ملخص
تمنح "يونيسفا" التمهيد لمفاوضات سلام تشارك فيها النساء والشباب، أسوة بالمؤتمر الأخير الذي عقد في قرية نونغ شمال أبيي خلال الأسبوع الثاني من ديسمبر الجاري، كما تعهد زعماء القبيلتين بحماية المجتمعات بالتعاون مع "يونيسفا" للقبض على المخالفين وضمان المساءلة.
في قلب الحدود غير المحسومة بين دولتي السودان وجنوب السودان، تقبع منطقة أبيي الغنية بالنفط بين حربين أهليتين، تحاول على حوافهما رغماً عن كل الظروف التعايش سلمياً بين أبناء المنطقة المكونة من قبيلتي المسيرية التابعة لشمال السودان، ودينكا نقوك التابعة لجنوب السودان.
ولتحقيق هذا الهدف، تعهدت، أخيراً، قوة الأمم المتحدة الأمنية الموقتة في أبيي "يونيسفا" التي تعمل على ضمان المنطقة كونها منزوعة السلاح ودعم المجتمعات المحلية، وذلك بدعم تنفيذ اتفاق القبيلتين لضمان موسم هجرة آمن لمواشيهما عبر الممرات الغربية والشرقية والوسطى لأبيي، التي يهاجر المسيرية عبرها بمواشيهم، إلى داخل جنوب السودان في نهاية موسم الخريف بغرض الرعي، قبل أن يعودوا مع بدء هطول الأمطار.
وتمنح "يونيسفا" التمهيد لمفاوضات سلام تشارك فيها النساء والشباب، أسوة بالمؤتمر الأخير الذي عقد في قرية نونغ شمال أبيي خلال الأسبوع الثاني من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، كما تعهد زعماء القبيلتين بحماية المجتمعات بالتعاون مع "يونيسفا" للقبض على المخالفين وضمان المساءلة.
تقف أبيي شاخصة كمثال بارز للمعاناة التي سببتها قضايا ما بعد الانفصال العالقة، ويزيد منها توجه نظامي الحكم في الشمال والجنوب إلى عسكرة الدولتين، مما حرم المنطقة أسوة ببقية المناطق من الخدمات الاجتماعية ومشاريع التنمية، فسريعاً ما تبخرت نشوة ما كان شعب جنوب السودان يعده استقلالاً، وحل محل الاحتفاء به صراع عنيف وسخط سياسي ناتج من الصراع على السلطة بين النخب السياسية، وولد مزيداً من النزاعات.
وكشأن النزاعات في السودان، في تحفيز بعضها، فإن الصراع الحالي في السودان ودولة جنوب السودان، أيقظ مارد أبيي، فقد أعاد إشعال الهويات الإثنية، ومع أن الخلافات الإثنية لا تعد وحدها السبب الرئيسي للصراع، إلا أنها تعطي حوافز بواسطة التمثيل الإثني والتحالفات القبلية.
تكثيف الخلافات
قسم الاستعمار البريطاني السودان، مثل معظم الدول الأفريقية، أثناء التدافع الأوروبي على أفريقيا بناء على مصالحه، من دون مراعاة الحقائق الجغرافية والإثنية والثقافية للسودانيين، وعليه وجدت الجماعات الإثنية التي كانت في مرحلة ما أعداء تقليديين داخل حدود مشتركة تعرف بأنها منطقة أو مقاطعة أو بلدة.
ومع أن أقاليم ومناطق عدة في السودان كانت سمتها الديموغرافية هذا التباين الإثني، لكن الوضع في أبيي أشد تعقيداً، نظراً لطبيعة المنطقة غير المستقرة والتي تعتمد على الرعي كنشاط اقتصادي، فتتكثف الخلافات مع حراك القبائل نحو المراعي شمالاً وجنوباً بحسب المواسم الأربعة، إضافة إلى خصوصية أبيي أنها كانت ضمن إقليم جنوب السودان تابعة لدولة السودان قبل انفصال الإقليم في يونيو (حزيران) 2011.
وبعد ذلك كان مقرراً أن تعالج قضية الحدود بين الدولتين، ليذهب جزء من أبيي إلى الشمال والجزء الآخر إلى دولة الجنوب، ولكن زاد عنصر النفط من تعقيد القضية. ويرتبط ذلك بحسابات قديمة تتعلق بعائدات النفط حيث تتهم حكومة الجنوب، نظام البشير باستيلائه عليها من دون اقتسامها بالشكل المتفق عليه مع حكومة إقليم الجنوب.
وحركت المجتمعات المحلية أيضاً شكوى ضد نظام البشير لحرمانها من العائدات وعدم إسهامها في تنمية المنطقة، أو تلافي آثار التلوث والأضرار الناجمة عن التنقيب عن النفط.
وما عرقل حل المشكلة أكثر دخول دولة الجنوب في حرب أهلية عام 2013، بين الرئيس سلفاكير ميارديت ونائبه رياك مشار على إثر صراع على السلطة، مرت بها اتفاقات عدة من دون أن تحل جذرياً، وكذلك الاضطرابات في السودان، فعندما اندلعت الاحتجاجات وأفضت إلى سقوط البشير عام 2019 تشكلت حكومة انتقالية، ثم دبت الخلافات بين مكونيها المدني والعسكري إلى أن اشتعلت الحرب المستمرة منذ أبريل (نيسان) 2023.
وقود النزاع
بالتزامن مع انفصال جنوب السودان، أنشأ مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، قوة "يونيسفا" بعد أن توصلت حكومة السودان و"الحركة الشعبية لتحرير السودان" إلى اتفاق في أديس أبابا بإثيوبيا لنزع السلاح من أبيي والسماح لقوات دولية مختلفة بمراقبة الحدود المشتعلة بين الشمال والجنوب وتسهيل توصيل المساعدات الإنسانية، واستخدام القوة لحماية المدنيين والعاملين في المجال الإنساني في أبيي.
تسعى بعثة "يونيسفا" للمحافظة على الوضع إلى حين تفعيل تنفيذ بروتوكول أبيي، ومعالجة ترسيم الحدود، ودعم الحكم المحلي من خلال إشراك الإدارات المحلية، ولكن في الأعوام الأخيرة، مع عودة العنف المتقطع أصبحت فعالية البعثة، والوفاء بالتزاماتها وحماية المدنيين موضع شك، ومع أن الوضع الأمني العام في أبيي أظهر تحسناً، لكن ديناميات الصراع الناجمة عن التوترات ونشاط العناصر المسلحة، والتحديات الإنسانية مثل السطو المسلح والعنف الجنسي لا تزال تعيق الاستقرار في المنطقة.
نتج من هذا الوضع الذي طغى عليه انعدام الأمن، وعدم حماية المدنيين احتجاجات محلية خلال عامي 2022 و2023 ضد قوات "يونيسفا"، وصادفت هذه الأحداث دعوة بعض كبار المساهمين الماليين إلى خفض موازنة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، مما أضاف تعقيداً إلى الموقف المحيط بالبعثة، وزاد عدم الثقة بها.
ظلت أبيي تعاني الصراع منذ ما قبل الانفصال، ففي عام 1983، وبسبب مشاعر التهميش في إقليم الجنوب بشكل عام، سعى الجنوبيون تحت قيادة جون قرنق دي مبيور زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، إلى إشعال حرب أهلية استمرت حتى عام 2005، بتوقيع "اتفاقية السلام الشامل" (نيفاشا).
هذا الحراك السياسي والعسكري توافرت له خلفية من العوامل الجيوسياسية التي عززت مطالب المجتمع المحلي، على رغم هوياتهم المتباينة واختلافاتهم الإثنية، فأحياناً يتوحدون ضد وجود قوات حفظ السلام، ما يشير إلى أن المجتمع المحلي يمر بمرحلة سابقة للتحول إلى ديناميات تقاسم السلطة والخلافات السياسية، وفي كل الأحوال لا يغادر طور الصراعات الإثنية، بل ربما تكون وقوداً لمزيد من الاشتعال.
تسلسل الأحداث
في أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي وقعت سلسلة من الهجمات المسلحة في منطقة أبيي، وأسفرت عن سقوط ضحايا من المدنيين وتم إجلاء المدنيين إلى قواعد "يونيسفا"، كما تعرضت القاعدة إلى هجوم من قبل جماعة مسلحة أسفر عن مقتل أحد أفراد البعثة، ولكن هذه المرة اندلع القتال نتيجة نزاع على الأرض بهجوم شنه مسلحون من ولاية واراب في جنوب السودان، ينتمون إلى قبيلة "دينكا تويك"، يدعمهم مقاتلون موالون للزعيم الروحي جاي ماتشيك، من ولاية الوحدة بجنوب السودان، ضد قبيلة "دينكا نقوك" في مدينة أنيت في منطقة أبيي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تسلسلت الأحداث منذ مايو (أيار) 2024 حين دعا قائد عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة جان بيار لاكروا حكومة جنوب السودان إلى سحب قواتها من منطقة أبيي، لأن وجودها في المنطقة ينتهك اتفاق 2011 الذي نص على أن تكون أبيي منطقة منزوعة السلاح، فضلاً عن انتشار الأسلحة الخفيفة والثقيلة.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بحث مجلس الأمن تأثير الحرب في السودان على الأوضاع الأمنية والاقتصادية والإنسانية في السودان وجنوب السودان بما في ذلك منطقة أبيي، خصوصاً أن مئات آلاف الأشخاص عبروا الحدود من السودان إلى جنوب السودان فراراً من الحرب، حيث واجهوا في أبيي وضعاً متأزماً نتيجة لتشريد آلاف الأشخاص بسبب الفيضانات التي دمرت الإنتاج والخدمات.
صراع مطول
يضم جنوب السودان 64 مجموعة عرقية أكبرها قبيلة الدينكا، وفرع منها "دينكا نقوك" طرف في النزاع حول الأحقية بمنطقة أبيي، كانت سياسات السودان في ظل النظام السابق تتمحور حول الهندسة الاجتماعية وإعادة بناء ثقافات ومجتمعات الجنوب، من خلال إدخال الثقافة العربية والدين الإسلامي بهدف بناء مجتمع متجانس يسهم في الحفاظ على إقليم الجنوب ضد الانفصالي، والحفاظ على السلطة.
وتأسس التوزيع الإثني للمجموعات في جنوب السودان في سياق التقسيم داخل المناطق الثلاث، منطقة بحر الغزال الكبرى، وأعالي النيل الكبرى، والاستوائية الكبرى من قبل الإدارة الاستعمارية منذ عشرينيات القرن الماضي، ثم أعيد توزيعها لاحقاً إلى 10 ولايات من قبل نظام البشير، ولهذا، أصبحت تحديات التمثيل الإثني العادل في السياسة والحكم وبناء السلام والوئام والتعايش السلمي بين المجموعات الإثنية عقبات رئيسية أمام بناء الأمة وحل النزاع في أبيي وجنوب السودان ككل.
وفقاً لنظرية "الصراع الاجتماعي المطول" التي ظهرت في سبعينيات القرن الماضي، فإن الصراعات الطويلة الأمد والمعقدة والشديدة والمستمرة على نحو شائع والعنيفة غالباً، تكون من جانب جماعات معينة من أجل تلبية حاجاتهم الأساسية مثل الأمن والاعتراف بوجودهم، والوصول العادل إلى المناصب السياسية، والمشاركة الاقتصادية.
وتشير النظرية إلى أن الصراع الاجتماعي المطول أمر لا مفر منه تقريباً في المواقف التي تتعرض فيها هوية المجموعة للتهديد أو الإحباط أو عندما يكون وصولها إلى الحاجات الأساسية محدوداً. وفي حالة أبيي كما غيرها، فإن التفاعلات العدائية بين المسيرية ودينكا نقوك، تستند إلى كراهية عنصرية وإثنية ودينية وثقافية عميقة الجذور، ترسخت منذ الاستعمار مروراً بنظام البشير، ما يعني أن مؤشرات الصراع الاجتماعي المطول، أقوى من وثيقة "يونيسفا".
حقيقة المعضلات
ومع كل التحديات المتجذرة في أبيي، فإن نجاح "يونيسفا" في ضمان التعايش السلمي، يعتمد على إدراك حقيقة المعضلات والتعامل معها وفقاً لذلك.
أولاً، يعد الاتفاق حلاً موقتاً لأن الحرب الحالية عطلت تفاهمات ترسيم حدود المناطق المتنازع على سيادتها بين السودان ودولة جنوب السودان، بما في ذلك أبيي، وذلك ضمن قضايا عالقة أخرى من ضمنها الجنسية، والنفط وغيرها.
ثانياً، من الملاحظ أن الصراعات المسلحة في السودان يمكن أن تعزى إلى الافتقار إلى أجندة وطنية متماسكة وسياسات التنمية المستدامة وسبل العيش التي تفاقمت بسبب سياسات الهوية المتجذرة في العداوات الإثنية التاريخية.
ثالثاً، أدى تفتت البنية الاجتماعية في جنوب السودان بوصول الجنوبيين إلى هيكل دولة مشوه، إذ فشلت في تحديد قيمة الهياكل الاجتماعية السائدة، كما فشلت في الحكم ولم تقم ببناء مؤسسات دولة بل ظل التنظيم الاجتماعي يتجمع على طول خطوط الدم، الإثنية والقبلية والعشائرية.
رابعاً، ترعرعت النخب السياسية في شمال وجنوب السودان على الاستغلال السياسي والاقتصادي للمجتمعات المحلية والتلاعب بها واستغلالها لتعزيز مصالحها الخاصة خصوصاً في الصراعات النشطة وأثناء الكوارث، ومثلت الثروة النفطية عنصراً مهماً لهذه السيطرة. ولا يزال خطر استغلال النخبة في أبيي مرتفعاً، مع تأثيرات غير مباشرة على استمرار حدوث الصراعات المحلية العنيفة، إضافة إلى فقر آليات حل النزاعات في صراعات الموارد بين القبائل الأخرى، كما أن النفط في منطقة أبيي يمنح دينكا نقوك والمسيرية حافزاً لمواصلة القتال بغض النظر عن العواقب.