ملخص
هكذا توسعت الولايات المتحدة عبر شراء لويزيانا ومانهاتن والاستحواذ على فلوريدا، فهل يفعلها ترمب مجدداً؟
على رغم أن مساحة الولايات المتحدة الأميركية تبلغ نحو 10 ملايين كيلومتر مربع والسفر بالطائرة بين نيويورك في أقصى الشرق وكاليفورنيا في الغرب يستغرق نحو ست ساعات بالطائرة، وعلى رغم المساحات الواسعة والشاسعة من الصحاري والأراضي غير المأهولة بالسكان، يبدو أن فكر "الامتداد الإمبراطوري" و"التمدد الجغرافي" يشاغب عقل الرئيس الأميركي دونالد ترمب في ولايته الجديدة.
لم يكُن "كريسماس" بالنسبة إلى ترمب فرصة لبعث رسائل التهنئة الروحية والأخلاقية بالعام الجديد أو الميلاد المجيد، وإنما جاءت رسائله التواصلية ممثلة لخريطة طريق من التوسع والتمدد الجغرافي كتبها عبر منصته الخاصة "تروث سوشيال" وبلغ عددها 30 رسالة أو تغريدة لم تحمل سوى المكايدة السياسية لمن سماهم "اليساريين المتطرفين المجانين الذين يحاولون باستمرار عرقلة نظام محاكمنا وانتخاباتنا"، بحسب تعبيره.
من ناحية ثانية، بدا في مزاج إمبراطوري بصورة لافتة للنظر، لا في تهنئات "كريسماس" فحسب، بل منذ فوزه بالانتخابات خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فطرح فكرة الاستحواذ على غرينلاند واستعادة قناة بنما وضم كندا وربما غزو المكسيك، مما أثار بالفعل الذعر بين قادة تلك الدول.
تبدو فلسفة ترمب مخيفة حقاً، ذلك أنها تجمع بين مثلث غريب وعجيب يشتمل على أفكار تبدأ من عند التصيد، وتمتد عبر التفاوض، حتى تصل إلى حد الترهيب.
تغريدات الرئيس ترمب ألقت في واقع الأمر الضوء على بعدين تاريخيين، الأول موصول بتذكير الأميركيين والعالم بكثير من الصفقات الجغرافية التي عقدتها حكومات أميركا المتعاقبة عبر أكثر من 200 عام، ومن خلالها اتسعت الرقعة الجغرافية للبلاد بصورة كبيرة، والثاني يتعلق بالسياسة الخارجية التالية للرئيس ترمب، إذ يقول أشياء جامحة ويتصرف بناء عليها في بعض الأحيان، وكثيراً ما لا يفعل.
نظام عالمي بلا أهمية
يعنّ للمرء أن يتساءل "ماذا لو تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالمنهجية التوسعية نفسها ذات السمات الإمبريالية تجاه أيّ من دول الجوار، بخاصة مناطق أوروبا الشرقية؟"، فالمؤكد أنه لو فعل ذلك لكانت أبواب الجحيم انفتحت عليه، أما أن يفعل ترمب ذلك فما من أحد يصد أو يرد، حتى لو بدا أن ترمب لا يولي اهتماماً كبيراً لأبجديات "النظام العالمي" في صورته الراهنة، ويعتقد بأن إخراج الشركاء الأجانب عن التوازن، أو سحقهم عندما يكون ذلك ممكناً، يخدم المصالح الأميركية على نحو أفضل.
بدا النظام العالمي مصدوماً خلال الأسابيع الأخيرة جراء تصريحات ترمب الذي نشر صورة له تظهره كـ"رجل العام الوطني"، وصوراً أخرى يسخر فيها من الرئيس السابق باراك أوباما. هل هذه إرهاصات فوضى تتجاوز واشنطن إلى بقية أرجاء العالم؟.
تغريدات ترمب لا توفر رغبته الجامحة في شراء جزيرة غرينلاند، مما جعل الدنمارك وحكومتها تتحسس رقبتها، ومنها انطلق مبدياً تذمراً شديد الصخب من الرسوم التي تدفعها السفن الأميركية خلال عبورها هناك، مما ذكّر سكان بنما بمغامرات أميركية سابقة بلغت حد الغزو المسلح واعتقال الرئيس البنمي إيمانويل نورييغا في عهد الرئيس جورج بوش الأب عام 1989.
لم تتوقف الأحلام التوسعية لترمب ولو جاءت في صورة هزلية عند غرينلاند أو بنما، بل قفزت تجاه دولة كبرى من حيث المساحة في الأقل، أي كندا، بعدما وصف رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودر بأنه "حاكم كندا" وليس رئيس وزرائها، قائلا إنه "في حال أصبحت كندا ولايتنا رقم 51 فإن ضرائبها ستنخفض بأكثر من 60 في المئة، وستتضاعف أعمالها على الفور".
ولم يعُد الأمر بالنسبة إلى كندا مجرد تفكير في فرض رسوم جمركية عالية فحسب، بل تطلع إلى ضمها بصورة أو بأخرى، كما فكر صدام حسين في ضم الكويت وجعلها المحافظة الـ19 للعراق.
وأفكار ترمب وتغريداته لم يعُد ينظر إليها على أنها نوع من المزاح الدبلوماسي الثقيل إن جاز التعبير، بل مقدمة لإرهاصات مقلقة لولاية ترمب الثانية، مما تبدى من خلال ردود الفعل الرسمية لقادة وزعماء.
على سبيل المثال رد رئيس وزراء الدنمارك موتي إيجيدي على ترمب بالقول "غرينلاند ملك لنا، نحن لسنا للبيع ولن نكون كذلك أبداً. يجب ألا نخسر نضالنا الطويل من أجل الحرية".
والمخيف هو رد ترمب على رئيس بنما خوسيه راؤول مولينو، فبعد أن أعلن الأخير أن بنما لن تسلم متراً مربعاً واحداً من القناة، عقّب ترمب بالقول "سنرى ذلك".
ولاحقاً نشر ترمب صورة للعلم الأميركي يرفرف فوق القناة، وكتب تحتها "مرحباً بكم في قناة الولايات المتحدة"، واستشهد بالصين التي تهيمن بصورة متزايدة على التجارة في جميع أنحاء الأميركتين كسبب للسيطرة على القناة.
خريطة ترمب التوسعية تشاغب كذلك المكسيك، لا سيما بعدما ناقش حلفاء ترمب فكرة "الغزو الناعم" المحتمل لها كما عبّر أحد مستشاريه عن ذلك في تصريح إلى مجلة "رولينغ ستون"، وقد يتضمن ذلك استهداف الـ"كارتيلات" من خلال عمليات القوات الخاصة عبر الحدود أو الضربات بطائرات من دون طيار.
والحديث عن المكسيك في واقع الأمر تسبب في انزعاج مكسيكي دعا الرئيسة كلوديا شينباوم إلى اعتبار ما يروج من أخبار عن بلادها أقرب إلى "الفيلم السينمائي"، معلقة بالقول "بالطبع نحن لا نوافق على غزو أو وجود هذا النوع من الأشياء في بلادنا".
لكن الكارثة تتمثل في أن مرشحي ترمب لإدارة وزارتي الخارجية والدفاع (البنتاغون) ومجلس الأمن القومي وسياسة الحدود أيدوا جميعاً نوعاً من أنواع العمليات العسكرية الأميركية ضد عصابات المخدرات. وهنا يطفو التساؤل "هل يعني شعار ’أميركا أولاً‘ عهداً جديداً من الإمبريالية الأميركية التي يمكن أن تمتد من الغزو الناعم إلى الغزو العسكري المسلح؟.
الاستحواذ كضرورة مطلقة
لم تكُن هذه المرة الأولى التي تداعب فيها ترمب فكرة الاستحواذ على جزيرة غرينلاند، ففعل ذلك في ولايته الأولى مما جعل بعض الأصوات ترتفع في تهكم واضح "هل غيّر ترمب نشاطه من صفقات العقارات إلى صفقات الجزر؟".
والسؤال على رغم صبغته التهكمية يميط اللثام عن قضية مثيرة تتعلق بالموقع والموضع، لا سيما أن الولايات المتحدة لديها من المساحات الشاسعة والواسعة الكثير جداً والقريب من القطب الشمالي بخاصة في آلاسكا، مما يدفعنا إلى البحث عميقاً في سر الهوس الذي يحيط بترمب ناحية غرينلاند.
وضمن تغريداته المثيرة عشية الميلاد، كتب ترمب أنه "من أجل تحقيق الأمن القومي والحرية في مختلف أنحاء العالم، تشعر الولايات المتحدة الأميركية بأن ملكية غرينلاند والسيطرة عليها ضرورة مطلقة"، وكان هذا بمثابة عودة غير مرغوب فيها لولايته الأولى عندما كانت عملية صنع السياسات تخضع لأهواء الرئيس، وبمثابة اعتراف بأن عدد الأشخاص القادرين على ثنيه عن أكثر مشاريعه غرابة هذه المرة سيكون أقل.
عام 2019، ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" للمرة الأولى أن ترمب أبدى اهتماماً بشراء الجزيرة الجليدية الضخمة، ومع تنامي الخلاف الدبلوماسي مع الدنمارك كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" أنه "بينما كان السيد ترمب يسخر منذ فترة طويلة من بناء الدول، فإن مغازلته لشراء الدول تبين أنها أكثر جدية مما تصوره كثيرون في الأصل. لقد كان يتحدث بصورة خاصة عن شراء غرينلاند لأكثر من عام، حتى إنه قدم تفاصيل إلى موظفي مجلس الأمن القومي لدراسة الفكرة".
فما الذي يغري ترمب بهذه الجزيرة الجليدية النائية ويدفعه إلى التفكير في إرغام الدنمارك على بيعها بالضد من رغبتها؟.
الثابت أن هناك منصات عدة للانطلاق في التفكير، والبداية عند المقاربة البسيطة الأولية لما في هذه الجزيرة من معادن أرضية نادرة تشكل أهمية بالغة للتصنيع التكنولوجي العالمي، وربما كذلك الوصول إلى أقرب نقطة جغرافية من قاعدة "بيتوفيك" الفضائية، وهي أقصى نقطة عسكرية شمالية تابعة لـ"البنتاغون".
وفي الأسباب الماورائية كذلك قطع الطريق على كل من الصين وروسيا اللتين تقتربان الهوينا من القطب الشمالي، لا سيما في ظل ظروف مناخية تساعدهما على فتح ممرات في الثلوج التي تذوب يوماً تلو الآخر، مما يعني صراعاً قطبياً حتمياً في تلك المنطقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن أيّاً يكُن السبب الرئيس وراء اندفاعة ترمب للاستحواذ على جزيرة غرينلاند، فإن الدنماركيين بدأوا بالفعل ينظرون إلى تصريحات ترمب بجدية، وأعلنت الحكومة الدنماركية عن زيادة هائلة في الإنفاق الدفاعي في غرينلاند بعد ساعات من تكرار الرئيس المنتخب رغبته في شراء الأراضي الواقعة بالقطب الشمالي.
وصرح وزير الدفاع الدنماركي تروبلز لوند بولسن بأن الحزمة الدفاعية بلغت ما لا يقل عن مليار ونصف المليار دولار، مضيفاً أنها ستسمح بشراء سفينتي تفتيش جديدتين وطائرتين من دون طيار طويلتي المدى وفريقين إضافيين للزلاجات التي تجرها الكلاب.
كما ستشمل الموازنة، وفق بولسن، تمويل زيادة عدد الموظفين في القيادة القطبية الشمالية بالعاصمة نوك، وترقية أحد المطارات المدنية الرئيسة الثلاثة في غرينلاند للتعامل مع طائرات "أف 35" المقاتلة الأسرع من الصوت، وقال "إننا لم نستثمر بصورة كافة في القطب الشمالي لأعوام عدة، والآن نخطط لوجود أقوى".
فهل تعكس هذه الاستعدادات العسكرية من جانب الدنمارك احتمالات حدوث مواجهة مسلحة مع الولايات المتحدة الأميركية بالفعل؟.
المعروف أن الديمقراطيات لا تحارب بعضها بعضاً، فهذه هي القاعدة السائدة في العالم الليبرالي، لكن مع الرئيس ترمب فإن غير المتوقع يحدث عادة. لكن هل يتسع المشهد ليشمل صراعاً مقبلاً مع كندا بدورها؟.
حديث جرس الإنذار
تبدو مسارات العلاقات الأميركية - الكندية وكأنها جزء من تناقضات القدر، ذلك أنه وفيما كان الكنديون قبل بضعة أشهر يخشون من الحرب الأهلية التي يمكن أن تنشأ بين الأميركيين وبعضهم بعضاً جراء الصدام الذي كان متوقعاً بين الديمقراطيين والجمهوريين، ها هم يستيقظون على ما يكاد يكون جرس إنذار مخيف بالنسبة إلى مستقبل بلادهم.
صباح الأربعاء في الـ25 من ديسمبر (كانون الأول) الماضي وعبر موقعه "تروث سوشيال"، قال ترمب "لا أحد يستطيع أن يجيب عن سبب دعمنا لكندا بما يزيد على 100 مليون دولار سنوياً؟ هذا لا معنى له".
وأضاف أن "كثيراً من الكنديين يريدون أن تصبح كندا الولاية رقم 51، وهذا من شأنه أن يوفر عليهم مبالغ هائلة من الضرائب والحماية العسكرية. أعتقد بأن هذه فكرة رائعة، الولاية رقم 51". فكيف استقبل الكنديون هذه التصريحات الترمبية؟.
في وقت مبكر من بعد ظهر الأربعاء الماضي، رد نائب رئيس الوزراء السابق ورئيس وزراء مقاطعة كيبك جان شارست على تغريدات ترمب، واصفاً إياها بأنها "جرس إنذار".
وكتب شارست في منشور على موقع "إكس" أنه "يجب على كل كندي بغض النظر عن رأيه في رئيس الوزراء أو انتمائه السياسي أن يشعر بالإهانة الشديدة من تصريحات الرئيس ترمب".
شارست بدا وكأنه يستدعي روح المواجهة والتحدي لدى مواطنيه بالقول "لقد كنا لفترة طويلة راضين عن علاقاتنا مع الولايات المتحدة وبقية العالم. نحن الآن بحاجة إلى الاتحاد والارتقاء إلى مستوى هذه المناسبة التاريخية من أجل تشكيل مستقبل كندا".
هل بدأ ترمب كما يقال بـ"رقصة النصر" على الحدود الأميركية- الكندية؟ وهل هذه الرقصة تزعج الكنديين بالفعل؟.
الشاهد أن إشكالية كندا في وقت سابق كانت تتعلق بفكرة الحدود والجمارك، لهذا ففي وقت مبكر من فوز ترمب بولاية جديدة، كانت حكومة رئيس الوزراء ترودو تعلن عن مجموعة من التغيرات الجديدة بدءاً من نشر مروحيات جديدة على الحدود، إلى ضوابط الهجرة وقواعد جديدة لمكافحة غسل الأموال وتشكيل فرقة عمل مشتركة بين كندا والولايات المتحدة لمكافحة مخدر الـ"فنتانيل" المهرب من الصين إلى الداخل الأميركي.
وكانت هذه الإجراءات هي الطريق الذي يأمل من خلاله الكنديون في حمل ترمب على التراجع عن تهديده بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المئة.
اليوم يبدو التساؤل مختلفاً تماماً بمعنى أن القضية لم تعُد مجرد الحديث عن الجمارك وإشكالات الحدود التقليدية، وإنما عن فكرة بقاء كندا مستقرة ومستقلة بعدما بدأ ترمب بمغازلة الكنديين، والخوف من أن الذي يعتبر اليوم من قبيل الأفكار الهيولية المستحيلة يضحى في الغد واقعاً قابلاً للتطبيق.
ويبدو الكنديون متحفزين لمواجهة أفكار التوسع الإمبراطوري لدونالد ترمب، ولهذا سارع رئيس الوزراء ترودو إلى مقابلة الرئيس المنتخب في منتجعه الشهير في مار أي لاغو بولاية فلوريدا.
وحديث ترمب المازح على العشاء بدعوة الكنديين إلى الانضمام للولايات المتحدة بوصفهم الولاية 51 حاول بعضهم من طاقم حكومة ترودو التخفيف من شأنه.
وقال وزير المالية الفيدرالي دومينيك لوبلان الذي حضر اجتماع منتجع ترمب في أوائل ديسمبر الماضي، "كان الرئيس يروي النكات، كان يمازحنا، بالطبع لم يكُن تعليقه جاداً بأية حال من الأحوال في شأن هذه القضية".
غير أن تعليقاً مع صورة على "تروث سوشيال" كان كفيلاً بالتفكير الجدي في ما ينوي عليه ترمب في الأيام المقبلة بالنسبة إلى كندا.
في الثالث من ديسمبر الماضي، ظهرت صورة لترمب إلى جوار العلم الكندي، بينما يطل على منظر صخري يبدو أنه يضم جبل ماترهورن على الحدود بين سويسرا وإيطاليا، مع عنوان يقول "أوه كندا".
حاول ترودو أن يلتزم الدبلوماسية لكنه أقر في نهاية المشهد بأنه لا بد من الاستعداد لمجابهة خطط ترمب في ولايته الثانية، وذهب بعض الكنديين إلى إمكان التهديد بقطع الطاقة من كندا إلى أميركا حال دخول الرسوم الجمركية حيز التنفيذ.
كيف سيمضي سيناريو العلاقات بين ترمب وكندا؟ وهل يمكن بالفعل أن تكون تهويمات أميركا – ترمب اليوم هي حقائق تشمل ضم كندا في الغد؟.
قناة بنما وإعادة السيطرة
تبدو هذه منطقة جديدة من مناطق النزاع اللوجستي التي يتطلع الرئيس ترمب إلى مد نفوذه بل ربما سيطرته وهمينته عليها ليعيد تاريخ آخر مغامرة قامت بها واشنطن عام 1989 في بنما، حين تدخلت عسكرياً ملقية القبض على رئيسها في ذلك الوقت الجنرال إيمانويل نورييغا.
قصة قناة بنما واحدة من القصص العجيبة في السيرة الأميركية مع دول الجوار، فالقناة ممر مائي من صنع الإنسان يستخدم سلسلة من الأقفال والخزانات على مسافة 51 ميلاً ليقطع وسط بنما ويربط بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ. ويوفر هذا الممر المائي على السفن قطع مسافة إضافية تبلغ نحو 7000 ميل (أكثر من 1100 كيلومتر) للإبحار حول كيب هورن عند الطرف الجنوبي لأميركا الجنوبية.
وبحسب إدارة التجارة الدولية الأميركية، فإن القناة توفر للمصالح التجارية الأميركية قدراً كبيراً من الوقت وكلف الوقود، وتمكن من تسليم البضائع على نحو أسرع، مما يُعدّ مهماً بصورة خاصة بالنسبة إلى الشحنات الحساسة والسلع القابلة للتلف والصناعات ذات سلاسل التوريد في الوقت المناسب.
وعلى رغم أن الولايات المتحدة قامت ببناء القناة، فإن المثير أن صراعات كثيرة دارت بين الجانبين على ملكيتها وحق إدارتها، إلى أن شهد عام 1977 في عهد الرئيس جيمي كارتر التوقيع على اتفاقين والتصديق عليهما في العالم التالي.
الاتفاق الأول ويستمر إلى الأبد يعطي الولايات المتحدة الحق بالتصرف لضمان بقاء القناة مفتوحة وآمنة. أما الثاني، فينص على أن الولايات المتحدة ستسلم القناة إلى بنما في الـ31 من ديسمبر 1999، وهو ما حدث بالفعل.
وكانت إدارة القناة أكثر كفاءة في عهد بنما مقارنة بعهد الولايات المتحدة، فزادت حركة المرور بنسبة 16 في المئة بين السنوات المالية 1999 و2004. ووافق الناخبون في بنما على استفتاء عام 2006 سمح بتوسيع كبير للقناة لاستيعاب سفن الشحن الحديثة الأكبر حجماً، واستغرق التوسيع حتى عام 2016 وبلغت كلفته أكثر من 5.2 مليار دولار.
لكن لماذا أثار ترمب هذه الإشكالية من جديد؟.
يعتبر الرئيس الآتي إلى البيت الأبيض أن الولايات المتحدة تتعرض للخداع ولن تسمح بذلك، وقال عن معاهدة 1977 إنها "أعطت القناة إلى بنما بغبار. لقد تم منحها لبنما ولشعب بنما، لكنها تحوي أحكاماً ويجب أن تعاملنا بصورة عادلة، وهم لم يعاملونا على نحو عادل".
هل يمكن أن تسترد الولايات المتحدة اليد العليا على قناة بنما، وأن تخضعها مرة جديدة لقوتها ونفوذها وحضورها السياسي والعسكري؟.
المعروف أن الاتفاق الثاني الذي يعرف باسم "معاهدة الحياة" يمنح الولايات المتحدة الحق في التصرف إذا تعرض عمل القناة للتهديد بسبب صراع عسكري، لكنه لا يمنحها الحق بإعادة تأكيد السيطرة.
ويعتبر خورخي لويس كيجانو الذي شغل منصب مدير الممر المائي من 2014 إلى 2019، أن "جميع مستخدمي القناة يخضعون للرسوم نفسها على رغم أنها تختلف بحسب حجم السفينة وعوامل أخرى، ولا يوجد أي بند من أي نوع في الاتفاق يسمح باستعادة القناة من الناحية القانونية. لا توجد طريقة في ظل الظروف العادية لاستعادة الأراضي التي تم استخدامها سابقاً".
هل توجهات ترمب نحو بنما سببها الرئيس الحضور الصيني هناك؟.
في تهنئة "كريسماس" قال ترمب "والتهنئة أيضاً للجنود الصينيين الرائعين الذين يديرون قناة بنما"، مما يعني أن الصراع مع بنما هو جزء من الصراع مع الصين، وهذه قضية أخرى.
صراع حدود أم وجود؟
الملف الأخير الباقي من ملفات التمدد الأميركي المرتقب في عهد ترمب، يخص الجار القريب أي المكسيك التي حاول في ولايته الأولى أن يقيم عبرها جداراً عالياً ليمنع من خلاله تسلل المهاجرين غير الشرعيين وتجار المخدرات ومهربي الأسلحة والمجرمين كافة.
وخلال حملته الإنتخابية وبعد فوزه، لم ينفك ترمب يهدد بالفعل المكسيك بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المئة على كثير من صادراتها إلى الولايات المتحدة بما في ذلك الطماطم والأفوكادو والتكيلا وأجزاء السيارات، إذا لم تفعل حكومة الرئيسة كلوديا شينباوم مزيداً لوقف دخول المهاجرين والـ"فنتانيل" إلى الولايات المتحدة عبر حدودها الجنوبية مع المكسيك.
هذا الإجراء بحسب كثير من خبراء الاقتصاد لن يؤدي فقط إلى ارتفاع الأسعار بالنسبة إلى المستهلكين الأميركيين، بل من المحتمل أيضاً أن يؤدي إلى سقوط الاقتصاد المكسيكي بصورة حرة، مما يسفر بدوره عن مزيد من الهجرة إلى الولايات المتحدة.
لكن الأمر ربما يختلف بعد دخول ترمب إلى البيت الأبيض، ولن يظل الحديث وقفاً على فكرة نسبة الجمارك العالية التي يود ترمب أن يفرضها، بل على أمر واحتمالات التدخل العسكري الأميركي في المكسيك.
ويكتب جيمس بوسورث من مجلة السياسة العالمية أخيراً، "خذوا تهديدات ترمب بالتدخل العسكري الأميركي في المكسيك على محمل الجد". والمعروف أنه عندما بدأ المعلقون المحافظون في وقت سابق من عام 2024 باقتراح أن المرشح آنذاك دونالد ترمب سيستخدم الجيش الأميركي لمهاجمة عصابات المخدرات في المكسيك إذا فاز في الانتخابات الرئاسية، كان رد الفعل الأكثر شيوعاً هو عدم التصديق، فقد بدا أن إسقاط القنابل وإرسال قوات العمليات الخاصة لاغتيال "زعماء الكارتيل" بعيد المنال إلى الحد الذي لا تمكن مناقشته.
غير أنه تالياً بدا أن هناك احتمالات واسعة لأن يقوم ترمب بعمليات عسكرية بالفعل في الداخل المكسيكي مرة جديدة.
فهل بدأت بالفعل نقاشات جدية داخل إدارة ترمب حول احتمالات القيام بعمليات عسكرية داخل حدود المكسيك بمجرد أن يتولى المنصب؟.
وفق تقرير لمجلة "رولينغ ستون" يناقش ترمب وفريقه الانتقالي "غزواً ناعماً"، وتأتي هذه المحادثات بعدما وعد ترمب بشن حرب على عصابات المخدرات في المكسيك خلال ولايته الأولى، وكذلك خلال حملته الانتخابية لولايته الثانية.
وقال أحد كبار أعضاء فريق ترمب الانتقالي لمجلة "رولينغ ستون"، "إلى أي مدى ينبغي لنا أن نغزو المكسيك؟ هذا هو السؤال"، فيما صرّح مصدر آخر مقرب من الرئيس ترمب إلى المجلة بأن هذا الغزو الناعم من شأنه أن يتضمن قيام القوات الخاصة الأميركية باغتيال "زعماء الكارتيلات" في المكسيك. وتقول ثلاثة مصادر مطلعة على المحادثات الدائرة، إن ترمب صرح بأن الولايات المتحدة لديها "قتلة أشد صرامة منها"، ويفكر في نوع من العمليات العسكرية مماثل لتلك التي نفذت عندما قتلت القوات الأميركية زعيم "داعش" أبو بكر البغدادي عام 2019.
هل يمكن أن تكون عمليات التدخل في المكسيك بداية لتفكير في البقاء على الأراضي المكسيكية لوقت أطول، لا سيما أن المخاوف من النفوذ الصيني هناك تتزايد يوماً تلو الآخر؟.
يبدو أن هناك رجالات من نوعية ماركو روبيو المختار من ترمب وزيراً للخارجية يؤيدون أعمالاً عسكرية وحضوراً ربما شبه دائم على الأراضي المكسيكية.
فمنذ تصريحات ترمب المثيرة للجدل نهار "كريسماس" والعالم يتساءل، "هل ستكون ولاية ترمب الثانية امتداداً لفلسفة التوسع الجغرافية الأميركية عبر نحو 200 عام؟.
الشاهد أن الحديث عن الخصائص التوسعية الأميركية عبر المراحل التاريخية المختلفة يحتاج إلى حديث مطول قائم بذاته، حديث يشاغب أهم صفقة عرفتها أميركا للاستحواذ على أراضٍ جديدة، عبر صفقة شراء لويزيانا عام 1803 التي استحوذت من خلالها على قرابة 827 ألف ميل مربع من الأراضي الواقعة غرب نهر المسيسبي مقابل 15 مليون دولار.
وهناك أحاديث عن الحصول على فلوريدا من البريطانيين، من دون أن نغفل شراء ولاية آلاسكا من الروس بثمن بخس، أما القصة المثيرة فهي شراء المستوطنين الهولنديين جزيرة مانهاتن بخرز وبخور وزينات ثمنها لا يزيد على 24 دولاراً.
والجواب عن علامة الاستفهام المتقدمة يحتاج في الأقل إلى النظر في الأيام المئة الأولى من ولاية الرئيس ترمب الثانية.
دعونا ننتظر ونرى أي مستقبل ينتظر العالم في زمن الإمبراطورية الترمبية.