتها مع منير، جارها الذي كان يطارد الأفاعي في البرية، غير أنه كان يأتي إلى بيتها ليساعد من غير طلب، ويتعارك مع أمه مريمة التي لم تبتسم سوى مرة واحدة في حياتها.
وعلى رغم أنها تعد القارئ بمواجهة بين البطلة ورموز العائلة ونفوذها، إلا أن هذا الانطباع يتبدد مع تقدم السرد في اتجاه التعاطف مع ممثليها، الأم المنهكة والأب، وكذلك منير على رغم بلادته. وتقدم صورة إيجابية لمعلم وفد إلى القرية لتعليم أولادها، وأمدها بالروايات والكتب التي غيرتها.
أيقونة التمرد
يلمس القارئ جهداً لافتاً في بناء شخصية جهيدة التي تقدم كأيقونة للتمرد والمواجهة، إذ امتلكت الوعي بقيمة الذات وأسست صداقات مع بعض جيرانها وخرجت إلى العمل في الجامعة لمساعدة والدها، وهناك تلتقي عبدالجليل الذي حاول التلاعب بمصيرها، لكنها قاومت نزعته الانتهازية. وبفضل ما عاشته من تجارب صاغت مصيراً مختلفاً، وساندها وعيها في اختبارات كثيرة، إذ رفضت في طفولتها مصافحة الشيخ الذي استقبلته الأسرة بسبب الرمزية التي يحملها حضوره في الوعي العام. وعزمت جهيدة منذ طفولتها "على ألا تندم، فالندم بحد ذاته أمر عدمي لن يقدم فائدة"، لذلك أسست ثورتها الخاصة وتمردت. وحين اتهمت في شرفها وهي على مشارف الصبا، خضعت لاختبار الشرف داخل مزار ديني، وعبرت من كوة كانت في الجدار، لتثبت عفتها أمام الناس بعدما أفلت صديقها سعيد كلابه، على شيخ المقام لإنقاذها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يكثف النص الروائي من معالجة أوجه كثيرة لانتكاسة تعرضت لها سوريا وغيرها من البلدان العربية عقب نكسة حزيران يونيو من عام 1967، إذ تمدد نفوذ الجماعات المنتسبة إلى الإسلام السياسي، بحيث صارت الهوية الدينية والمذهبية هي الأقوى، في حين انتكست الحداثة ومختلف وجوه المدنية وجرى استعمال الظاهرة الدينية لتدعيم الشمولية والتسلط.
يمثل سعيد في الرواية مجازاً فريداً لمعنى الثورة وما كانت تعد به من آمال، فهو جار هيدة الذي اشتهر بقصصه وحكاياته الغرائبية، فوصمه المجتمع بالجنون، فابتعد من الناس لأنه أراد مواجهة مفهوم الطاعة في الخدمة العسكرية. وزرع الفكرة في عقل جارته التي عادت بعد 40 عاماً إلى مقام الشيخ حين لاحت الثورة، وأحرقته منتقمة للتجربة القاسية التي خاضتها في صباها، واكتشفت هناك أنها تحب جارها الذي تجلى كحبيب للمرة الأولى في مخاض الثورة، لكنه بعد وقت قصير ينتهي مقتولاً هو وكلابه بالرصاص الحي، في البرية التي انتمى إليها. والمجاز ذو دلالة، بحيث يمكن النظر لموته كموت لنبل فكرة الثورة التي أغرقت بالدماء.
تلجأ زيزفون إلى الكتابة بعد أن وجدت نفسها امرأة وحيدة، مات والدها وحبيبها ووجد شقيقها الفرصة مهيأة لنهب ميراثها. وبينما تواصل الكتابة تعرض منزلها لحريق فقدت معه حكايتها، واحترق معها الأمل في تحرير البلاد والعباد.