ملخص
وزارة الزراعة العراقية تعاقدت مع إحدى الشركات لتوريد 300 ألف طن من سماد "الداب" (DAP) الروسي المنشأ قبل نحو عامين، ووصلت بالفعل دفعة أولى من الصفقة بحجم 50 ألف طن إلى العراق.
اشتهيت آزاد محمد (33 سنة) تناول الفاصوليا الخضراء، انطلقت سريعاً نحو السوق، فلم تجدها وكأنها مختفية من العراق، وعندما سألت البائعين أكدوا أنها سحبت كلياً ولم تعد موجودة.
عندما سألت أحد البائعين قال لها "عليك الحذر في الأيام المقبلة من أي شخص يبيعها، اكتشفوا أنها مسممة، وسُحبت قبل الوصول إلى الأسواق"، ساورتها الحيرة والشكوك وبعض التساؤلات عن المصير حال لم تسحب من السوق.
اكتشفت آزاد في ما بعد، من خلال "السوشيال ميديا" أن أطناناً من الفاصوليا أُتلفت في مدينة السليمانية بإقليم كردستان، وأن الشحنة كان مصدرها إيران، لكنها بالطبع انتقلت إلى محافظات أخرى في العراق، مما لم تعلق عليه أي من الجهات المتخصصة، باستثناء لجنة مراقبة الجودة في الإقليم، لكنه انتشر بصورة نصائح "فيسبوكية" من قبل صفحات تطالب المواطنين بنسيان شراء الفاصوليا في هذه الفترة، حتى إشعار آخر أو انتظار تصريح.
مدير مراقبة الجودة في مستودع السليمانية، زرانج محمد، أكد أنه ضُبط نحو 70 طناً من الفاصوليا الرطبة السامة وتحوي كمية كبيرة من النترات، وقال "يجب أن تكون نسبة النترات عادة بين صفر و30 ملليغراماً في الطعام، لكن هذه الحبة تحوي أكثر من 2000 ملليغرام".
وقال محمد إن الوجبة التي أُتلفت تشكل خطراً كبيراً، وقد لا تؤثر في المواطنين الآن، لكنها ستسبب في المستقبل أمراضاً خطرة، بما في ذلك السرطان.
وأوضحت لجنة مراقبة الجودة في السليمانية، عبر بيان، أن "الفاصوليا هُربت من إيران وتباع وتشترى في أسواق السليمانية، وتنتقل أحياناً إلى المحافظات الأخرى"، وطالبت بالتشديد على التجار بعدم استيراد الفاصوليا الخضراء من إيران.
يوضح متخصص العلوم الزراعية هاشم حنين، قائلاً إن طبيعة التربة العراقية فقيرة المواد العضوية نتيجة مرورها بكثير من التقلبات البيئية والملوثات الكيماوية نتيجة الحروب، وهذا الفقر يجعل أية إضافة للأسمدة في تماس مباشر مع النباتات والكائنات الأخرى، ويسهل انتقالها إلى الإنسان.
وأضاف حنين "خلط الأسمدة الكيماوية تقنية قديمة معتمدة، فعند ذوبانها في الماء تتحرر العناصر الغذائية لتصبح جاهزة لامتصاص النباتات، لكن جهل بعض الفلاحين بكميات استخدامها بخاصة تلك التي تكون بتركيزات عالية، يجعلها مدمرة، إذ يسهمون بصورة غير مباشرة في تدمير صحة المواطن على المدى البعيد، ويمكن أن تتحول بعض العناصر إلى أشكال غير قابلة للامتصاص، فتتراكم الأسمدة وتحوي معادن مثل الرصاص والنيكل والحديد والمنغنيز، ومع الاستخدام الطويل تتراكم في التربة، بخاصة مع زيادة كميات الأسمدة المستخدمة".
وأوضح المتخصص الزراعي أن الأسمدة الثقيلة، على وجه الخصوص، تتميز بحركتها المحدودة داخل التربة، فلا تُغسل بسهولة عبر مياه الري، بل تترسب وتتفاعل مع الأملاح لتشكل رواسب، مضيفاً أنه "بمرور الوقت، تتزايد تركيزات هذه المعادن وتشكل خطراً صحياً، إذ يحوي بعضها الكادميوم والرصاص، وهي أكثر خطورة مقارنة ببقية العناصر والمعادن الثقيلة".
ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة والمعايير المحلية تؤثر هذه المواد في النباتات التي تمتصها، ومن ثم تصل إلى الإنسان، ويمكن أن تبقى داخل التربة وتضر بالكائنات الحية الدقيقة والبيئة المحيطة، وفق ما ذكر هاشم حنين.
استيراد المحاصيل
المتخصص البيئي عامر المالكي رفض توجيه الاتهامات إلى الفلاحين بسبب حال الجفاف التي حلت بالبلاد في الأعوام الأخيرة، قائلاً "المزارعون ضحايا أعوام من النبذ واستهلاك المحاصيل المستوردة بديلاً من منتجاتهم، وما يريده الفلاح العراقي اليوم هو أن يجني مالاً كثيراً، فيقوم بذلك بصورة عشوائية وغير مدروسة سواء من قبله أو من قبل الجهات الرقابية".
وأضاف المالكي "الطماطم والخيار وبقية الخضراوات والفواكه هي الأكثر استهلاكاً في السوق، وهي ضحية الأسمدة الكيماوية، التي من الممكن أن تصل من خلال مياه الصرف إلى مياه الأنهار والمياه الجوفية المستخدمة في الشرب، وتتحول النترات في أمعاء الإنسان لمادة النيتريت المسببة لسرطان الدم في الأمعاء والمعدة".
ويوضح عامر أن سمادي الداب واليوريا الأكثر انتشاراً في العراق، ويستهلك بعض المزارعين كميات كبيرة من سماد اليوريا الذي يحوي مادة البيوريت التي تنشط عند ارتفاع درجة الحرارة، كما أن تحلل اليوريا يؤدي إلى تطاير غاز الأمونيا منها، لذا فإن الإفراط في استخدامه يسبب التهابات الجهاز التنفسي والعقم للرجال، متابعاً "لا تعلم وزارة الزراعة أن العراقي يأكل الأمراض ويتسمم على المدى البعيد من دون أن ينتبه".
صفقة السماد المسرطن
لجنة الزراعة والمياه والأهوار النيابية في مجلس النواب، وقبل عامين فقط، كشفت عن صفقة استيراد سماد روسي ملوث بالإشعاعات، ومدير عام مركز الإشعاع بوزارة البيئة، أحضر معه كتاباً أثناء جلسات الاستجواب، وكان هذا الكتاب معنوناً لوزارة الزراعة يؤكد فيه أن هذه المادة أثناء فحصها على الحدود تبين أنها تحوي إشعاعاً عالياً ولا يمكن استخدامها محلياً، وأن وزارة الزراعة تعاقدت مع إحدى الشركات لتوريد 300 ألف طن من سماد "الداب" (DAP) روسي المنشأ، ووصلت بالفعل دفعة أولى من الصفقة بحجم 50 ألف طن إلى العراق.
ووفقاً لما ذكرته اللجنة، تبين لاحقاً أن السماد المستورد غير صالح للاستخدام الزراعي، لاحتوائه على نسب مرتفعة من التلوث الإشعاعي، وأكدت أن توزيع هذا السماد على الفلاحين سيؤدي إلى كارثة بيئية وصحية حتمية إذا لم يُتعامل مع الوضع بجدية.
ومن المفارقات أن النائب ثائر مخيف قال وقتها إنه ناشد مدير عام التجهيزات الزراعية، وتساءل إذا كانت مخازن اللجنة سيطرت على الشحنة أو أتلفتها قبل توزيعها، وعلى رغم تأكيد اللجنة ذلك، فإن مخيف أوضح أن أطناناً من السماد وزعت فعلياً حتى قبل وصولها إلى مخازن التجهيزات الزراعية، وحمل الوزارة مسؤولية كارثة بيئية ستلحق الضرر بالمجتمع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أحد العاملين في وزارة الزراعة، الذي فضل عدم ذكر اسمه، أوضح أن الأسمدة المستخدمة في العراق غالباً ما تكون مغلفة سابقاً وتُستورد من دول قريبة، وعلى رغم افتتاح مصنع خاص بالأسمدة من قبل وزارة الصناعة، فإنه لا ينتج فعلياً مادة السماد، وإنما يفضل التعامل مع الأسمدة المستوردة، مما يعزز استفادة الدول المصدرة بدلاً من دعم الإنتاج المحلي.
وأضاف "المادة المستوردة تعاد تعبئتها داخل المصنع باستخدام خطوط إنتاج صينية منخفضة الجودة، والمصنع يفتقر إلى أي خط إنتاج عراقي استثماري حقيقي، وبموافقة كل من وزارتي الزراعة والصناعة".
وتبلغ مساحة الأراضي الزراعية المستغلة في العراق 18 مليون دونم (18 ألف كيلومتر مربع) من أصل 32 مليون دونم (32 ألف كيلومتر مربع)، حسب تصريحات أخيرة لوزير الزراعة محمد كريم الخفاجي، بعد أن كانت مستغلة كلها قبل عام 2003.
البحث عن الإنقاذ
"يتحمل المزارع العبء وحده، وتُتناسى الحروب والتلوث البيئي والتصحر وانعدام المياه وتجاهل وزارة الزراعة كل ما نفعل" يبدأ جواد العبيدي (42 سنة)، حديثه بانفعال ويأس، لا يعرف ما الذي يفعله، فليست الأسمدة وحدها من تجعل المحاصيل الزراعية خطراً على العراقي، بل مخلفات الحرب تركت حصتها بصورة كبيرة وأسهمت في زيادة الموت.
لا يملك العبيدي رفاهية اختيار محفز زراعي غير الأسمدة الكيماوية، إذ يقول إن "الأرض لا تسنده، وكذلك قلة الأمطار وعدم انتظام سقوطها، إضافة إلى التصحر وارتفاع درجات الحرارة، وتظاهرنا مرات عدة لإنقاذ ما تبقى من أراضينا ومزارعنا، لكن لا أحد يهتم، وما يفعله المزارع من ممارسات خاطئة ما هو سوى سلسلة هرمية من فساد أكبر تتحمله الدولة".
طرق الري القاتلة
يرى متخصص زراعة التربة والأسمدة الكيماوية منتصر السراي، أن ما يعمل على تسميم المحاصيل الزراعية ليس السماد الكيماوي وحده، بل تسهم الطرق التقليدية في الري أيضاً، إذ تجلب الخضراوات إلى المنازل وهي مليئة بالتلوث والسموم.
وتابع السراي "طرق الري التقليدية مثل الغمر أو الري السيحي تعمل على دفع الأسمدة المضافة إلى مناطق بعيدة من جذور النباتات، مما يؤدي إلى عدم استفادة النباتات منها بالصورة المثلى، ونتيجة لذلك، لا يلاحظ المزارعون أو المنتجون أي تأثير إيجابي للأسمدة في المحاصيل الزراعية، مما يؤدي إلى فقدان التأثير، ومن ثم تلوث مصادر مياه الري العذبة، وبسبب هذه المشكلة، يضطر المزارعون إلى تكرار عملية التسميد مرات عدة، مما يؤدي إلى تراكم كميات خطرة جداً من الأسمدة في الخضراوات والحبوب والمياه".
في أبريل (نيسان) الماضي، أكد رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، أن الدعم الحكومي سيشمل فقط الفلاحين الذين يستخدمون أنظمة الري الحديثة، ووافق على إضافة مليون دونم (1000 كيلومتر مربع) للأراضي الزراعية التي تعتمد على المياه السطحية، على أن تتركز زراعة المحاصيل الشتوية، قرب الأنهار والجداول.
وبلغت نسبة مستخدمي التقنيات الحديثة في الري العام الماضي نحو 3.7 في المئة، وفقاً لرئيس الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية التعاونية، حيدر العصاد، الذي أكد في وقت سابق أن النسبة يجب ألا تقل عن 20 في المئة، لكن نقص معدات الري في الأسواق إضافة إلى ارتفاع سعرها يمنعان الفلاحين من اعتمادها على نحو واسع.
هرمونات ومبيدات
ويؤكد المتخصص الزراعي أن عوامل الري التقليدية لا تلصق مزيداً من الملوثات البيئية بالخضراوات وحسب، بل تسهم في زيادة استخدام بعض الهرمونات مثل "الإيثيفون" و"الإيثيلين" لتسريع نضج الثمار وتلوينها بلون الثمار الناضجة، وعلى رغم أن هذه المواد تساعد على تحسين المظهر التجاري للثمار، فإنها تؤثر سلباً في قيمتها الغذائية والصحية، كذلك فإن بعض هذه المواد غير مرخصة ومن المرجح أن تكون مسرطنة.
ويقول السراي "كثير من المحاصيل تذهب إلى السوق وهي غير ناضجة مطلقاً، لا تزال خضراء كالطماطم مثلاً، وتُحقن بالهرمونات، في اليوم التالي تصبح حمراء، ثم إلى معدة المستهلك في اليوم الثالث".
مع الوقت، تظهر الهرمونات على المحاصيل، ولا تقتصر على شكلها أو لونها، بل تظهر تأثيرات سلبية في المستوى الجيني والوراثي للنباتات الذي يمكن أن ينتج أصنافاً نباتية خطرة، كذلك تسهم الأنشطة الصناعية والزراعية بخاصة في المناطق القريبة من المنشآت النفطية والصناعية في زيادة مستوى التلوث، وتظهر بصورة متزايدة حالات الإصابة بالأمراض السرطانية، وفق ما ذكر السراي.