ملخص
عاد الزوار اللبنانيون إلى دمشق لاستكشاف الأوضاع في أعقاب سقوط بشار الأسد. جاء ذلك بعد عشرين عاماً من الخصام والقطيعة التي نشأت في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري بتاريخ 14 فبراير 2005، واتسعت الفجوة في أعقاب القمع الذي مارسه النظام البعثي بحق معارضيه في أعقاب اندلاع الثورة في 15 مارس 2011.
"انتظرنا 20 عاماً لزيارة الشام مجدداً"، بهذه الجملة تختصر سهى طبيعة العلاقة بين قسم كبير من اللبنانيين وسوريا، بعد أن لعبت الخلافات السياسية دوراً كبيراً في تعميق الشرخ بين البلدين. خلال تلك الفترة، وقعت اغتيالات وازدهر سلاح التصفية الجسدية، واندلعت حروب عدة، وتغيرت أنظمة، وتبدلت تحالفات، ولكن الثابت المشترك بين لبنان وسوريا هو التراجع الكبير على مستوى الاقتصاد ونوعية الحياة والاستقرار الاجتماعي على ضفتي الحدود، إلا أن صدمة كبيرة، شهدتها المنطقة مع سقوط نظام البعث وفرار عائلة الأسد والنخبة المتحالفة معها إلى موسكو وأرض اللجوء، لتنشط بعدها الرحلات الاستكشافية والزيارات العائلية باتجاه الأراضي السورية.
رحلة كسر الغموض
"زحمة غير مسبوقة" يشهدها معبر المصنع الحدودي بين لبنان وسوريا، إذ أدى زلزال سقوط الأسد إلى تنشيط العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين البلدين. ولكنه في المقابل، كشف عن عدم الاستعداد لاستقبال أعداد هائلة من الزائرين بين البلدين عبر المعابر النظامية. في الجانب اللبناني، ينكبّ عناصر الأمن العام اللبناني لإنجاز معاملات العبور والتدقيق في بيانات المغادرين إلى سوريا. فيما يشكو مواطنون من الازدحام، ويقول أحد العابرين "أمضينا ساعتين من الزمن بين انتظار ووقوف في الطابور"، "تخللها تدافع بين المسافرين"، و"ارتفاع الأصوات بين الحين والآخر". وتكررت هذه التجربة السلبية والانتظار الطويل في طريق العودة إلى بيروت، حيث لاحظ العائدون وجود عشرات السوريين الهاربين الذين يفترشون الأرض بسبب عدم السماح لهم بدخول لبنان لعدم امتلاكهم وثائق وأوراق ثبوتية صحيحة.
ما إن تعبر الجانب اللبناني حتى تبدأ المشكلات السورية في الظهور، أولى تلك المشاهد قيام مجموعات من السوريين بالعبور نحو لبنان عبر التلال والجبال المحاذية للمعبر الشرعي، بعد مئات من الأمتار يصل المسافر اللبناني إلى ما كان يُفترض به أن يكون نقاط تفتيش سورية، ليتفاجأ بأنها فارغة، وحدهم بعض العناصر التابعين لـ "هيئة تحرير الشام" يحاولون القيام بالحد الأدنى من التدقيق. يتوجه عنصران بملابس يظهر عليها أنها عسكرية لكنها غير موحدة إلى المسافرين، يسألون عن المنطقة التي يأتي منها المسافر والوجهة. كما يطالبون بالاطلاع على الوثائق الرسمية، الهويات أو جوازات السفر اللبنانية.
يستكمل اللبناني رحلته نحو دمشق، وعلى الطريق مشاهد من المعاناة اليومية للمواطن السوري، وما أنتجه النزاع المسلح المندلع منذ 13 عاماً في سوريا. تنتشر على جوانب الطرقات بسطات بيع "غالونات البنزين"، على بعد أمتار، يظهر بائعو قوارير الغاز المنزلي، ولكن الصدمة الكبرى بدت مع مبادرة أشخاص بعرض الخبز على المارة. تتجه السيارة نحو قلب المدينة، حيث تظهر ملامح الفوضى العمرانية وتراجع الخدمات. ويقول سالم، وهو شاب لبناني عشريني، "جئنا إلى دمشق للتأكد من سقوط النظام السوري الذي حرمنا من زيارة الجارة سوريا، ودفعنا الفضول للقدوم واستكشاف الأوضاع ميدانياً".
أجواء الميلاد مع العهد الجديد
ما إن يصل الزائر إلى حي باب توما بدمشق، حيث يكتشف اقتران أجواء الميلاد مع العهد الجديد، والتنوع الثقافي، والاحتفالات الجماعية. في زواريب باب توما، يظهر الغنى الحضاري، وتحوّل أعداد كبيرة من المنازل العربية إلى مطاعم تراثية وفنادق. ولكن في المقابل، هناك تراجع واضح في الخدمات العامة، إذ أدى انقطاع التيار الكهربائي إلى عودة المولدات الكهربائية التي ملأ أزيزها الأرجاء. صعوداً نحو القيمرية التي تنطق جدرانها حباً وعشقاً لدمشق، بعد أن كانت رمزاً للتنصت وقمع الحريات. كما تنتشر المطاعم التقليدية، والحمامات العربية، والمهن التراثية. على أعتاب الجامع الأموي، أعاد التحرير النقاش السياسي إلى المقاهي الشعبية، كما نشط عمل المصورين الفوتوغرافيين، ناهيك عن بائعي المفرقعات التي كانت تصنّف "سلعة ممنوعة".
ما إن تبلغ الجامع الأموي حتى تشد الأبصار صور مئات المفقودين، والنعوات التي ترثي رحيل سجناء في صيدنايا. ويشهد الجامع التاريخي الكبير ازدحاماً استثنائياً، ويكشف أحد الموظفين لـ "اندبندنت عربية" عن تبدل كبير بفعل كسر الطوق الأمني على حركة المصلين والزائرين، مؤكداً أنه "في السابق، لم تكن هناك حرية دخول وخروج إلى صحن الجامع، وكانت تخضع للرقابة، وكان لا يتواجد إلا العشرات في أحسن الأحوال". من جهته، يلفت حسن طه، وهو دليل سياحي لبناني إلى أنه "في كثير من الأحيان، كانت المجموعات تصل إلى الشام القديمة والجامع الأموي، وتُمنع من الدخول، أو يُفرض عليها رسم غير قانوني من خلال الشبيحة أو عناصر أمنية".
ويختزل الجامع الأموي التنوع الحضاري والتاريخي منذ الحقبة الأموية إلى زمن الإمام الغزالي وما تلاها، ويحتضن اختلافات المذاهب والمدارس الإسلامية، وموضع رأس الإمام الحسين بن علي. وفي مكان ليس بعيد، تستمر أعمال تجميل مقام السيدة رقية بنت الحسين.
السوري يتنفس مجدداً
شيء ما تغيّر في دمشق، هذا ما نلاحظه في سوق الحميدية، حيث تنفس التجار الصعداء، وكذلك الزوار. تملأ أعلام سوريا الجديدة وصور "عبد الباسط الساروت" الأرجاء، وعلى الملابس والتذكارات. ننطلق إلى سوق الذهب والبزورية، نتلمس مهارة التاجر السوري في عرض البضائع والمنتجات. نلتقي يوسف، وهو تاجر وصاحب مصنع للشوكولا، الذي يقول إن "عبئاً زال عن صدر المواطن السوري"، "لم يكن بمقدورنا أن نعبّر أو حتى أن نفكر، ومن يجرؤ على الانتقاد فمصيره الإخفاء والقمع". ويضيف، "قضى النظام على الصناعات التي كانت أيقونية في سوريا، وتعرضنا لحصار وعوائق، ورسوم بحجة دعم وتمويل الجيش"، و"تخيّل أنه كان ممنوعاً علينا استيراد أوراق الزينة والتغليف الفاخرة".
ويختصر تاجر آخر، يدعى لؤي، المشهد السوري بالقول "نعلم أن التغيير وعودة الازدهار يحتاج بعض الوقت، ولكن خطوة مهمة تجلت بإسقاط النظام، ولاحقاً تبدأ مرحلة تحسين البنى التحتية والخدمات من كهرباء وماء وصناعة وأمن وقضاء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
زيارة التاريخ
انعكست أزمة سعر الصرف على أسعار السلع، محدثةً إرباكاً في صفوف الزائرين حيث بلغ سعر الصرف الدولار الأميركي الواحد، 13500 ليرة سورية. ويعلّق لبنانيون "إنها المرة الأولى التي نختبر وضعاً أسوأ من عملتنا الوطنية، والأمر ناجم عن عدم وجود فئات كبيرة من الأوراق النقدية السورية، حيث حصلنا على 7 كدسات من الأموال لقاء 100 دولار أميركي". انعكس هذا الواقع على سلوك البعض، واتضح أن "الأسعار ليست برخيصة، وتوازي أسعار السلع الموجودة في لبنان".
أمام هذا الواقع، ينصح المهندس باسم زودة أن تتسم رحلة دمشق بالطابع الاستكشافي، مشيراً إلى أنه "منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري – 20 عاماً، لم نأت خلالها إلى سوريا، لذا فإن للزيارة نكهة خاصة، وكان لا بد لها أن تتخذ طابعاً حضارياً وثقافياً، وألا يضيع الزائر وقته بزيارة أماكن يوجد مثلها أو مواقع أفضل منها في لبنان. من هنا، لم نتوجه إلى المولات، وكرسنا وقتنا في دمشق القديمة التي تختزن إرثاً تاريخياً وعمرانياً هائلاً". وأضاف زودة، "في دمشق عاصمة بلاد الشام، يقف الزائر وجهاً لوجه أمام حقبات تاريخية عظيمة، حيث يعايش التاريخ الإسلامي من الجامع الأموي إلى ضريح السلطان الناصر صلاح الدين، والقائد بيبرس، والمدارس والخانات، وتناول الطعام والمأكولات الشعبية. كما يمكن للزائر مشاهدة الآثار الحضارية الرومانية، والمسيحية، ناهيك عن الآثار المملوكية، والعثمانية".
ويلفت زودة إلى أنه "كان هناك شعور نسبي بالأمان، ولكن هناك مظاهر شبيهة بالواقع اللبناني، حيث يكتنف الغموض مستقبل البلاد".
نكهة شامية
يشكل المطعم الشامي والحلويات عاملاً جاذباً للزائر اللبناني والأجنبي. وتشير إحدى السيدات إلى أن "شراء الحلويات الشامية هو محطة جوهرية في الزيارة"، مضيفةً أنه "عندما علم الأقربون بقرار زيارتي إلى الشام، طلبوا مني إحضار البرازق والشعيبيات بالفستق والجوز والبقلاوة، إضافة إلى الجبنة والسمن العربي والبهارات". وشهدت المطاعم المشهورة ومتاجر البوظة العربية زحمة زوار من لبنان. وعبّر زائرون عن رضاهم لناحية أسعار الطعام في المطاعم السورية التراثية، وفواتير المقاهي والقهاوي، وخدمات الحمامات العربية.
رحلات ناشطة
لاحظ منظمو الرحلات السياحية إقبالاً كثيفاً على الرحلات إلى سوريا بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، وكان لافتاً للبعض منهم تغيّر تركيبة انتماءات الزائرين، بحسب حسن طه، مما يشي بانعكاس العلاقات السياسية والطائفية على هوية الزائرين، ليطغى سكان المناطق المتعاطفة مع السلطة الجديدة على مَن سواهم، في موازاة المطالبة بتنظيم رحلات إلى مناطق جديدة مثل حلب وإدلب.
ويوضح طه "كان هناك خوف كبير لدى الجمهور من زيارة سوريا"، و"عندما بدأت بتنظيم الرحلات، واجهت معارضة شديدة من الأهل والعائلة لأن والدي كان ملاحقاً من النظام السوري، ولكن أطلقنا المشروع برحلات محدودة"، مستذكراً اضطراره لإعادة أعداد كبيرة من الركاب عن الحدود تجنباً لملاقاة مصير سيئ في حال دخولهم إلى سوريا.
ويلفت حسن طه، "كنا ننظم رحلات إلى صيدنايا ومعلولا في المواسم الدينية، ولكن لم نكن نعلم بوجود سجن"، جازماً "لو كنا نعلم بوجود مكبس ومواقع تعذيب، ما كنا قمنا بتلك الخطوة وتحملنا المغامرة". وتحدث عن تقاضي العناصر الأمنية التابعة للنظام السابق، عمولات وأموال من الزائرين، على الحواجز المنتشرة على طول الجغرافيا السورية، فيما الآن هناك حرية حركة بعد تفكيك الأجهزة الأمنية، حيث أصبح بمقدور اللبناني زيارة أي منطقة سورية ودخول دمشق بانسيابية ساعة يشاء".