ملخص
الفظائع المستمرة في السودان التي يشهد عليها المجتمع الدولي تجعل الأمر لا يتعلق بمساكن المدنيين وحدها وإنما يعكس العنف المستمر صورة أكثر قتامة. والمستقبل القريب في السودان سيكون رهن جهود الجهات الفاعلة المنسقة محلياً وإقليمياً ودولياً، وفي ظل غياب هذه الجهود فإن السيناريو الأكثر احتمالاً هو أزمة مطولة ذات عواقب إنسانية وسياسية وأمنية مدمرة.
اشترط رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان لبدء العملية السياسية وإجراء الانتخابات بعودة المواطنين إلى مساكنهم التي تركوها، ودعا الأمم المتحدة إلى ممارسة ضغوط على قوات "الدعم السريع". مثل هذه الشروط كانت ستكون أقرب إلى التحقق لو أن الصراع بين الطرفين كان في مراحله الأولى سياسياً ولم يتحول إلى حرب شاملة تجتاح في طريقها المدنيين وتحولهم إلى ضحايا ونازحين ولاجئين، وتقضي على ما تبقى من هيكل الدولة وبناها الأساس وقطاعاتها الاقتصادية. ويتغافل هذا الحوار بين طرفين لا يسمع أي منهما الآخر، الكارثة الإنسانية التي ينبغي معالجة آثارها أولاً قبل القفز إلى عملية الانتخابات، هي عملية معقدة حتى في الظروف الطبيعية بالنسبة إلى السودان على طول تاريخه، وكل الدول الأفريقية. والمساءلة المتعلقة بالوضع الإنساني ينبغي أن تواجه حقيقة أن هناك أكثر من 20 ألف قتيل وما يزيد على 14 مليون نازح ولاجئ، وفق تقديرات الأمم المتحدة، وهي قابلة للزيادة إذا استمرت الحرب التي امتدت حتى الآن إلى 13 من أصل 18 ولاية.
وضع الشروط السياسية على حساب الإنسانية، بدأ منذ أن صمت الآذان عن أصوات السودانيين التي تنادي منذ بداية الحرب بضرورة وقفها، والآن سيشجع هذا الإعلان كل فصيل سياسي، لأن يأتي مهرولاً بأجنداته المختلفة. كما أنه يقفز إلى إجراءات معقدة ومطالب مشروعة يرغب في تحقيقها السودانيون، ولكن بعد العمل على المهمة الشاقة، وهي وقف الحرب، وهي مرحلة محورية لكن في الأقل سيواجه السودان تحديات بناء السلام وديمومته بدلاً من مواجهة تحديات الحكم، وآثار استمرار الحرب، فالتصويت الوطني في جوهره، فرصة حاسمة لتعزيز السلام الهش وتحديد المسار الديمقراطي.
مناهضة الديمقراطية
وعندما فرض البرهان إجراءات الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021، لم يضع المجلس العسكري حساباً أو يكلف نفسه عناء الاستشهاد بأي "ضرورة عسكرية"، أو تهديد وشيك للفترة الانتقالية، وبدلاً من ذلك، قدم السلطة على حساب رأي الشركاء "المكون المدني" حول القرار، وقد بدا هذا المكون ضعيفاً أو طامعاً في السلطة من دون أن يمر ببوابة الانتخابات. في الواقع السوداني، كان كل مثال تقليدي لسطوة العسكر يتضمن وصول الأحزاب السياسية الموالية لهم إلى السلطة من خلال عملية انتخابية "مموهة"، ولكن بعد أن بث المجلس العسكري من خلال الفترة الانتقالية مشاعره المناهضة للديمقراطية وأحياناً نياته الصريحة حولها، ثم حل "الوثيقة الدستورية" من دون الاتفاق مع المكون المدني، أحسوا بخطر يحيط بموقعهم.
وكان القلم بيد البرهان عندما ألغى الوثيقة الدستورية، وعمل على تأجيل الانتخابات أملاً في إطالة الفترة الانتقالية عما هو مقرر لها، مما زاد حجم التحديات الكبيرة التي واجهها السودان في تحقيق الاستقرار السياسي والتنمية. ومع ذلك لم يستغل الوقت الإضافي في إجراء إصلاحات حقيقية، ولم يعمل على صياغة دستور جديد يسهم في استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية، وتوفير الظروف المناسبة لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة، لتكون فرصة لتحقيق انتقال ديمقراطي ناجح ومستقر، ذلك لأن قادة الانقلاب والحكومات العسكرية، عموماً، يعانون حساسية تجاه تحديد الفترات الانتقالية، ويتعلق الأمر بالتهرب من تحديد المدة الذي يرتبط بتصاعد وتيرة الانقلابات.
هناك عدم ثقة متزايد لدى السودانيين بأنه يمكن بلورة رؤية واقعية من قبل "المجلس العسكري" أو الجيش، لإقامة انتخابات نزيهة وشفافة. ومما يزيد الأمر سوءاً أن القوى السياسية التي تنادي بالانتخابات والديمقراطية، أيضاً، لا تقف على أرضية قانونية أو شعبية صلبة، فالأخطار والكلف التي قد يتحملها السودانيون من تبني القوى الموجودة في الساحة السياسية الآن، عسكرية أم مدنية، ستفوق إلى حد كبير أي فوائد محتملة.
فظائع مستمرة
وبعدما شارفت الحرب على إكمال عامها الأول، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في الثامن من مارس (آذار) الماضي، قراراً يدعو إلى وقف فوري للعنف في السودان. وبعد بضعة أيام، وافقت القوات المسلحة على مفاوضات غير مباشرة مع "الدعم السريع". ومع ذلك، انهارت المحادثات في الـ11 من الشهر ذاته، بعد أن رفض الجيش اقتراح وقف إطلاق النار ما لم تنسحب "الدعم السريع" من الأعيان المدنية. وجاء ذلك بعد أن أحرز الجيش تقدماً في بعض المواقع، إثر تزويده بالطائرات المسيرة من إيران.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي أوردت إحصائية للأمم المتحدة أنه قتل ما لا يقل عن 124 مدنياً في ولاية الجزيرة منذ الـ20 من أكتوبر. وعلقت مسؤولة بناء السلام التابعة للأمم المتحدة روزماري دي كارلو لمجلس الأمن "إن الجانبين يبدوان مقتنعين بأنهما قادران على الانتصار في ساحة المعركة".
وأكدت دراسة أجراها باحثون من كلية "لندن" للصحة والطب الاستوائي، أن الجوع والمرض والوفيات العنيفة مجتمعة قتلت ما يزيد على 61 ألف شخص في ولاية الخرطوم وحدها على مدى 14 شهراً من الحرب، ويتجاوز التقدير ما أحصته الأمم المتحدة من وفيات في البلاد بأكملها أثناء الصراع.
وأعلن مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، في بيان الجمعة الماضي، أن الحصار المفروض على مدينة الفاشر من قبل "الدعم السريع" منذ مايو (أيار) الماضي تسبب في كارثة إنسانية. وأكد أن القصف المكثف الذي استهدف مناطق سكنية مكتظة بالسكان أدى إلى مقتل 782 مدنياً وإصابة أكثر من 1143، وفقاً لتوثيق المفوضية. بينما حذر المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي من أن العنف الحالي يرمز إلى "الإبادة الجماعية" التي اعترفت بها الولايات المتحدة في دارفور بين عامي 2003 و2005، والتي أودت بحياة ما يقدر بنحو 300 ألف شخص.
هذه الفظائع المستمرة في السودان التي يشهد عليها المجتمع الدولي تجعل الأمر لا يتعلق بمساكن المدنيين وحدها وإنما يعكس العنف المستمر صورة أكثر قتامة بأن الوضع في دارفور وولاية الجزيرة والخرطوم وغيرها قد يستلزم كل منها حلاً مستقلاً حتى بعد توقف الحرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العنف الانتخابي
ويرجح حتى لو وصل البرهان إلى تنفيذ شروطه الموسومة برجوع المدنيين إلى ديارهم، بخروج قوات "الدعم السريع" من مساكنهم، فإن أي عملية انتخابية قادمة في ظل الحكم الحالي حتى لو تُووفق عليها لن تخلو من العنف.
وقوبل إعلان البرهان بإجراء انتخابات بشكوك واسعة، وسط الأزمة الإنسانية الماثلة وحالات اللجوء والنزوح الكثيفة، وحالات الجوع التي قاربت الوصول إلى مجاعة، إضافة إلى تزايد المخاوف الأمنية في أقاليم عدة يدور فيها النزاع بين الجيش و"الدعم السريع"، مما يجعل من المستحيل ضمان التصويت الآمن، الذي يقوض أي عملية ديمقراطية ذات مغزى. ونظراً إلى أن الانتخابات تتطلب وجود بنية تحتية ملائمة في كل الظروف، وهشاشتها أعاقت الاستعداد للانتخابات خلال الفترة الانتقالية، أما تدميرها فسيكون التحدي الأبرز حالياً وعلى مدى سنوات مقبلة حتى تكتمل إعادة الإعمار بعد الحرب. وترى تيارات سياسية عدة أن مقترح البرهان بعقد انتخابات مع افتقاره إلى الشرعية، ربما يكون محاولة لتعزيز سلطته أو اكتساب الشرعية الدولية أو استرضاء أصحاب المصلحة الدوليين بدلاً من التحرك الحقيقي نحو الديمقراطية.
وقبل أن تندلع الحرب كانت الحكومة ضعيفة وتدهورها محتملاً بقوة، وأسهمت بعد اندلاعها في انهيار مؤسسات الدولة، ومع الاستقطاب الإثني - السياسي الذي أدى إلى وقوع ضحايا في دارفور خصوصاً، ما لم يعثر على اختراق محتمل، قد يتفكك السودان، بانفصال أقاليم منه بأسوأ من الطريقة التي انفصل بها جنوب السودان عام 2011. ويدعم هذا التصور نشوء انشقاقات جديدة داخل الأحزاب والقوى السياسية مما يعزز انعدام الثقة بين الفصائل المختلفة.
وما يزيد خطر هذا النوع من الصراعات هو أن هناك حركات مسلحة بصدد التحول إلى أحزاب سياسية ولها أجنداتها المناطقية الخاصة المتعلقة بالمطالبة بتقرير المصير أو فرض المشاركة في السلطة، مما يعيد المحاصصات السياسية التي انتهجها النظام السابق والتي خلقت صراعات جهوية. ولا يستبعد أن يكون هناك تفتت كامل يؤدي إلى تقسيم السودان إلى دويلات تسيطر عليها فصائل مختلفة سياسية وعسكرية، مستفيدة من الانقسامات القبلية والإثنية.
سيناريوهات محتملة
والاتجاه نحو الانتخابات في ظل الوضع الحالي من دون سلام شامل، وفي ظل الوضع المعقد للغاية في السودان يفتح الباب أمام سيناريوهات عدة محتملة تتكشف عبر الأبعاد الإنسانية والسياسية والأمنية والعسكرية. الأول، سيناريو الجمود السياسي المطول وعدم قدرة أي من الطرفين على فرض سيطرته، مما يؤدي إلى صراع طويل الأمد، مع زيادة انشقاقات القوى السياسية، وعدم مقدرة الفاعلين الدوليين والإقليميين على الوساطة من أجل اتفاق هدنة أو وقف إطلاق النار. فبعد تجربة الحرب الحالية، حدث تغير ملحوظ في أولويات السودانيين نتيجة الحرب وهي أن الناخب السوداني أصبح لا يهتم غالباً بالقوى السياسية الموجودة في الساحة حالياً التي انكشفت سلبيتها خلال الحرب، وإنما تركيزه سيكون على قضايا الأمن والاستقرار والمعيشة، وتعزيز الديمقراطية كمطلب ثانوي. هذا التغير وفقدان الثقة في الفاعلين السياسيين المحليين ربما يجعل السودانيين يطالبون بقوة دولية لحمايتهم.
والسيناريو الثاني، يرجح أن تتفاقم الأزمة إذ يؤدي القتال المستمر إلى وقوع مزيد من الضحايا والإصابات وتفاقم النزوح واللجوء، خصوصاً مع عدم وصول الدعم الإنساني بسبب انعدام الأمن والقيود المفروضة. وتواجه جهود المساعدات الدولية تحديات لوجيستية وتمويلية. وقد تنشأ مجاعة واسعة النطاق في مناطق الصراع بسبب الإمدادات المحظورة والبنية الأساس المدمرة.
أما السيناريو الثالث فمن الممكن أن يتحقق شرط البرهان في صورة سيناريو بأن يحدث اتفاق انتقالي مفروض من القوى الدولية التي يمكن أن تجبر طرفي النزاع على التفاوض، وبذلك تقام حكومة انتقالية لتمهيد الطريق للانتخابات، لكنها ستكون مقيدة بالتحديات المذكورة. من الممكن أن يخلق الاتجاه نحو الانتخابات القلق والتوتر في ظل مرحلة انتقالية رسمية أو بصورة ضمنية كالتي أشار إليها البرهان. ويمكن أن تتحول الانتخابات إلى عنف، مما يشكل نكسة كبيرة لا للسلام فحسب، بل وللديمقراطية أيضاً.
ومع ذلك فإن المستقبل القريب في السودان سيكون رهن جهود الجهات الفاعلة المنسقة محلياً وإقليمياً ودولياً. وفي ظل غياب هذه الجهود، فإن السيناريو الأكثر احتمالاً هو أزمة مطولة ذات عواقب إنسانية وسياسية وأمنية مدمرة. كما لا يخفى من خلال هذا السيناريو الوجه الآخر للعنف المتجذر في الأرضية السودانية، الذي يمكن أن يؤدي إلى تمدد الحرب في المناطق "الآمنة" أيضاً.