Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قيود الديون السيادية... عبء يعوق التنمية ويؤجج أزمة المناخ

كيف يمكن للدائنين والمدينين طي هذه الأزمة العالمية

نقل خضراوات داخل سوق في كولومبو عاصمة سريلانكا، خلال يونيو (حزيران) 2023 (رويترز)

ملخص

تعيق أزمة الديون السيادية البلدان النامية عن الاستثمار في خدماتها الأساسية والبنية التحتية لمواجهة تغير المناخ وهو ما يتطلب إصلاحات عالمية توازن بين مصالح الدائنين والمدينين لتحقيق استقرار اقتصادي وسياسي مستدام.

يعيش أربعة من كل 10 أشخاص في العالم داخل بلد ينفق من المال على خدمة فوائد ديونه السيادية ما يفوق ما ينفقه على التعليم أو الرعاية الصحية. وقد لا يدرك الدائنون تأثير هذه الأرقام، الذين يتألفون في الغالب من بلدان غنية ومصارف متعددة الأطراف وحملة سندات بارزين، لكنها تحمل عواقب وخيمة على البلدان المثقلة بالديون. ذلك أن كل دولار ينفق على تسديد الديون السيادية هو دولار كان يمكن أن يخصص للخدمات العامة، أي بناء الطرق وإصلاح المدارس وتحسين البنية التحتية لمواجهة تغير المناخ ودفع رواتب الأطباء والموظفين الحكوميين. وهكذا تسهم برامج التسديد التي تكون في كثير من الأحيان استغلالية في إبقاء البلدان النامية تحت نير ديون، تبدو غير قابلة للمعالجة.

وتواجه الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط التي تشكل دول الجنوب العالمي عبئاً هائلاً من الديون الخارجية العامة يبلغ إجماله 3 تريليونات دولار، وهو رقم تضاعف منذ عام 2010. ويشكل هذا العبء تهديداً كبيراً للاستقرار العالمي. على سبيل المثال، تعد الدول الأكثر عرضة لتغير المناخ هي أيضاً الأكثر تضرراً من عبء سداد الديون، مما يعني أن هذه الدول التي تواجه ضغوطاً مناخية حادة لا تستطيع الاستثمار في تدابير التخفيف والبنية التحتية التي تحتاج إليها بشدة.

لكن تحقيق الأهداف المناخية والتنموية يتطلب تمويلاً ضخماً. ووفقاً لبعض التقديرات تحتاج أفريقيا وحدها إلى 2.8 تريليون دولار بحلول عام 2030 للعمل المناخي، مع اعتماد نحو 90 في المئة من هذا التمويل على مصادر خارجية بما في ذلك الاقتراض المتزايد. وعدم اتخاذ إجراءات كافية للحد من الانبعاثات يهدد الاستقرار العالمي من خلال تأجيج الفقر وتفاقم الهجرة.

سبب هذا الوضع ليس اختلال النظام الاقتصادي الدولي، بل هو نتاج نظام اقتصادي صمم عمداً لتحقيق هذا الوضع. ومنذ حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وجدت البلدان الأكثر ثراء والقطاع الاستثماري الخاص طرقاً لجني الأموال من البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط في كل فرصة. مثلاً، تعرضت هاييتي إلى زلزال مدمر عام 2010، وقدرت الأضرار بمبلغ ينوف عن إجمال الناتج المحلي للبلاد، وبغرض إعادة البناء اعتمدت البلاد بصورة كبيرة على القروض وهو ما فاقم عبء ديونها. في مثال حديث آخر، عانت سريلانكا من أزمة ديون عام 2022 في أعقاب انخفاض الإيرادات الحكومية بالترافق مع ازدياد الديون الخارجية، مما أدى إلى انهيار اقتصادي واضطرابات اجتماعية. أما على الصعيد العالمي، فقد وصل العبء الجماعي إلى نقطة الانهيار: البلدان المنخفضة الدخل وكذلك البلدان الأكثر عرضة إلى تغير المناخ، تنفق على خدمة ديونها ضعف ما تتلقاه من تمويل للأنشطة المخصصة لمكافحة أزمة المناخ.

حتى الآن، كان أثر الجهود الإصلاحية محدوداً بسبب الإخفاقات في التخطيط والتنفيذ. ولم تنجح آليات مثل الإطار المشترك الذي أطلقته مجموعة الـ20 في معالجة جذور المشكلة. ولإحداث تغيير حقيقي، يجب على الدائنين والمدينين بناء شراكات مع بعضهم بعضاً إلى جانب العمل المستقل، ويجب أن يدرك الدائنون ليس فقط الاعتبارات الأخلاقية بل أيضاً الحوافز الاقتصادية والبيئية والسياسية لإعادة هيكلة الديون أو إلغائها. ويجب على المدينين إعادة النظر بجدية في كيفية إصدار الديون وتوقيتها، لا سيما الديون المقومة بعملات أجنبية، وتشديد الرقابة على عوائدها التصديرية بما يقلل من حاجتها إلى تحمل ديون مرهقة في المقام الأول.

المطالبات بالتسديد

تنبع أزمة الديون الهيكلية في بلدان الجنوب العالمي من الطريقة التي يلزم بها النظام المالي العالمي الحالي البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط بمراكمة عملات أجنبية مثل الدولار الأميركي، لشراء البضائع أو الخدمات الأجنبية المنشأ التي تباع بتلك العملات. مثلاً، خلال سبعينيات القرن الـ20 ضخمت عديد من البلدان الأفريقية ديونها لتمويل تنميتها بعد الاستقلال. لكن في العقد التالي من الزمن، جعل ارتفاع معدلات الفائدة العالمية وانخفاض أسعار السلع هذه البلدان نفسها تعاني فجأة في الوفاء بالتزاماتها الائتمانية. ونتيجة لذلك، فرضت المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إصلاحات اقتصادية على بلدان مدينة تضمنت خفوضاً كبيرة في الإنفاق العام وإجراءات تقشف صارمة، بيد أن هذه الإصلاحات فاقمت الأزمة العالمية للديون السيادية. وعام 1987، وصف رئيس بوركينا فاسو آنذاك توماس سانكارا هذه الديون بأنها "إعادة استعمار لأفريقيا بإدارة بارعة، تهدف إلى إخضاع نمو القارة وتنميتها بقواعد أجنبية". وصح قوله على مناطق كثيرة حول العالم.

وفي أعقاب أزمة عام 2008 المالية، ولدت السياسات النقدية غير التقليدية التي اعتمدتها المصارف المركزية في بلدان الشمال العالمي، لا سيما السياسات الخاصة بمعدلات الفائدة الصفرية والتيسير الكمي، كميات هائلة من السيولة وعوائد منخفضة. وأثارت هذه السياسات شهية الممولين العالميين لأسواق "غير معتادة" حيث يمكنهم تحقيق عوائد أعلى. وفي الوقت ذاته، انتهزت حكومات بلدان الجنوب العالمي هذه الفرصة لبيع سندات بالعملات الأجنبية إلى هؤلاء الدائنين المنتمين إلى القطاع الخاص، إذ عدت هذه الديون أكثر جاذبية. وعلى عكس أزمة الديون خلال ثمانينيات القرن الـ20 حين كانت بلدان ذات دخل منخفض ومتوسط تدين لمصارف غربية، تستحق معظم الديون الخارجية الحالية لدائنين منتمين إلى القطاع الخاص، بما في ذلك مؤسسات الاستثمار في السندات مثل شركات إدارة الأصول، وبلدان دائنة جديدة على الساحة العالمية مثل الصين وبعض دول الخليج. وهذه التطورات أسهمت في تفاقم أعباء الديون. مثلاً، هذا العام بلغت ديون غانا السيادية أكثر من 80 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي، بينما تجاوزت ديون الأرجنتين ومصر 90 في المئة، وديون لاوس أكثر من 108 في المئة.

تشل الديون السيادية قدرة البلدان على تحقيق إمكاناتها. في القرن الـ19، كان على هايتي دفع تعويضات إلى فرنسا، المستعمر السابق، ثمناً لاستقلالها. ولهذه الغاية اضطرت هايتي إلى الاقتراض أولاً من فرنسا ثم من مصارف أميركية، لتمويل المدفوعات. وأثقل الجزء الخاص بالديون السيادية في هذا البرنامج كاهل هايتي لأكثر من قرن، ولا تزال التبعات قائمة، وتشير التقديرات إلى أن ناتج هايتي المحلي الإجمالي لولا هذا العبء كان ليسجل عام 2020 مستوى أعلى بثمانية أضعاف ما سجله بالفعل.

وفي محاولة لتخفيف العبء، تشجع البلدان النامية المثقلة بالديون على تنفيذ مشاريع تحقق أعلى العوائد المالية التي يمكن تحويلها إلى عملات صعبة، مثل بناء الطرق السريعة والطرق الخاضعة إلى رسوم وتطوير السياحة، واستخراج المعادن والموارد الطبيعية. لكن هذه المشاريع نادراً ما تتماشى مع مصالح المواطنين. هي تأتي على حساب الاستثمارات في التعليم والرعاية الصحية والخدمات الأخرى، لا سيما تلك التي تفيد النساء والأطفال، بما في ذلك رعاية الأمهات والحصول على خدمات رعاية الأطفال، وتكون عادة أولى الخدمات المستهدفة بتدابير التقشف. وهذا يعني أن كثيراً من الأعباء المادية الناتجة من أحمال ديون البلد تحال مباشرة إلى مواطنيها، ولا سيما إلى العائلات وإلى النساء على وجه الخصوص.

على الرغم مما يعتقده الدائنون، فإن هذه المعاناة لها عواقب بعيدة المدى وطويلة الأمد على العالم بأسره، وليس فقط على الدول ذات الأعباء الديون غير المستدامة. تميل الدول النامية إلى أن تكون أكثر عرضة لتداعيات تغير المناخ وأقل قدرة على التكيف معه. كما أن مدفوعات الديون من قبل 50 دولة الأكثر عرضة لتأثيرات تغير المناخ قد تضاعفت منذ بداية جائحة كورونا، مما فاقم العراقيل القائمة أمام قدرتها على الاستثمار في مشاريع التخفيف من أزمة المناخ أو التكيف معها. وهذه الديناميكية تؤدي إلى دورة عبثية، من المفترض أن يساعد الدائنون الأغنياء البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط في تمويل تدابير تعزز مرونتها إزاء تغير المناخ أو إصلاح الأضرار الناتجة منه، ثم يجمعون مدفوعات الديون بفوائد مرتفعة من هذه البلدان نفسها. والأسوأ من ذلك أن البلدان الضعيفة تضطر في بعض الأحيان إلى الاقتراض من جديد لإعادة البناء بعد كوارث لم تكن مهيأة للتعامل معها في المقام الأول، لأسباب منها أن الأموال التي كان ينبغي أن تنفَق على البنية التحتية أو جهود التأهب الضرورية استخدمت بدلاً من ذلك لتسديد قروض سابقة.

الإصلاحات والوظائف

تدرك الحكومات والمؤسسات الدولية حجم هذه الأزمة المتشابكة وتعقيدها وتتخذ بعض الخطوات لمعالجتها. عام 2020، أنشأت مجموعة الـ20 "الإطار المشترك"، الذي كان من المفترض أن يشهد تعاوناً بين المقرضين التقليديين مثل الحكومات الغربية، والمقرضين الجدد مثل الصين، وبين البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط لإعادة هيكلة الديون وتعليق بعض التسديد. وفي ذلك الوقت اعتبر هذا الإطار خطوة جادة نحو التخفيف من أعباء ديون بلدان الجنوب العالمي، لكن في الواقع أثبت الإطار أنه غير كاف تماماً، ولم ينتج منه وفق كبير الاقتصاديين في البنك الدولي "دولار واحد على صعيد التخفيف من الديون".

وتعاني عديد من البلدان ذات الدخل المتوسط المثقلة بالديون مثل سريلانكا من عدم أهليتها للإطار المشترك بسبب عتبات الدخل المؤهل لها العشوائية التي يعتمدها البرنامج، أما الغالبية العظمى من البلدان المدينة المؤهلة حقاً فلم تتقدم حتى للاستفادة من البرنامج. ويرجع ذلك إلى أن الدائنين المتنوعين الذين يحملون وجهات نظر ودوافع مختلفة، يجب أن يتوصلوا إلى توافق حول استراتيجيات إعادة الهيكلة، مما يؤدي إلى تأخيرات طويلة في تقديم المساعدة. وعلاوة على ذلك يمكن أن ينظر الدائنون إلى مشاركة البلد المدين في الإطار المشترك نظرة سلبية، مما يؤدي إلى خفض تصنيفه الائتماني وزيادة كلف اقتراضه في المستقبل. ونتيجة لذلك، امتنعت عديد من البلدان التي كان بإمكانها الاستفادة من الإطار عن المشاركة فيه.

وأمام هذه الإخفاقات، تتزايد الضغوط من أجل الإصلاح. ويدفع قادة من بلدان الجنوب العالمي باتجاه التغيير من خلال مجموعات المجتمع المدني الدولية، مثل "تحالف الديون المستدامة" الذي يوفر إطاراً للتعاون بين الدائنين والمدينين، و"الاتحاد الدولي لنقابات العمال" الذي يدافع عن حقوق العمال من خلال تعاون النقابات الدولية، و"مجموعة الـ20 الأكثر عرضة" وهي تجمع للبلدان الأكثر تعرضاً إلى تغير المناخ. إضافة إلى ذلك تمارس مجموعة من المنظمات والحركات المعنية بالعدالة الاقتصادية في الجنوب العالمي، مثل "المنتدى والشبكة الأفريقيان المعنيان بالديون والتنمية" و"حركة شعوب آسيا المعنية بالديون والتنمية" و"تحالف محاربة التفاوت"، ضغوطاً لحل أزمة الديون بوسائل أكثر إنصافاً، بما في ذلك تعزيز مشاركة بلدان الجنوب العالمي في محافل مثل مجموعة الـ20.

يجب أن يدرك الدائنون أنهم سيتحملون أيضاً كلف أعباء ديون البلدان الفقيرة.

 

لكن في النهاية، قد يكون من الضروري تصعيد الضغط إلى هيئة أكبر، ولذلك تدعو منظمات المجتمع المدني حول العالم إلى إنشاء "إطار قانوني متعدد الأطراف تحت رعاية الأمم المتحدة" لمعالجة مسألة الديون غير المستدامة في صورة أكثر شمولاً. ومن شأن هذا الإطار إعطاء الأولوية إلى تقاسم الأعباء في صورة عادلة بين الدائنين جميعاً بما في ذلك الدائنون المنتمون إلى القطاع الخاص، إضافة إلى توفير آليات مستقلة لحل النزاعات بما يحمي من ممارسات الإقراض الاستغلالية. والأهم من ذلك أنه من شأنه أن يشجع على إلغاء الديون.

وتعد الإضاءة على أزمة الديون إحدى الأدوات المهمة لمعالجتها. استضافت إندونيسيا والهند والبرازيل قمم مجموعة الـ20 الثلاثة الأخيرة وستستضيف جنوب أفريقيا قمة العام المقبل، وتسلط هذه البلدان الضوء على أزمة الديون في رسائلها الخاصة خلال هذه الاجتماعات. وفي سياق مطالبات دعاة التخفيف من الديون ومطالبات البلدان المثقلة بها، أكدت رئاسة البرازيل التزام مجموعة الـ20 بـ"معالجة مواطن الضعف في الديون العالمية، بما في ذلك تعزيز تنفيذ الإطار المشترك"، بنى ذلك على فترة رئاسة الهند التي منحت خلالها المجموعة الاتحاد الأفريقي عضوية كاملة. لكن الخطاب الدبلوماسي مهما كان حسن النية ليس بديلاً عن إجراءات جوهرية. وتكمن المشكلة بصورة أساس في القدرة على اتخاذ القرارات، في رفض الدائنين الأجانب إحداث تعديلات إيجابية في النظام الموروث الذي يميل إلى صالحهم، بينما تفشل حكومات الجنوب العالمي في التفكير بصورة إبداعية وشجاعة في كيفية توجيه اقتصاداتها لخدمة مصالح شعوبها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى الدائنين من جانبهم، أن يأخذوا مسألة إلغاء الديون غير المستدامة بجدية. وكانت آخر عملية كبيرة لإلغاء الديون العالمية بدأت قبل 30 عاماً، وساعدت بصورة كبيرة البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط على الاستثمار في الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية وفي اقتصاداتها، مما ولد في بعض الحالات معدلات نمو أعلى وحسن مستويات المعيشة. وإذا قرر الدائنون الأثرياء إنهاء أعباء الديون هذه، يستطيعون ذلك. ذلك أن المطلوب هو النظر في إعادة هيكلة الديون الخارجية ليس فقط كقرار أخلاقي أو إنساني، بل كخطوة مالية عامة حكيمة وسياسية سليمة وبيئية مثمرة. ويجب أن يدرك الدائنون أنهم سيتحملون أيضاً كلف أعباء ديون البلدان الفقيرة. فالنظام الاقتصادي العالمي مترابط ومن شأن عدم الاستقرار في البلدان المدينة أن يؤدي إلى عواقب اقتصادية سلبية على الدائنين، بما في ذلك اضطراب الأسواق والنزاعات الاجتماعية وتراجع إمكانات النمو في المستقبل. وهذه العوامل مجتمعة كلها تشكل فرص استثمار ضائعة للدائنين.

ومنذ فترة طويلة تحبط المحادثات حول إلغاء الديون بسبب الحلول الوسط غير الكافية. وتشمل حلول كهذه مقايضات "الديون في مقابل المناخ"، التي تقلل من أعباء الديون في مقابل تنفيذ إجراءات مناخية، وهي فكرة معقولة نظرياً لكنها معرضة إلى إنتاج صور ضارة من "الاستعمار الأخضر" والتشجيع على ممارسات إشكالية على صعيد الحفاظ على البيئة. وفي نهاية المطاف يجب أن يدرك الدائنون أن أثراً موقتاً في موازناتهم قد يكون بالضبط ما يلزم لضمان الاستقرار السياسي والبيئي للكوكب، وحماية مصالحهم البعيدة الأجل.

أما بالنسبة إلى بلدان الجنوب العالمي فعليها أن تدرك أن في إمكانها دائماً تمويل المشاريع عندما تتوافر لديها القدرات التقنية والمادية المحلية لإنجازها، وهذا هو الجانب الحاسم من السيادة النقدية، أو امتلاك كل بلد عملته الخاصة. مثلاً، تتحمل اليابان والولايات المتحدة وكندا نسب ديون سيادية إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 254 في المئة و144 في المئة و113 في المئة على التوالي، ومع ذلك هي لا تمر بأزمات على صعيد الديون. والسبب في ذلك أن ديونها مقومة بعملاتها الوطنية. من ثم، لن تعوزها يوماً القدرة على الوفاء بالتزاماتها لأن مصارفها المركزية تتحكم في معدلات الفائدة ولا يمكن أن تنفد أموالها. وفي المقابل، تصدر حكومات الجنوب العالمي ديوناً بالعملات الأجنبية بناء على اعتقاد خاطئ أنها تفتقر إلى الأموال أو المدخرات اللازمة للإنفاق. وكثيراً ما يتجاوز نمو ديونها الخارجية نمو عوائدها من الصادرات، مما يؤدي إلى أعباء غير مستدامة على صعيد الديون، كما هي الحال في إثيوبيا وغانا وكينيا وزامبيا. ويمكن لبلدان الجنوب العالمي أيضاً أن تجد مزيداً من الفرص لتعبئة أنظمتها المالية لتلبية بعض حاجاتها.

ومن شأن تحسين السيطرة المالية العامة على عوائد الصادرات أن يشكل عاملاً مساعداً أيضاً. فعلى مدار أعوام ما قبل الجائحة عانت القارة الأفريقية بأكملها مالياً من تحويل المستثمرين الأجانب الأرباح إلى الخارج والتدفقات المالية غير المشروعة، أكثر مما عانت مدفوعات الديون الخارجية. وهذا يعني أن معظم البلدان الأفريقية الغنية بالموارد يمكن أن تقلل من حاجتها إلى إصدار ديون سيادية إذا تمكنت فقط من الاستحواذ على حصة أكبر من عوائد صادراتها في القطاعات الاستخراجية. وهذا هو نموذج الجزائر وبوتسوانا البلدين اللذين يتمتعان بمستويات منخفضة نسبياً من الديون السيادية بالعملات الأجنبية، ويمتنعان عن الاقتراض من الدائنين المنتمين إلى القطاع الخاص.

بالطبع، يجب على بلدان الجنوب العالمي أن تأخذ رأي شعوبها حول المرحلة المقبلة، ويجب أن تصغي المؤسسات الدولية إلى هذه الشعوب، بما في ذلك أعضاء المجتمع المدني وقادة الحركات الاقتصادية. ذلك أن من الضروري تمكين الأشخاص الأكثر تضرراً من أعباء الديون من إبداء رأيهم في صياغة الطريق باتجاه التخلص من هذه الأعباء.

مارتين أبريغو نائب رئيس البرامج الدولية في "مؤسسة فورد".

كريستال سيميوني مديرة "مجموعة ناوي أفريفيم للاقتصاد الكلي"، وهي منظمة غير ربحية تعمل في عموم أفريقيا وتتخذ من كينيا مقراً وتتخصص في الاقتصاد الكلي.

ندونغو سامبا سيلا رئيس قسم البحوث والسياسات الخاصة بأفريقيا في "شركاء اقتصادات التنمية الدولية"، وهي شبكة من خبراء اقتصادات التنمية.

مترجم عن "فورين أفيرز" 27 نوفمبر 2024