Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الحياة الفاوستية" رحلة في عوالم غوته السرية

لا يمكن الكاتب ان يتوارى طويلا خلف شخصياته مهما بلغ الالتباس بين الحقيقة والخيال

شخصية فاوست في فيلم الألماني مورناو (ملف الفيلم)

ملخص

هل يجوز لنا التحقق من حياة المؤلف عبر أعماله؟ يبدو الحسم بنعم أو لا، قاصرا عن تقديم الإجابة الصحيحة، ففي عالم الخيال، لا يستحب ترك الواقع يتحدث عن نفسه بكل فظاظته حتى في السير الذاتية. في الوقت نفسه يصعب على أي كاتب أن يتوارى طويلا خلف شخصياته فلا نستبين منه شيئا على الإطلاق.

في كتابه "غوته: حياته الفاوستية / “Goethe: His Faustian Life يقدم أ ن ويلسون رحلة استثنائية في عوالم غوته الحقيقية والخيالية، تشمل حياة الرجل التي شهدت أهم انعطافات العصر الحديث حتى أطلق عليه الغوتية "Goethezeit"، أو عصر غوته، جنباً إلى جنب مع أعماله الرائدة، لا سيما رائعته "فاوست"، الحكاية التي صنعت عالمنا، بغرض إقامة وشائج بين غوته وفاوست من جهة، وبينهما والإنسان المعاصر من جهة أخرى.

حين يكون القاتل كتاباً

ترك غوته نحو 143 مجلداً، توزعت بين الشعر والمسرحية والرواية والمذكرات التي توثق طفولته وأسفاره. في سيرته "الشعر والحقيقة" كتب "في الثامن والعشرين من أغسطس (آب) عام 1749، بينما تدق الساعة الثانية عشرة ظهراً، جئت إلى هذا العالم، في فرانكفورت على نهر الماين. وكان البرج يدل على حسن الطالع، الشمس في برج العذراء، المشتري والزهرة ينظران إليها بود. وفيما كان كل من زحل والمريخ يسلكان طريق اللامبالاة، راح القمر بقوة إشعاعاته يقاوم ولادتي، إذ كنت في حكم الميت لافتقار القابلة إلى المهارة اللازمة، ولم أرَ النور إلا بجهود شتى".

عاش غوته حياة مرفهة بحكم أنه الابن الوحيد في عائلة برجوازية ثرية. وعلى رغم انكبابه على الدرس والتحصيل، اشتهر بفلتاته عبر مراحل حياته وحتى الرمق الأخير. في البداية، أوقعته نزواته في حب شارلوت خطيبة صديقه، وحين يقرران الزواج يستسلم الفتى المشبوب العاطفة لليأس ويفكر في الانتحار، إنها الهواجس المرعبة التي تستولي على قلوب الشباب في هذه السن وهي موضوع روايته الأولى "آلام فرتر" التي حظيت بانتشار واسع واعتبرت نقلة نوعية في تاريخ الأدب على رغم حظر تداولها في كثير من البلدان بسبب انتحار عدد كبير من الشباب وهم متسربلون في زي الفتى المنتحر (ثياب زرقاء وسترات صفراء)، من ضمنهم شابة تدعى كريستال فون لاسبيرغ كانت تعمل في بلاط فايمر قامت بإلقاء نفسها في النهر مع نسخة من الرواية في جيبها، مما يصفه مكسيم ديمو في كتابه "في مديح القاريء السيئ" بالقراءة التي أخطأت غايتها وعملت على توليد نوع من النص الشبح لم يكن في البدء مندرجاً فيه، ولكنه كان بمثابة إمكان غير متحقق.

على رغم انتشار تلك "اللوثة الفيرترية"، فإن غوته نفسه صاحب التجربة خرج من متاهته سالماً. عام 1775، دعاه الدوق كارل أوغست إلى بلاطه في دوقية فايمر. وهناك ارتقى إلى أعلى المراتب الحكومية بفضل دخوله في العمل عوضاً عن الانجراف إلى أفكاره عن الانتحار، أي إن الشاعر قام بتقديم حلول عملية لأزمات الشباب ولكن خارج السرد.

تحالَف مع الشيطان

قضى غوته عقداً كاملاً من عمره في أعمال رسمية ابتلعت كل وقته، قبل أن تثور ملكاته الإبداعية وتجبره على الفرار إلى إيطاليا من دون أن يخبر أحداً وهناك تفرغ لمشاريعه الأدبية وعلى رأسها مسرحيته الشعرية "فاوست"، أهم حدث في عصر التنوير في ألمانيا. وتدور حول الدكتور فاوست الذي أدركته السآمة ووصل إلى قلبه القنوط جراء حبسته في حجرات الدراسة. وبينما يجلس ليلاً يترجم إنجيل يوحنا، متردداً بين معانٍ عدة لكلمة" لوغس" المشتقة من اليونانية λόγος  "في البدء كانت الكلمة"، "في البدء كان الفكر"، يستقر أخيراً على ترجمتها "في البدء كان الفعل"، ليلخص بتلك العبارة حياته بأكملها، ويمهد لظهور من يساعد بطله على خوض التجربة، امتثالاً لخط الكتاب، وإذا بإبليس يظهر متخفياً في هيئة الكلب الذي استضافه عنده الليلة.

يبدو الأمر وكأنه صدفة، فلا فاوست ولا الشيطان أظهرا حرصاً على البقاء أو التعاون معاً، كما نتبين من محاولاته المستميتة للخروج من الشرك واستعانته بفاوست كي يفتح له ثغرة في المخمس المرسوم على باب غرفته. لكن شيئاً في لقائهما يذكي طموحاً قديماً لدى الاثنين، فاوست المتعطش إلى خوض غمار التجربة بما يتجاوز إمكانات البشر المحدودة، والشيطان المصطلي بالرغبة في فضح بني آدم أمام الذات العليا.

ينتهي الجزء الأول بنجاح إبليس في مهمته، فبعد أن يستعيد فاوست شبابه يسعى إلى إغواء مارغريت، حسناء القرية العذراء، وبعد أن تحمل منه، يهجرها، فتقتل وليدها ويحكم عليها بالإعدام. يقول ويلسون، "الأمر المزعج من وجهة نظر السيرة الذاتية هو أنه في حين أن فاوست ليس غوته تحديداً، ولا حتى نسخة من غوته، فإنه من صنع غوته، ومن الصعب أن نعرف إلى أي مدى من المفترض أن نتعاطف معه ونتركه يفلت من العقاب".

وهذا معناه الإدانة الصريحة لبطل غوته، فكيف طوعت له نفسه أن يترك فيرتر العاشق المثالي فريسة للموت، وينقذ بطله المتحالف مع الشيطان المتخلي عن حبيبته؟.  

الأمومة مصدر الحياة

كان غوته من أبرز رواد الرواية التكوينية في عصره، إنه الحكيم الذي "حمل الروح الألمانية بين يديه"، وأسس لتفوق بلاده الثقافي، وامتلك "الذهن الأكثر إثارة للاهتمام الذي سكن جمجمة بشرية على الإطلاق". في رائعته "فاوست"، استند إلى قضية سوزانا مارغريت برانت (وقعت في عامي 1771- 1772) الفتاة التي أعدمت بتهمة قتل طفلها في فرانكفورت، وقتها بدر عن غوته ما ينم عن انزعاجه الشديد لعدم التناسب بين الجريمة والعقاب، إلى الحد الذي دفعه إلى التخلي عن دراسته للقانون.

وعام 1783 شارك غوته في قضية يوهانا كاثرينا هون، الفتاة التي قتلت طفلها في ظروف مشابهة. وحاول أن يقنع زملاءه بتخفيف عقوبة الإعدام، ولكنهم بدلاً من ذلك أصروا على الحكم، وقطع رأس المرأة على يد الجلاد حامل السيف.

يبدأ ويلسون كتابه بغوته قرب نهاية حياته، وهو يستقبل وفداً يقترح عليه تقديم عرض مسرحي لفاوست للاحتفال بعيد ميلاده الـ80 عام 1829، لكن غوته لم يكُن في مزاج رائق. والحقيقة أن زواره كانوا يقصدون إعادة تكييف الجزء الأول من فاوست الذي ينتهي بموت مارغريت واختفاء البطل المحكوم عليه بالهلاك في سحابة من الدخان برفقة إبليس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما الجزء الثاني من "فاوست"، فلا يصلح للعرض على الإطلاق، على رغم أنه "أول عمل أدبي حديث عظيم يكشف لنا أنفسنا". وفيه ترفع الملائكة روح فاوست إلى الأعلى ثم تظهر العذراء مريم، وتتوسل مارغريت من أجل إنقاذ روح مغويها، والوصول به إلى أعلى درجات النعيم، حيث يجلس المحبون على مقاعد من بلور إلى جوار عرش الخالق، لتختتم المسرحية بترنيمة عن مفهوم الأنوثة الأبدية، وهكذا يحول غوته مارغريت إلى قديسة هي وكل من قطعت رؤوسهن بموجب قانون البشر.

أمضى غوته أكثر من 60 عاماً في بلورة رؤيته الجديدة لفاوست، في رواية غريبة وقوية استوعبت كل الأسئلة الفلسفية في عصره فضلاً عن الثورات والإمبراطوريات. ولكنها أبعد من ذلك بكثير، إنها الأسطورة التي تحكي كيف أصبحنا عصريين، كما يستكشف ويلسون، بعد أن تعلم الألمانية لينسل إلى روح غوته، ويترجم بعض المفردات التي استشكلت على مترجمي فاوست، فلم يجدوا ما يكافئها في اللغات الأخرى.

يتفق ويلسون مع الناقد إريك هيلر، على أن غوته لم يكُن لديه أي إحساس بالمأساة، بل يعتبرها صفة إيجابية "لقد تنبأ غوته بالعصر الحديث. وكان هذا جزئياً لأنه كان مسيحياً بطبيعته، فكانت أخلاقه الجنسية ونظرته العلمية وإيمانه بالعقل والمنطق تتجاوز ببساطة عبء القرون المسيحية وتتحدث مباشرة إلى عصر ما بعد المسيحية الذي نعيش فيه الآن (سواء كنا مسيحيين أو لم نكُن)".

يربط ويلسون بين غوته وفاوست الذي يبدأ بالتمرد على المسيحية، وينتهي إلى تجاوز كل الأديان. في البداية، يعقد صفقة مع الشيطان، وفي النهاية، يتجنب اللعنة، ويخلص من خلال إيمانه بقوة حميدة يطلق عليها "الأنثى الأبدية" والتي تكرم بالنسبة إلى ويلسون الطبيعة الأمومية مصدر كل أشكال الحياة على كوكبنا المسيء.

يا عزيزي كلنا "فاوست"

تطرح الأسطورة فكرة أن يستدعي البشر أرواحاً خارقة ثم لا يتمكنوا من السيطرة عليها، مثل فرانكشتاين، وفاوست وغيرهما، في كتابه "عقد إبليس: تاريخ الصفقة الفاوستية" يذهب إد سايمون، أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة كارنيجي ميلون، إلى حقيقة انتقال فاوست من عصر إلى عصر، مجدداً عهده مع الشيطان ومخلفاً وراءه الموت والكراهية والدمار، والدليل على ذلك ما حدث في الحربين العالميتين وما يحدث الآن في أوكرانيا والسودان وفلسطين ولبنان وكثير من البلدان. لقد خرج إبليس من العالم السفلي، مما يفسر رائحة الكبريت المنتشرة في كل مكان، وحتى بعيداً من الحرب، وكما اجتهدت العقول المفكرة في تصنيع القنبلة الذرية، اجتهدت ذريتهم في تخليق دمى بشرية، تحت شعار مخيف "الذكاء الاصطناعي" الذي بقدر ما يزف إلينا من وعود، يحمل لنا ما لا يحصى من تهديدات. بيد أنها تذكرنا بمطامح بطل فرانكشتاين وخروج الأمور عن اليد الفاعلة. في الإطار نفسه، يربط ويلسون بين فيلم "فانتازيا" الذي يحاول إحياء قصيدة غوته "متدرب الساحر"، مع ميكي ماوس في دور الشاب الذي يستعين بعصا الساحر لمساعدته في جلب الماء وينتهي به الأمر إلى إغراق المدينة.

لقد امتلك غوته نظرة ثاقبة للمؤشرات المرئية لزمن الحياة الإنسانية. وكانت آخر كلماته وهو على فراش الموت "مزيداً من النور!" بمثابة استجداء للتنوير الفكري من كاتب أفنى حياته بحثاً عن نقطة ضوء!.

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة