ملخص
يبقى جبل الشيخ نقطة صراع مستمر بسبب موقعه الاستراتيجي وموارده المائية والعسكرية. ويشكل بالنسبة إلى إسرائيل عنصراً دفاعياً أساسياً. أما بالنسبة إلى سوريا ولبنان، فهو رمز للسيادة الوطنية ومصدر للتوازن العسكري.
من على قمة جبل الشيخ أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن القوات الإسرائيلية ستبقى في منطقة عازلة على الحدود السورية، تحديداً على قمة الجبل "حتى يتم التوصل إلى ترتيب آخر يضمن أمن إسرائيل".
وأضاف نتنياهو الذي كان عقد اجتماعاً على قمة الجبل ضمن المنطقة العازلة في سوريا، أنه كان على هذه القمة قبل 53 عاماً كجندي، لكن أهميتها لأمن إسرائيل زادت، بخاصة في ضوء الأحداث الأخيرة، وقال "نحن هنا لدراسة الوضع لاتخاذ قرار حول الانتشار الإسرائيلي في هذا المكان المهم حتى يتم التوصل إلى ترتيب آخر يضمن أمننا. وأهمية هذا المكان لأمن إسرائيل اكتسبت زخماً، خصوصاً خلال الأسابيع الأخيرة مع الأحداث الدرامية التي تحدث هنا في سوريا، وسنحدد الترتيب الأفضل الذي سيضمن سلامتنا".
وبدأت إسرائيل بالتوغل والسيطرة على منطقة عازلة أقيمت بعد حرب عام 1973 بينها وبين سوريا، ولاحقاً توسع جيشها في الجانب السوري من جبل الشيخ وسيطر على موقع عسكري مهجور، مستغلاً سقوط نظام بشار الأسد والفوضى التي أحدثها.
وقبل نتنياهو، أصدر وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس تعليمات للجيش الإسرائيلي بالاستعداد لنشر قواته في قمة جبل الشيخ طوال أشهر الشتاء بسبب التطورات الأمنية في سوريا. وجاءت هذه التوجيهات في ختام تقييم أمني عقد برئاسة كاتس، وبمشاركة رئيس الأركان هرتسي هليفي وقادة عسكريين آخرين، وأشار وزير الدفاع إلى أن الأحوال الجوية الصعبة في المنطقة تتطلب إقامة منشآت مناسبة واستعدادات خاصة لضمان بقاء الجنود في قمة الجبل خلال فصل الشتاء.
التوغل والتصريحات بضرورة البقاء تطرح أسئلة عن أهمية هذا الموقع؟ وهل تنوي إسرائيل احتلاله بصورة دائمة؟ أو اعتماده كورقة تفاوضية بالإشارة إلى ما قاله نتنياهو "لحين التوصل إلى ترتيب مختلف"؟.
"عين الدولة"
يقع جبل الشيخ في سلسلة جبال لبنان الشرقية، ويمتد بين لبنان وسوريا قرب هضبة الجولان، ويصل ارتفاع قمته إلى 2814 متراً وتمتد على طول نحو 45 كيلومتراً وتُعدّ أعلى نقطة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، مما يمنحه إطلالة استراتيجية تشمل مناطق واسعة وتشرف على أربع دول هي لبنان وسوريا والأردن وفلسطين، ويمتد من بانياس مروراً بمنطقة الجولان، وصولاً إلى وادي الحرير.
وقام الجبل بدور حاسم في النزاعات العربية-الإسرائيلية، بخاصة في حرب عام 1967، فاحتلت إسرائيل أجزاء منه في هضبة الجولان ولا تزال، وبسبب ارتفاعه الشاهق يُعدّ جبل الشيخ نقطة مراقبة طبيعية تسمح بمراقبة التحركات العسكرية والمدنية في الدول المحيطة، ويمكن تركيب رادارات متطورة ومحطات إنذار مبكر على قممه، مما يمنح الدول تفوقاً استخباراتياً وقدرة على التحذير من الهجمات الجوية أو البرية، مما ستستفيد منه إسرائيل بطبيعة الحال وسيعطيها القدرة على السيطرة لاحقاً في حال بقيت هناك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إسرائيل تطلق عليه لقب "عين الدولة" نظراً إلى أهميته في مراقبة لبنان وسوريا والأردن وشمال فلسطين، بما أنه يوفر موقعاً مثالياً لنصب أبراج الاتصالات، مما يمكنها من اعتراض الاتصالات في المنطقة، ويُعدّ مركزاً حيوياً لعمليات الحرب الإلكترونية، إذ يمكن تعطيل شبكات الاتصالات المعادية أو اعتراضها.
ويحوي جبل الشيخ مصادر مياه جوفية وينابيع طبيعية تغذي نهري الأردن واليرموك (مشترك بين سوريا والأردن) ونهر الوزاني (لبنان) ونهر جرجرة (سوريا)، مما يوفر نحو 1.5 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، ويجعل منه خزاناً مائياً استراتيجياً في منطقة تعاني نقص المياه. وبطبيعة الحال تمنح سيطرة إسرائيل على الجولان، بما يشمل جزءاً من جبل الشيخ، أفضلية مائية واقتصادية. أضف إلى ذلك أن الجبل يوفر مواقع حصينة يصعب اختراقها، مما يجعله قاعدة مثالية لبناء مراكز عسكرية محصنة ضد الهجمات الأرضية والجوية.
ويستخدم الجبل أيضاً كنقطة انطلاق للهجمات أو التمركز الدفاعي، خصوصاً بالنسبة إلى إسرائيل التي تعتبره خط دفاع أمامياً ضد سوريا ولبنان. وعلق أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية في القدس مئير مصري عبر حسابه على منصة "إكس" على أهمية جبل الشيخ بالقول "كل متر في دمشق مرصود من جبل الشيخ".
وفي السياق ذاته، أوضح مدير "معهد القدس للاستراتيجية والأمن" إفرايم إنبار لشبكة "سي أن أن" الأميركية أنه "في عصر الصواريخ يقول الناس أحياناً إن الأرض ليست مهمة، وهذا غير صحيح... لا بديل عن الجبال"، وكان إنبار أشار في ورقة بحثية نشرها عام 2011 حول مميزات جبل الشيخ، إلى أنه "يتيح استخدام المراقبة الإلكترونية في عمق الأراضي السورية، مما يمنح إسرائيل القدرة على الإنذار المبكر في حال الهجوم الوشيك"، وعلق على احتمالية انسحاب الجيش الإسرائيلي من المنطقة أن مثل هذا الانسحاب يُعدّ "قراراً سياسياً، لكن الجيش سيحب البقاء هناك".
الأهمية الدينية للجبل
وفقاً لموقع "قدموس لبنان"، فإن لجبل الشيخ أهمية دينية منذ قديم الزمان عند مختلف الأقوام التي تعاقبت عليه منذ الفينيقيين الذين سكنوا المنطقة، ويعتبر انتشار المعابد دليلاً على أهميته الدينية باعتباره أقدس الجبال، فعبده الفينيقيون وأطلقوا عليه اسم أحد آلهتهم "بعل حرمون"، وأقاموا له هيكلاً إلى جانب الصخرة الكبيرة التي تكلل قمته ولا تزال آثارها ظاهرة حتى اليوم، ومن بينها بقايا جدار القصر العائد لأحد هذه الهياكل وطوله قرابة 10 أمتار. وداخل المعبد ثمة فتحة دائرية ذات مساحة تراوح ما بين 26 و30 قدماً مربعاً، وعمقها ثلاثة أقدام كانت تستخدم مكاناً لإيداع النذور من جانب الصاعدين إلى قمة الجبل.
ووجدت قطعة من حجارة المعبد بطول 18 قدماً وعرضها 12 قدماً وسماكتها أربع أقدام حفرت عليها كتابات يونانية ترجمتها "بأمر من الإله الأعظم المقدس قدموا النذور في هذا المكان". وهناك مغارة تقع داخل موقع لقوات الطوارئ الدولية يعتقد بأنها كانت معبداً للإله إيل، ولاقت المعابد في جبل حرمون اهتماماً بالغاً من الرومان الذين أعادوا تجديدها وزينوا أعلى الجدران بتيجان، وبقيت هذه المعابد تتمتع باحترام كبير وبحركة حج حتى القرن الخامس للميلاد.
وتذكر المصادر التاريخية أن الوثنيين الذين عبدوا الشمس ظنوا أنهم يقتربون من معبودتهم الساطعة فوق جبل الشيخ أكثر من أي مكان آخر. كما أن جلال المنظر وروعته، دفعا الكنعانيين إلى تأليه الجبل، فأطلقوا عليه "بعل حرمون" وشيدوا فوقه هياكل ومعابد لا يزال يحمل آثارها إلى اليوم.
ويذكر المؤرخون أن القدماء كانوا يصعدون إلى قمة جبل الشيخ أواخر كل صيف ويقدمون نذورهم وأضحيتهم وظلت الطقوس الدينية تقوم فوق الجبل إلى العهد البيزنطي، حتى إبان انتشار الديانة المسيحية. ومن أقدم ما بقي من آثار، المعابد الوثنية فوق بعل حرمون ومعبد الإله شوب القابع فوق أعلى قمم الجبل على ارتفاع 2814 متراً، وتوجد حوله تسعة معابد تتشابه في ما بينها إلى حد كبير، تتكامل مع المعبد الكبير القائم فوق قمة الجبل، أحدها معبد بعل جاد في الهبارية ومعبد عين حرشا وفي منطقة البقاع والسفوح الشرقية للجبل من الجانب السوري وفي هضبة الجولان المحتل.
واعتبر جبل الشيخ موقعاً مقدساً لدى الديانات القديمة وورد ذكره في النصوص الدينية والتاريخية تحت اسم "حرمون" ويعني المقدس، وذكر في النصوص الدينية اليهودية أكثر من 70 مرة، مما يمنحه أهمية عقدية لدى المتطرفين اليهود، ويقع في جبل الشيخ أيضاً مقام "الشيخ عبدالله" ويقوم بعض من مشايخ طائفة الموحدين الدروز في سوريا بزيارة سنوية للمقام. ويحتفل فيه لمناسبة عيد التجلي في أغسطس (آب)، وهو عيد معروف في القرى اللبنانية لارتباطه بجبل الشيخ، وتنظم بلدية راشيا الوادي (وتقع عند سفح الجبل) كل سنة تقريباً زيارة إلى موقع قريب من موقع تجلي السيد المسيح على هذا الجبل المقدس، وسابقاً كانوا يصعدون الجبل إلى الموقع نفسه، لكن بسبب الأوضاع الأمنية يضطر المؤمنون إلى البقاء عند سفح الجبل، ويضيء الزائرون الشموع ويشعلون النيران كي تُرى من القرى المجاورة في تقليد سنوي.
الأطراف المتنازعة على جبل الشيخ
احتلت إسرائيل أجزاء من جبل الشيخ عام 1967 خلال حرب الأيام الستة، ولا تزال تعتبره ذات أهمية استراتيجية لمنع أي اختراق أمني أو عسكري محتمل من الشمال، وأنشأت محطات رادار وقواعد عسكرية على قممه لتعزيز تفوقها الاستخباراتي والعسكري. وتعتبر المياه الآتية من الجبل ضرورية لدعم مستوطناتها في الجولان وشمال فلسطين، في حين ترى سوريا أن استعادة الجولان، بما فيه جبل الشيخ، جزء من سيادتها الوطنية، وتستخدم السفوح الغربية للجبل كمواقع دفاعية وتعتمد عليه كخط دفاع طبيعي ضد إسرائيل.
ويمثل الجبل بالنسبة إلى لبنان منطقة حدودية حساسة، بخاصة مع وجود "حزب الله" الذي كان يعتبره موقعاً استراتيجياً لنصب صواريخ متقدمة لمواجهة إسرائيل، وتمثل السيطرة عليه ضمانة لردع أي هجوم إسرائيلي باتجاه الأراضي اللبنانية. أيضاً تولي الدول الكبرى أهمية للجبل وتستخدمه كورقة ضغط في مفاوضات السلام والأمن الإقليمي، وتتابع الولايات المتحدة النشاط العسكري فيه عن كثب، بينما كانت روسيا تدعم حلفاءها (النظام السوري و"حزب الله") للتمسك بالمواقع الدفاعية حوله.
ولجبل الشيخ أهمية اقتصادية وبيئية وسياحية، فيتحول إلى مقصد للسياحة بفضل منتجعات التزلج من الجانب الإسرائيلي، وكثيراً ما حكي عن مشاريع مماثلة على منحدرات الجبل اللبنانية، لكن نظراً إلى الظروف السياسية توقف المشروع، مما يحرم لبنان دخلاً اقتصادياً مهماً. وكانت إسرائيل أعلنت عن إغلاق الموسم السياحي الخاص بجبل حرمون (جبل الشيخ) في أبريل (نيسان) الماضي والمشهور بأنه الموقع الوحيد في إسرائيل لتساقط الثلوج بانتظام، بعد اندلاع حرب غزة وتدخل "حزب الله" عبر جبهة الإسناد.
ووفقاً لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، اجتذب الجبل 400 ألف زائر خلال شتاء 2022-2023، لكن السلطات الإسرائيلية اضطرت إلى إغلاق منطقة التزلج فيه بالكامل بسبب هجمات "حزب الله" في الشمال في ذلك الوقت، ناهيك عن أن الجبل يحوي على ثروات طبيعية مثل المعادن والمياه الجوفية، مما يجعله محط اهتمام اقتصادي، ويُعدّ موطناً لعدد من النباتات والحيوانات النادرة، مما يضيف قيمة بيئية تحفز الدول على حمايته، ويستغل سكان البلدات والقرى التي تقع على منحدراته كبلدة راشيا الوادي هذا التنوع البيئي للحصول على النباتات والأعشاب النادرة، بينما يعمد مربو النحل إلى نشر قفرانهم عند تلك المنحدرات، وتعتمد القرى الواقعة عند سفحه على مياهه الجوفية التي تُعدّ من أعذب المياه في العالم.
لماذا تريد إسرائيل السيطرة عليه اليوم؟
يبقى جبل الشيخ نقطة صراع مستمر بسبب موقعه الاستراتيجي وموارده المائية والعسكرية، ويشكل بالنسبة إلى إسرائيل عنصراً دفاعياً أساسياً. أما بالنسبة إلى سوريا ولبنان، فهو رمز للسيادة الوطنية ومصدر للتوازن العسكري. ومع استمرار التوترات الإقليمية، من غير المتوقع أن تفقد قمم جبل الشيخ أهميتها الاستراتيجية في المستقبل القريب، مما يجعلها محوراً دائماً في الصراع على النفوذ والسيطرة في الشرق الأوسط. وضمن سياستها التوسعية تعتبر إسرائيل أن الحفاظ على الموقع هو عمق استراتيجي دفاعي يضمن تفوقاً عسكرياً في أي نزاع مستقبلي.
أما بالنسبة إلى نتنياهو، فله رمزيته وتعكس تصريحاته وزيارته لجبل الشيخ الأهمية الاستراتيجية التي توليها إسرائيل لهذه البقعة، فعندما يتحدث من على قمة الجبل فإنه يبعث برسالة تفوق واضحة إلى خصومه في المنطقة. أيضاً هو حماية للموارد المائية وضمان إمدادات المياه في ظل ندرة المياه المتزايدة، إضافة إلى عنصري الردع العسكري والاستخباراتي عبر منع الخصوم من استخدامه كنقطة مراقبة أو انطلاق للهجمات، وكل هذا يدخل ضمن سياسة التنافس الجيوساسي، والسيطرة على جبل الشيخ تعزز النفوذ الإقليمي والدولي لأي قوة عظمى توجد فيه.
يذكر أن وزراء خارجية دول عربية من بينها مصر والسعودية والأردن دانوا خلال اجتماع في العقبة الأردنية السبت الماضي، "توغل إسرائيل داخل المنطقة العازلة مع سوريا وسلسلة المواقع المجاورة لها في جبل الشيخ ومحافظتي القنيطرة وريف دمشق"، فيما أعلن قائد الإدارة الجديدة في سوريا أحمد الشرع أن "الإسرائيليين تجاوزوا خطوط الاشتباك في سوريا بصورة واضحة، مما يهدد بتصعيد غير مبرر في المنطقة"، ولكنه استدرك في تصريح لاحق أن الوضع الراهن في سوريا "لا يسمح بالدخول في أي صراعات جديدة".