ملخص
بينما يرى عدد من المتخصصين في مجال الإعلام أن تلك القرارات بمثابة خطوة إيجابية لـ"تصحيح المسار" وإنهاء الفوضى الإعلامية، يؤكد آخرون أنها "شكلية" وغير مؤثرة في ظل غياب الحرية والإعلام المهني الجاد، وستؤدي إلى "تغول صلاحيات الهيئات الإعلامية على السياسات التحريرية"، التي يضعها ملاك الفضائيات ومسؤولو الصحف.
أثارت القرارات الصادرة عن مسؤولي الهيئات الإعلامية في مصر أخيراً في شأن تنظيم بث البرامج الدينية والرياضية وحظر استضافة العرافين والمنجمين ردود فعل واسعة في ظل موجة واسعة من السخرية والاستنكار من رواد منصات التواصل الاجتماعي بزعم صعوبة تطبيقها على أرض الواقع وعدم التزام ملاك المؤسسات الإعلامية بها، مصحوبة بتساؤلات عدة حول ما إذا كانت ستسهم في ضبط وتصحيح المسار وإنهاء الفوضى الإعلامية، أم ستزيد وتعمق حالة الارتباك والتخبط؟
وشملت قرارات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام المتخصص بالإشراف على صناعة الإعلام في مصر، فيما يتعلق بتنظيم بث البرامج الدينية أن تحدد مدتها بحيث لا تزيد على 30 دقيقة في القنوات والإذاعات المختلفة، ولا على 45 دقيقة في القنوات والإذاعات الدينية المتخصصة. وكذلك منع المداخلات الهاتفية نهائياً على الهواء مباشرة من الجمهور، وأن يتم تجهيز وعرض الآراء والاستفسارات والأسئلة بمعرفة فريق إعداد البرنامج المتضمن أحد المتخصصين بالشأن الديني، ومنع جميع الإعلانات بصورها كافة، ويسمح بذلك فقط قبل بداية بث البرنامج أو بعد نهايته.
كما أقر المجلس تحديد مدة البرنامج الرياضي الحواري بما لا يزيد على 90 دقيقة، وتحديد مدة الاستوديو التحليلي للمباريات، محلية أو دولية، بما لا يزيد على ساعة تتوزع قبل وبعد المباراة، وتلغى فقرة تحليل الأداء التحكيمي بجميع تسمياتها، ولا يجوز البث المباشر للبرامج الرياضية بعد الساعة الـ12 ليلاً (منتصف الليل)، وحتى الساعة السادسة من صباح اليوم التالي، ولا يبث بعد هذا التوقيت إلا البرامج المعادة. فيما أصدر رئيس الهيئة الوطنية للإعلام أحمد المسلماني قراراً لجميع قنوات وإذاعات ومواقع الهيئة بحظر استضافة العرافين والمنجمين، داعياً إلى "استطلاع مستقبل المنطقة والعالم عبر التفكير العلمي وقواعد المنطق ومعطيات علم السياسة والعلوم الأخرى، والاستعانة في هذا الصدد بالعلماء والخبراء والأكاديميين والمثقفين".
وبينما يرى عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجال الإعلام أن تلك القرارات بمثابة خطوة إيجابية لـ"تصحيح المسار" تصب في صالح المنظومة بأكملها، وستؤدي إلى إنهاء الفوضى الإعلامية، يؤكد آخرون أنها "شكلية" غير مؤثرة في ظل غياب الحرية والإعلام المهني الجاد، وستؤدي إلى "تغول صلاحيات الهيئات الإعلامية على السياسات التحريرية"، التي يضعها ملاك الفضائيات ومسؤولي الصحف.
إنهاء حالة الفوضى
"هذه القرارات ستنهي حالة الفوضى في البرامج الطبية والرياضية والدينية، لكنها ستحدث حالة من الارتباك الموقت في المؤسسات والقنوات الإعلامية حتى تلتزم، وتعيد صياغة سياستها التحريرية من جديد"، هكذا يعقب أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة سامي عبدالعزيز، منوهاً بأن تلك القرارات ستؤدي إلى "حدوث تراجع متدرج في كل المواد الإعلامية الخارجة عن السياق المهني والمألوف".
ويرى عبدالعزيز، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن التزام المؤسسات والقنوات الإعلامية بهذه القرارات سيأخذ بعض الوقت، ولن يحدث التغيير المطلوب سريعاً، لكن بصورة تدريجية، مشدداً على ضرورة أن تتمتع المؤسسات الإعلامية وملاك القنوات الفضائية بما يسمى "المسؤولية المؤسسية"، بحيث تتحلى بقدر من الاحترافية، وأن تكون منتبهة وواعية لكل التطورات الجديدة وقادرة على التكيف معها.
ويلفت أستاذ الإعلام إلى أن بعض القنوات الفضائية قد ترى أن تغيير النمط الإعلامي السائد لديها "قد يتسبب في عزوف الرعاة والمعلنين عنها ما قد يؤدي إلى حدوث نوع من المقاومة النسبية للالتزام بتنفيذ تلك القرارات، وهنا يجب الاحتكام إلى تطبيق القانون".
ويوضح عبدالعزيز أن هناك ما يسمى "منظم الإعلام" في كل بلدان العالم، الذي يختص بضبط المشهد الإعلامي ومراقبة أدائه، ويحظر على مسؤوليه تولي أية مناصب إعلامية أو تقديم برامج أو كتابة مقالات رأي، مقترحاً على المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام استضافة رؤساء القنوات الفضائية في حلقة نقاشية موسعة، للتباحث حول تلك القرارات وآليات تنفيذها، وكذلك إعداد دراسات تحليلية وعمل تحليل مضمون وتقييم دائم ودوري لمتابعة مدى التزام المؤسسات الإعلامية بهذه المعايير وعدم الخروج عنها.
مرصد إعلامي
ترى أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة ليلى عبدالمجيد أن تلك القرارات "خطوة على الطريق الصحيح، وتهدف إلى الصالح العام"، متسائلة، "هل يعقل أن تصل مدة بعض البرامج بالفضائيات إلى 3 ساعات متواصلة، وأن يجري طرح قضايا طبية وعلاجية عبر برامج مدفوعة الأجر وتغذية التعصب الجماهيري في البرامج الرياضية؟".
وتشير أستاذ الصحافة بكلية الإعلام، خلال حديثها إلى "اندبندنت عربية"، إلى أن مسؤولي الهيئات الإعلامية "يمتلكون صلاحيات لمعاقبة المخالفين وفقاً للقانون، والهيئات الإعلامية من حقها إنذار المؤسسات الإعلامية ووقف البرامج وغلق مواقع وصحف إذا ما خالفت الضوابط والقواعد المقررة"، مردفة، "أتمنى أن يُضبط المشهد الإعلامي بالتوافق لا بالعقوبات، وأن تكون هناك حملات توعية مستمرة بخطورة الانحرافات التي يعانيها المشهد الإعلامي".
وتطالب ليلى بضرورة إنشاء مرصد إعلامي بالتعاون بين المجلس الأعلى للإعلام وكليات الإعلام والباحثين لرصد أي خروقات أو انتهاكات لمواثيق الشرف الإعلامي، قائلة، "المهمة شاقة على الهيئات الإعلامية وحدها، لأنها لا تمتلك طاقة بشرية كبيرة لكي تتمكن من مراقبة كل الفضائيات والصحف، وهو ما يتطلب ضرورة التنسيق والتعاون من أجل المتابعة الدورية والمستمرة". وتؤكد أن كثيراً من المؤسسات والقنوات الفضائية أصبحت تسعى وراء الترند والمشاهدات وقضايا الإثارة من دون الاهتمام بما يهم المشاهد، منوهة بأن كل البحوث والدراسات أثبتت أن زيادة مدة الفترة الزمنية للبرنامج تجعل المشاهد ينصرف عن المشاهدة، وقد يلجأ إلى منصات التواصل الاجتماعي حلاً بديلاً للحصول على ما يرغب في معرفته.
قرارات شكلية
"قرارات شكلية لن تكون مؤثرة في المشهد الإعلامي في ظل غياب الحرية ووجود إعلام مهني يمارس مهامه بصورة حقيقية وجادة"، هكذا يعقب الكاتب الصحافي ووكيل نقابة الصحافيين السابق جمال فهمي على قرارات الهيئات الإعلامية، مشيراً إلى أنه من غير المعقول إلقاء اللوم على مسؤولي الصحف والقنوات الفضائية بالتسبب في غياب المضمون المهني والمحتوى الجاد والاهتمام بالقضايا الهامشية السطحية مثل "قراءة الكف والفتاوى الدينية المضللة والبرامج الطبية غير الهادفة".
وحرص الدستور المصري الصادر عام 2014 على كفالة حرية الصحافة والإعلام، إذ أقرت مادته رقم 65 أن حرية الفكر والرأي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول والكتابة أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر، ثم جاءت المادة رقم 70 بالنص على كفالة حرية الصحافة والطباعة والنشر، كما حظرت المادة 71 فرض الرقابة المطلقة على الصحف ووسائل الإعلام، إلا في زمن الحرب أو التعبئة العامة، كما قيدت كذلك توقيع عقوبات سالبة للحرية على جرائم النشر، وضمنت المادة 72 استقلال المؤسسات الصحافية ووسائل الإعلام.
ويشير فهمي، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إلى أن هناك قيوداً عديدة مفروضة على ملاك الفضائيات والصحف تمنعهم من ممارسة القضايا الجادة والرصينة والموضوعية، مما أجبرهم على اللجوء إلى مواد التسلية والفكاهة والاهتمام بالقشور والقضايا الفرعية التي لا تجذب اهتمام المشاهد، مردفاً: "المشهد الإعلامي الحالي مرتبك وفوضوي وصناعة الإعلام في مصر تعاني كثيراً المعوقات"، مطالباً بمزيد من حرية الرأي والتعبير وليس فقط تغييراً جزئياً يشمل البرامج الدينية والرياضية.
وتنوعت رسائل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن الإعلام بين اللوم والعتاب تارة، والإشادة والتوجيه تارة أخرى، ففي أغسطس (آب) من عام 2014 قال السيسي في إحدى المناسبات، "جمال عبدالناصر كان محظوظاً، لأنه كان يتكلم والإعلام كان معاه (يسانده)"، وفي ديسمبر (كانون الأول) من عام 2018 انتقد السيسي الإعلام، قائلاً، "لم أجد في الإعلام من يتناول الأمور لتشكيل منطق وموضوعية لدى الناس، لا بد من تشكيل وعي وفهم حقيقي للمواطنين، لتكون أمامهم الصورة كاملة".
وفي العام التالي طالب الرئيس المصري الإعلام بـ"المذاكرة الجيدة" عندما يتحدث في الشأن العام والقتال من أجل مصر، وفي مايو (أيار) الماضي وجه وسائل الإعلام إلى العمل على توضيح كل الحقائق أمام الرأي العام، واستعراض التحديات التي تواجه الدولة في تنفيذ المشاريع القومية الكبرى، والمساهمة في بناء الوعي المجتمعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تضارب اختصاصات
لم يُخفِ عميد كلية الإعلام السابق بجامعة القاهرة حسن عماد مكاوي تخوفه وقلقه من تلك القرارات، معتبراً أنها ستؤدي إلى "تغول صلاحيات رؤساء الهيئات الإعلامية على السياسات التحريرية" التي يضعها ملاك الفضائيات ومسؤولو الصحف، مردفاً، "من حق رؤساء الهيئات الإعلامية وضع الضوابط والمعايير التي تلتزمها كل المؤسسات الإعلامية ومعاقبة مخالفيها بعقوبات متدرجة، لكن ليس من اختصاصهم تحديد المدد الزمنية للبرامج، فهو أمر يخضع للسياسة التحريرية لكل مؤسسة إعلامية، ولا يجوز أن تتداخل الاختصاصات وتتضارب الصلاحيات، ويجب أن تكون متوافقة مع القواعد والأطر المهنية والمؤسسية المتعارف عليها".
ويرى مكاوي، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن نيات من يديرون الهيئات الإعلامية طيبة وقراراتهم ستصب في المستقبل في صالح المشاهد والمجتمع والمنظومة الإعلامية برمتها في حال الالتزام بتطبيقها، مشيداً بقرار منع الفقرات التحكيمية من البرامج والإذاعات كونها تسهم في زيادة حدة التعصب الرياضي وزيادة التشاحن والبلبلة والفرقة بين الجماهير.
وكان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قد أصدر في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قراراً بتعيين رؤساء الهيئات الإعلامية 4 سنوات، إذ تولى المهندس خالد عبدالعزيز رئاسة المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وأحمد المسلماني رئيساً للهيئة الوطنية للإعلام، والإبقاء على عبدالصادق الشوربجي رئيساً للهيئة الوطنية للصحافة.