ملخص
تحدثنا في الجزء الأول عن التحولات الديموغرافية الكبرى التي يشهدها العالم مع دخولنا عصر التقلص السكاني، حيث تنخفض معدلات الخصوبة إلى ما دون مستوى الإحلال، مما يؤدي إلى تراجع أعداد السكان وشيخوخة المجتمعا، في ظاهرة غير مسبوقة سببها خيارات البشر وليست كوارث طبيعية. في الجزء الثاني نتحدث عن كيفية تأثير التغيرات الديموغرافية على السياسات الاقتصادية والعلاقات الدولية، مع التركيز على التحديات والفرص التي سيواجهها العالم في ظل هذا التقلص. كما سيتم تحليل دور الهجرة والتكنولوجيا في مواجهة هذه التحديات.
موجة الشيخوخة
سيؤدي التقلص السكاني إلى قلب الإيقاعات الاجتماعية والاقتصادية المألوفة رأساً على عقب. وسيتعين على المجتمعات تعديل توقعاتها كي تتوافق مع الوقائع الجديدة، إذ سيكون هناك عدد أقل من العمال والمدخرين ودافعي الضرائب والمستأجرين ومشتري المنازل وأصحاب الأعمال والمبتكرين والمخترعين، وفي نهاية المطاف عدد أقل من المستهلكين والناخبين. وستؤدي شيخوخة السكان والانخفاض المستمر في عددهم إلى إعاقة النمو الاقتصادي ويقوض أنظمة الرفاه الاجتماعي في الدول الغنية، مما يهدد آفاق استمرار الازدهار فيها. ومن دون تغييرات شاملة في بنى الحوافز وأنماط الكسب والاستهلاك في الحياة اليومية، وفي السياسات الحكومية من ناحية الضرائب والنفقات الاجتماعية، فإن مسائل تضاؤل القوى العاملة وتراجع المدخرات والاستثمار والنفقات الاجتماعية غير المستدامة والعجز في الموازنات، ستبقى كلها تحديات مطروحة أمام البلدان المتقدمة اليوم.
حتى هذا القرن، اقتصرت الشيخوخة على المجتمعات الغنية في الغرب وشرق آسيا. لكن في المستقبل المنظور سيكون على عديد من البلدان الأفقر التعامل مع حاجات مجتمعاتها الهرمة، على رغم أن العمال في هذه البلدان أقل إنتاجية بكثير من العمال في البلدان الأكثر غنى وثراء.
لنأخذ بنغلاديش مثالاً، فهي اليوم بلد فقير وستكون في الغد مجتمعاً مسناً، إذ يتوقع أن يكون أكثر من 13 في المئة من سكانها خلال عام 2050 من كبار السن. والعمود الفقري للقوى العاملة في بنغلاديش عام 2050 سيشكله شباب اليوم. لكن الاختبارات القياسية تظهر أن خمسة من كل ستة أفراد من مجموع القوى العاملة هذه يفشلون في تلبية حتى أدنى المعايير الدولية للمهارات التي تعد ضرورية للانخراط في الاقتصاد الحديث. فالغالبية العظمى من هذه المجموعة الصاعدة لا يمكنهم "قراءة الأسئلة الأولية والإجابة عنها" أو "جمع وطرح وتدوير الأرقام الكاملة والعشرية". وخلال عام 2020 سجلت إيرلندا معدل شيخوخة يوازي تقريباً ما ستسجله بنغلاديش خلال عام 2050. لكن في إيرلندا اليوم فإن من يفتقرون إلى الحد الأدنى من المهارات يمثلون فقط معدل واحد من كل ستة شبان.
قد تجد البلدان الفقيرة والمسنة نفسها في المستقبل تحت ضغوط كبيرة لبناء أنظمة رفاه اجتماعي قبل التمكن بالفعل من تمويلها، بيد أن مستويات الدخل خلال عام 2050 ستكون أدنى على الأرجح لعديد من البلدان في آسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا مما كانت عليه في البلدان الغربية بمرحلة الشيخوخة نفسها، فكيف ستتمكن تلك البلدان من تحقيق المتطلبات الكافية لدعم ورعاية مسنيها؟
موجة الشيخوخة المقبلة في البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء ستفرض أعباء غير معتادة على عديد من المجتمعات. إذ على رغم أن الأشخاص خلال الستينيات والسبعينيات من أعمارهم بالمستقبل المنظور قد يعيشون حياة نشطة من الناحية الاقتصادية ويعتمدون على أنفسهم مالياً، فإن الأمر يختلف بالنسبة إلى من هم في الثمانينيات وما فوق. المسنون جداً هم المجموعة العمرية الأسرع نمواً في العالم. فبحلول عام 2050 سيكون عددهم في بعض البلدان أكبر من عدد الأطفال. وأعباء رعاية المصابين بالخرف ستفرض في السياق كلفاً بشرية واجتماعية واقتصادية متزايدة في عالم يهرم ويتقلص سكانياً.
تلك الأعباء ستغدو أشد وطأة مع ضمور العائلات. فالأسرة تمثل الوحدة الأساس في المجتمع وما زالت المؤسسة التي لا غنى عنها بالنسبة إلى البشرية. كل من الشيخوخة السريعة وانخفاض معدلات الخصوبة عن مستوى الإحلال مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالثورة المستمرة في بنية الأسرة. ومع تقلص حجم الأسر وتزايد تفرقها يقل عدد الذين يتزوجون، وتصبح مستويات العزوف الطوعي عن الإنجاب سائدة في بلد تلو الآخر، ونتيجة لذلك تصبح العائلات وفروعها أقل قدرة على تحمل الأعباء حتى مع تزايد الطلبات التي قد تلقى على عاتقها باستمرار.
إن الطريقة التي ستتعامل بها المجتمعات المتقلصة سكانياً مع هذا التراجع الشامل لدور الأسرة ليست واضحة بأي حال من الأحوال. ربما سيكون ممكناً لآخرين (من خارج الأسرة) في هذا الإطار التدخل لتولي أدوار كان يقوم بها تقليدياً أنسباء الدم. لكن الدعوات إلى الواجب والتضحية من أجل أولئك الذين ليسوا من الأقارب قد تفتقر إلى القوة التي تمتلكها تلك الصادرة من داخل الأسرة. قد تحاول الحكومات سد هذه الفجوة، ولكن التجارب الحزينة مع سياسة اجتماعية دامت لقرن ونصف القرن تشير إلى أن الدولة بديل مكلف للغاية عن الأسرة، وليست بديلاً جيداً كذلك. قد تقدم التطورات التكنولوجية - من الروبوتات والذكاء الاصطناعي إلى مقدمي الرعاية وأصدقاء "سيبرانيين" يشبهون البشر - مساهمة غير متوقعة في المستقبل. لكن حالياً هذا الاحتمال لا يزال ينتمي إلى مجال الخيال العلمي، وحتى في الإطار المذكور فإن استخدام التكنولوجيا المتقدمة كحل لمشكلات المجتمع قد يؤدي إلى سيناريوهات سلبية أو قاسية، بدلاً من تحقيق نتائج مثالية أو إيجابية.
الصيغة السحرية
هذا الفصل الجديد من تاريخ البشرية قد يبدو مشؤوماً أو مرعباً ربما. لكن حتى في عالم يطعن في السن ويتقلص سكانياً تبقى مظاهر التحسن المطرد بمستويات العيش وبمجال التقدم المادي والتكنولوجي أموراً ممكنة.
قبل جيلين فقط كانت أطراف مختلفة تضم حكومات ومراقبين ومؤسسات دولية تشعر بالذعر تجاه انفجار سكاني مقبل، وتتخوف من حدوث مجاعات شاملة وتدهور معيشي نتيجة كثرة الإنجاب في الدول الفقيرة، بيد أن هذا الذعر وبعد إدراك متأخر بدا مبالغاً فيه على نحو غريب. إذ إن ما سمي انفجاراً سكانياً مثل في الواقع شهادة على الزيادة في معدلات متوسط العمر المتوقع نتيجة تطور ممارسات الصحة العامة ومظاهر تلقي الرعاية الصحية. وعلى رغم النمو السكاني الهائل خلال القرن الماضي غدا عالمنا أكثر ثراء وأفضل تغذية من أي وقت مضى، وباتت الموارد الطبيعية أكثر وفرة وأقل كلفة (بعد التكيف مع التضخم) من ذي قبل.
وهذه الصيغة عينها التي نشرت الازدهار خلال القرن الـ20 يمكنها أن تضمن مزيداً من التقدم في القرن الـ21 وما بعده، حتى في عالم يشهد تقلصاً سكانياً. جوهر التنمية الاقتصادية الحديثة يتمثل بالتحسن المستمر في الإمكانات البشرية وبتوافر مناخ الأعمال الملائم الذي يُؤطر بالسياسات والمؤسسات التي تساعد في إظهار قيمة الكائن البشري. وعبر هذه الصيغة تمكنت الهند مثلاً خلال نصف القرن الماضي من القضاء عملياً على الفقر المدقع في مجتمعها. التحسينات والتطورات في مجالات الصحة والتربية والتعليم والتكنولوجيا هي الوقود في المولدات التي تنتج التقدم المادي. وبصرف النظر عن مظاهر الشيخوخة الديموغرافية والانكماش السكاني، تبقى المجتمعات قادرة من الاستفادة من التقدم الحاصل في المجالات المختلفة بهذه الحقول. ولم يسبق للعالم أن كان بهذا المستوى من التعليم الشامل كما هو اليوم، ولا يوجد سبب لتوقع توقف هذا النمو في التدريب، على رغم الشيخوخة وتناقص عدد السكان نظراً إلى الفوائد الهائلة التي يجنيها كل من المجتمعات والمتدربين أنفسهم من التعليم.
التحسينات البارزة في مجالي الصحة والتعليم حول العالم تعكس تطبيق المعرفة العلمية والاجتماعية، وهي المعرفة التي تتقدم بلا هوادة بفضل البحث البشري والابتكار. وهذا الدافع لن يتوقف الآن. حتى في عالم يسوده الكبر وتناقص السكان يمكن أن يستمر في تحقيق الازدهار.
إن تراجع الرغبة في إنجاب الأطفال يمثل السبب الذي سيجعل انقراض كل خط أو نسب عائلي ممكناً بعد جيل واحد فقط
مع ذلك، ونظراً إلى انقلاب الهرم السكاني القديم رأساً على عقب واعتماد المجتمعات هياكل وبنى جديدة في ظل التقلص السكاني المديد، فإن الناس سيحتاجون إلى تطوير عادات ذهنية وأنماط وأهداف تعاونية جديدة. وسيتعين على صناع السياسات تعلم قواعد جديدة للتنمية في ظل التقلص السكاني. والصيغة الأساس للتقدم المادي في هذا الإطار – المتمثلة بجني ثمار الموارد البشرية المعززة ونواحي الابتكار التكنولوجي ضمن بيئة عمل ملائمة – ستكون هي نفسها كما هي. ومع ذلك، فإن مشهد الأخطار والفرص التي تواجهها المجتمعات والاقتصادات سيتغير مع تراجع السكان، وستضطر الحكومات إلى تعديل سياساتها لتتواءم مع هذه الحقائق الجديدة.
لا شك أن التحول للعيش في ظل التقلص السكاني سيفرض على المجتمعات تغييرات قاسية ومؤلمة. ففي المجتمعات التي يتناقص عدد سكانها ستفشل برامج الرعاية الاجتماعية الحالية، مثل أنظمة المعاشات الوطنية والرعاية الصحية للمسنين، إذا استمر تقلص عدد السكان العاملين وتزايد عدد المستفيدين المسنين. وإن استمر اعتماد أنماط الإنفاق والعمل المرتبطة بمجموعة عمرية معينة كما هو حاصل اليوم، ستفتقر البلدان التي تعاني الشيخوخة وتراجع السكان إلى المدخرات اللازمة للاستثمار في النمو أو حتى لاستبدال البنية التحتية والمعدات القديمة. وباختصار يمكن القول إن الحوافز الحالية غير متوافقة أبداً، وعلى نحو خطر مع ظاهرة التقلص السكاني المنتظرة، بيد أن إصلاح السياسات واستجابات القطاع الخاص يمكنها التعجيل بالتعديلات الضرورية المطلوبة. إذ للتكيف بنجاح مع عالم يتقلص سكانياً سيتعين على الدول والشركات والأفراد وضع علاوة على المسؤوليات والمدخرات (أي التشديد عليها ورفع قيمتها). وسيكون هناك هوامش أقل للخطأ في المشاريع الاستثمارية سواء كانت عامة أو خاصة، ولن يكون هناك نمو في الطلب الناتج من تزايد أعداد المستهلكين أو دافعي الضرائب يمكن الاعتماد عليه.
ولأن الناس سيعيشون لفترة أطول ويحافظون على صحتهم لسنوات متقدمة من أعمارهم، فإن فترات تقاعدهم ستتأجل. والنشاط الاقتصادي الطوعي لمن هم بأعمار متقدمة سيجعل التعلم مدى الحياة أمراً ضرورياً. وهنا قد يمثل الذكاء الاصطناعي سلاحاً ذا حدين في هذا السياق، فقد يوفر تحسينات في الإنتاجية لا يمكن للمجتمعات التي تعاني تناقص السكان تحقيقها ولكنه قد يسرع أيضاً من استبعاد من لديهم مهارات غير كافية أو قديمة. وقد تتحول البطالة المرتفعة إلى مشكلة في المجتمعات التي تشهد نقصاً في القوى العاملة.
وسيتعين على الدول والمجتمعات ضمان مرونة أسواق العمل – عبر تقليل العوائق والحواجز التي تحول دون الانخراط بها، والانفتاح على مسألتي تدوير العمل (إحالة موظفين وعمال للتقاعد واستقبال غيرهم) وتحريكه اللتين تعززان الحيوية الاقتصادية، والقضاء على التمييز العمري وغيرها من التدابير – وذلك نظراً إلى الضرورة الملحة لزيادة إنتاجية القوى العاملة المتضائلة. فالبلدان كي تعزز نموها الاقتصادي ستحتاج إلى مزيد من التقدم العلمي والابتكار التكنولوجي.
الازدهار في عالم متقلص السكان سيعتمد أيضاً على الاقتصادات المفتوحة، التجارة الحرة في مجالات السلع والخدمات والتمويل، وذلك لمواجهة الضغوط التي قد يسببها التقلص السكاني في غياب هذه المقاربات المنفتحة. وفيما تزداد الحاجة إلى المواهب النادرة ستكتسب حركة البشر مكانة اقتصادية جديدة. إذ في ظل التقلص السكاني ستكون الهجرة أكثر أهمية مما هي عليه اليوم. لكن لن تكون جميع المجتمعات المسنة قادرة على استيعاب المهاجرين الشبان وتحويلهم إلى مواطنين مخلصين ومنتجين. وفي المقابل لن يكون جميع المهاجرين قادرين على المساهمة بفاعلية في اقتصادات البلدان التي استقبلتهم، وبخاصة في ظل الافتقار الحاد للمهارات الأساس الذي تعانيه شرائح سكانية تتنامى بسرعة في عالمنا اليوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استراتيجيات الهجرة البراغماتية ستكون مفيدة للغاية في المجتمعات المتقلصة خلال الأجيال المقبلة، وهذا يعزز قوى العمل والقواعد الضريبية ومظاهر الإنفاق الاستهلاكي فيها بالترافق مع إفادة البلدان التي جاء منها المهاجرون، إذ سيقوم الأخيرون بمدها بتحويلات مالية مربحة. لذا وفي ظل التقلص السكاني سيتعين على الحكومات التنافس على المهاجرين، مع وضع علاوة أكبر على مسألة جذب المواهب من الخارج. فاعتماد سياسات الهجرة التنافسية على نحو صحيح – وتأمين الدعم العام لها – ستعد مهام رئيسة لحكومات المستقبل، وهي مهام تستحق بذل أكبر الجهود.
الأرقام والجغرافيا السياسية
لن يؤدي التقلص السكاني إلى تبديل طرق تعامل الحكومات مع مواطنيها وحسب، بل سيبدل أيضاً طرق تعامل الحكومات مع بعضها بعضاً. إن تقلص أعداد البشر سيغير بلا هوادة ميزان القوى العالمي الراهن وسيجهد النظام العالمي الحالي. وبعض الطرق التي سيتم فيها هذا التبديل يسهل التنبؤ به نسبياً اليوم. فأحد اليقينيات الديموغرافية المتعلقة بالجيل المقبل يشير إلى أن الفروق في النمو السكاني ستؤدي إلى تحولات وتبدلات سريعة في الأحجام النسبية للمناطق الرئيسة في العالم. إذ إن عالم الغد سيكون أفريقياً أكثر بكثير. فعلى رغم أن قرابة سبع سكان العالم اليوم يعيشون في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى فإن هذه المنطقة تمثل ما يناهز ثلث معدل الولادات الإجمالي في العالم، من ثمَّ من المقرر أن يشهد نصيبها من القوى العاملة والسكان في العالم نمواً هائلاً خلال الجيل القادم. لكن هذا لا يعني بالضرورة أننا إزاء "قرن أفريقي" ينتظرنا مباشرة. ففي عالم يختلف فيه نصيب الفرد من الناتج العام بين البلدان بمقدار يصل إلى 100 ضعف بين البلدان فإن رأس المال البشري – وليس فقط إجمال أعداد السكان – يبقى بالغ الأهمية بالنسبة إلى القوة الوطنية ولا تزال آفاق رأس المال البشري في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في هذا الإطار مخيبة للآمال. إذ تشير الاختبارات القياسية إلى معدل مذهل حيث يفتقر 94 في المئة من الشبان في هذه المنطقة حتى إلى المهارات الأولية والأساس. وعلى رغم الضخامة الموعودة لشريحة القوى العاملة في المنطقة عام 2050 فإن عدد العمال ذوي المهارات الأساس هناك لن يكون أكبر بكثير مما هو عليه في روسيا وحدها خلال ذلك العام.
الهند اليوم هي الدولة التي تضم أكبر عدد سكان في العالم ومن المتوقع أن تستمر في النمو لعقود أخرى في الأقل. كما أن التركيبة السكانية للهند تضمن إلى حد ما أن هذا البلد سيشكل قوة أساس خلال عام 2050، بيد أن صعود الهند يواجه مخاطر سببها ضعف مواردها البشرية. وتتمتع الهند بكادر من العلماء والفنيين والخريجين المتميزين من مستوى عالمي. لكن الهنود العاديين يتلقون تعليماً ضعيفاً، إذ إن معدل من يفتقرون إلى المهارات الأساس بأوساط الشبان الهنود اليوم هو معدل صادم يبلغ سبعة من كل ثمانية شبان، وذلك نتيجة تدني نسبة من يلتحقون بالدراسة ورداءة التعليم عموماً في المدارس الابتدائية والثانوية المتوافرة لمن يحالفهم الحظ الالتحاق بالمدارس. لذا فإن ملف مهارات الشبان في الصين اليوم يبقى متقدماً بعقود وربما بأجيال على ملف مهارات الشبان في الهند. ومن غير المرجح في هذا الإطار ولفترة طويلة أن تتمكن الهند من تجاوز الصين المتقلصة سكانياً في نصيب الفرد من الناتج المحلي أو حتى من الناتج الإجمالي.
وفي هذا الإطار فإن الشراكة المتضافرة بين الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا عازمة على تحدي الغرب بقيادة الولايات المتحدة. وهذه البلدان التي تسعى إلى تغيير أو تحدي النظام الدولي القائم لديها قادة عدوانيون وطموحون يبدون واثقين من تحقيق أهدافهم الدولية. إلا أن حركة المد والجزر الديموغرافية ليست لمصلحة هذه البلدان.
هناك ثورة تعصف بفكرة تكوين الأسرة تشهدها جميع المجتمعات في أنحاء العالم.
فالصين وروسيا اليوم مجتمعان يعانيان انخفاض السكان على المدى البعيد، إذ يعاني كلا البلدين من ظاهرتي تقلص القوى العاملة وانخفاض عدد السكان. أما إيران فتسجل من الناحية السكانية معدلاً أدنى بكثير من معدل الاستبدال. وبالنسبة إلى كوريا الشمالية فإن البيانات السكانية تبقى سرية، لكن الديكتاتور كيم يونغ أون بدا قلقاً للغاية في أواخر العام الماضي إزاء معدلات المواليد والإنجاب الوطنية، وذاك يشير إلى أن قيادته ليست راضية تجاه التركيبة السكانية في البلاد.
وفي روسيا أدت مظاهر التقلص السكاني والصعوبات التي تبدو مستعصية على الحل في مجالات الصحة العامة وإنتاج المعرفة إلى تقليص القوة النسبية لاقتصاد البلاد على مدى عقود، مع عدم وجود تحولات في الأفق بهذا المجال. كذلك فإن تهاوي معدلات الولادات والإنجاب في الصين – الجيل القادم في هذا البلد يتجه إلى أن يكون نصف حجم الجيل الذي سبقه – سيؤدي حتماً إلى تقليص القوى العاملة وإلى زيادة سرعة تقدم السكان بالعمر بوتيرة شديدة، وذلك ترافقاً مع ما تتعرض له الأسرة الممتدة في الصين، التي تشكل حتى الآن شبكة الأمان الاجتماعية في البلاد من ضمور وتفكك. وهذه الوقائع الوشيكة تنذر بأعباء اجتماعية جديدة لم يحسب حسابها لاقتصاد صيني ما عاد مبهراً كما كان، وقد تؤدي في نهاية المطاف إلى عرقلة تمويل طموحات بكين الدولية.
بالطبع، يمكن للدول الساعية لتغيير النظام الدولي والتي تمتلك أسلحة نووية أن تشكل تهديداً كبيراً للنظام العالمي الراهن. خذوا مثلاً المتاعب التي تسببها كوريا الشمالية على رغم ضآلة ناتجها الإجمالي المحلي. إلا أن الأسس الديموغرافية التي تتطلبها القوة الوطنية تميل ضد هذه الدول وذلك مع اقتراب دخولها جميعاً في مرحلة التقلص السكاني.
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة في المقابل، فإن الأساسات الديموغرافية تبدو سليمة إلى حد ما، في الأقل مقارنة بالبلدان المنافسة. والاتجاهات الديموغرافية في طريقها لزيادة القوة الأميركية على مدى العقود المقبلة، وتأمين الدعم المطلوب لاستمرار التفوق العالمي للولايات المتحدة. وقد تبدو هذه المزايا الأميركية بعيدة المدى مفاجئة إلى حد ما بالنظر إلى ما يعيشه الأميركيون اليوم من توترات داخلية ومشكلات اجتماعية، لكنها بدأت بالفعل تؤخذ بعين الاعتبار من قبل المراقبين والفاعلين في الخارج.
وعلى رغم أن الولايات المتحدة مجتمع دون مستويات الاستبدال فإنها تتمتع بمستويات خصوبة أعلى من أية دولة في شرق آسيا ومن جميع الدول الأوروبية تقريباً. وتزامناً مع التدفق القوي والمستمر للمهاجرين إليها فإن اتجاهات معدلات الولادة الأقل ضعفاً داخل الولايات المتحدة تضع البلاد في وجهة ديموغرافية مختلفة تماماً عن الوجهة التي تسلكها معظم المجتمعات الغنية الأخرى في الغرب، وتؤمن لها نمواً مستمراً في عدد السكان والقوى العاملة توازياً مع مستويات شيخوخة معتدلة حتى عام 2050.
إذ بفضل الهجرة بدرجة كبيرة تسلك الولايات المتحدة الطريق الصحيح لتشكيل حصة متزايدة من القوى العاملة والشبان والمواهب ذات التعليم العالي في العالم الغني اليوم. كذلك فإن التدفق المستمر لأفواج المهاجرين ذوي المهارات العالية يمنح هذه البلاد ميزة كبيرة. ولا يوجد مجتمع آخر على كوكبنا يتمتع بوضعية أفضل من المجتمع الأميركي لتحويل الإمكانات السكانية إلى قوة وطنية، ويبدو أن هذه الميزة الديموغرافية ستبقى خلال عام 2050 عظيمة كما هي الآن في الأقل. وبالمقارنة مع البلدان المنافسة الأخرى تبدو التركيبة الأميركية عظيمة اليوم، وربما تغدو أفضل في المستقبل، بشرط (وينبغي تأكيد هذا الشرط) استمرار الدعم العام للهجرة وسياساتها. فالولايات المتحدة ما زالت تشكل أهم استثناء جيوسياسي لظاهرة التقلص السكاني المقبلة.
على أن التقلص السكاني سيؤدي إلى حال تدافع في ميزان القوى العالمي بطرق لا يمكن التنبؤ بها. وفي هذا الإطار يبرز فوق كل شيء آخر عاملان مجهولان، مدى سرعة المجتمعات المتقلصة سكانياً ومهارتها في التكيف مع ظروفها الجديدة غير المألوفة، ومدى قوة التقلص السكاني المديد بالتأثير في الإرادة والمعنويات الوطنية للمجتمعات. ولا شيء يضمن في هذا السياق أن تنجح المجتمعات في التغلب على الاضطرابات التي يسببها التقلص السكاني. ومن المؤكد أن المرونة والتماسك الاجتماعيين يمكنهما تسهيل هذه التحولات، لكن هناك مجتمعات بالتأكيد تبقى أقل مرونة وتماسكاً من غيرها. إن تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي على رغم التقلص السكاني سيتطلب إصلاحات كبيرة في المؤسسات الحكومية وفي قطاعات الشركات والمنظمات الاجتماعية كما في العادات والتصرفات الشخصية، بيد أن برامج الإصلاح الأقل جرأة وإقداماً تفشل طوال الوقت في عالمنا الحالي، إذ تأتي محكومة بسوء التخطيط والقيادات غير الكفؤة والسياسات الشائكة.
النسبة الأعظم من الناتج المحلي الإجمالي العالمي اليوم تولدها البلدان التي ستجد نفسها في حال تقلص سكاني بعد جيل من الآن. إن المجتمعات المتقلصة سكانياً التي تفشل في التمحور (والتكيف والتغيير) ستدفع ثمناً باهظاً، أولاً في الركود الاقتصادي ثم في أزمة مالية واجتماعية – اقتصادية خانقة. إن فشلت المجتمعات المتقلصة سكانياً في إجراء التمحور (والتكيف والتغيير) فإن صراعاتها وأزماتها ستصيب الاقتصاد العالمي وتورطه. والسيناريو الكابوسي في هذا المجال سيتمثل بمناطق ذات اقتصادات مهمة لكن متقلصة سكانياً، تشكل حصة كبيرة من نتاج العالم وتكون عالقة في حال تصلب مديدة أو انحدار مستمر بسبب التشاؤم والقلق ومعاندة الإصلاح. وحتى لو نجحت المجتمعات المتقلصة سكانياً في نهاية المطاف بالتكيف مع ظروفها الجديدة كما هو متوقع، فليس ثمة ما يضمن أنها ستفعل ذلك ضمن الجدول الزمني الذي باتت تتطلبه الاتجاهات السكانية الجديدة.
وتداعيات الأمن القومي في هذا الإطار قد تكون حاسمة أيضاً. فالعامل الاستراتيجي الهائل وغير المعروف المرتبط بالعالم المتقلص سكانياً يتمثل بما إذا كانت مسائل انتشار الشيخوخة وتقلص الإنجاب والولادات والتقلص السكاني لفترات طويلة ستؤثر في استعداد المجتمعات المتقلصة سكانياً للدفاع عن نفسها، واستعدادها لتحمل الخسائر البشرية وهي تفعل ذلك. إذ على رغم كل الابتكارات التي توفر الجهود البشرية، تلك الابتكارات المبدلة لفكرة المعركة وطبيعتها، لا يوجد حتى الآن بديل للأجساد البشرية – المفعمة بالحيوية والهشة أيضاً – في الحروب.
سيؤدي التقلص السكاني إلى تغيير تعامل الحكومات مع مواطنيها، وإلى تبديل تعاملها مع الحكومات الأخرى.
لا يمكن للمرء أن يدافع عن بلده من دون تضحيات، بما في ذلك أحياناً التضحية القصوى (أي الموت). إلا أن أفكار الاستقلالية وتحقيق الذات والسعي إلى الحرية الشخصية تدفع الأفراد اليوم في جميع أنحاء العالم الغني إلى "الهرب من العائلة". وإن كان الالتزام بتكوين أسرة بات مرهقاً إلى هذا الحد الذي يستدعي الهرب، فما هي الحال بالنسبة إلى مطلب التضحية القصوى في سبيل أشخاص لم يلتقهم المرء في حياته أبداً؟ ومن الممكن أيضاً من ناحية أخرى أن يكون عديد من الأشخاص خصوصاً الشبان، الذين لديهم روابط والتزامات عائلية قليلة، أقل نفوراً من المخاطرة ومتعطشين لهذه الأنماط من الالتزام والحس بالانتماء والهدف في الحياة التي قد تؤمنها الخدمة العسكرية. وهنا فإن تحمل الخسائر البشرية في البلدان المتقلصة سكانياً قد يعتمد إلى حد بعيد على الظروف الطارئة وغير المتوقعة، التي قد تأتي بنتائج مفاجئة. الغزو الروسي لأوكرانيا قدم لنا اختباراً كبيراً في هذا المجال. فالبلدان عشية الغزو سجلا معدلات ولادة منخفضة للغاية. وأثبت كل من الطرفين المعتدي الاستبدادي والمدافع الديمقراطي استعدادهما لتحمل واستيعاب الخسائر الفادحة في حرب ما زالت مستعرة اليوم في عامها الثالث.
أما الصين فهي تمثل ربما أكبر علامة استفهام عندما يتعلق الأمر بالتقلص السكاني والاستعداد للقتال وخوض الحروب. إذ بفضل سياسة "الطفل الواحد" المطبقة بلا رحمة طوال عقود من الزمن والانخفاض غير المتوقع في معدلات الإنجاب بعد تعليق برنامج "الطفل الواحد" قبل 10 أعوام، فإن قوات الجيش الصيني مؤلفة على نحو كبير من شبان نشأوا دون أشقاء. لذا أمام هذا الواقع وفي حال وقائع حربية كبرى سيكون للخسائر البشرية عواقب وخيمة على العائلات الصينية في جميع أنحاء البلاد، إذ قد يفضي الأمر إلى نهاية أنساب عائلية بأكملها. ومن المنطقي هنا طبعاً الرهان على أن الصين ستقاتل قتالاً شرساً ضد أي غزو أجنبي، بيد أن تسامحها إزاء الخسائر البشرية وتحملها إياها قد لا يشمل المغامرات الخارجية والحملات الاستكشافية التي تفلت من عقالها عبر الحدود. وإن قررت الصين مثلاً تجريد حملة مكلفة ضد تايوان ثم تمكنت من ذلك، فسيكون العالم حينها أمام درس قاتم عما ينتظرنا مستقبلاً في عصر التقلص السكاني.
فصل جديد
عصر التقلص السكاني بات قريباً منا. والمظاهر الدراماتيكية لانتشار الشيخوخة والانخفاض غير المحدود في أعداد السكان بالمجتمعات البشرية – وعلى نطاق عالمي في نهاية المطاف – ستمثل ختام فصل غير عادي من التاريخ البشري وبداية فصل آخر ربما لا يقل استثنائية عن سابقه. والتقلص السكاني سيؤدي إلى تحولات عميقة في مسار البشرية ومن المرجح ألا تكون المجتمعات بدأت بالنظر في الأمر، وهي ربما ليست في وضع مناسب يسمح لها بفهم ما يحصل. لكن على رغم كل التحولات المهمة والمقبلة يمكن للناس أيضاً توقع مسارات استمرارية مهمة وربما مطمئنة. فالبشرية سبق لها أن وجدت بالفعل صيغة لتجنب ندرة المواد الأولية ولهندسة الازدهار المتعاظم باستمرار. وبوسع تلك الصيغة أن تنجح في غض النظر عما إذا كان عدد السكان في حال ارتفاع أو انخفاض. فالتقدم المادي المستمر تحقق بفضل نظام التعاون الإنساني السلمي – العميق والموسع والشديد التعقيد – وذاك النظام المستند على نحو أساس إلى السوق، سيتابع انتقاله من العصر الراهن إلى العصر التالي. الإرادة البشرية – التي تمثل الدافع وراء انخفاض معدلات الإنجاب العالمية اليوم – لن تكون في الغد أقل قوة مما هي عليه الآن. والبشرية تجوب الكوكب وتستكشف الكون وتستمر في إعادة تشكيل ذاتها لأن الكائن البشري هو الحيوان الأكثر إبداعاً وقدرة على التكيف في العالم، بيد أن الأمر اليوم سيتطلب أكثر من مجرد جهود إبداع وتكيف قليلة، وذلك للتعامل مع العواقب المستقبلية غير المقصودة المتأتية من خيارات الأسرة والخصوبة التي تُتخذ اليوم.
مترجم عن "فورين أفيرز" الـ10 من أكتوبر (تشرين الأول) 2024
نيكولاس إيبرستادت أستاذ في كرسي هنري ويندت للاقتصاد السياسي داخل معهد "أميركان إنتربرايس" (American Enterprise Institute).