ملخص
كان الموسيقي الفرنسي كلود ديبوسي معارضا لدخول لاشتراك بلده في الحرب العالمير الأولى، لكنها عندما اندلعت انكب خلال شهور عدة على كتابة ألحان ثلاثة مفعمة بالوطنية ليكتمل إنجازه إياها في عام 1915
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى خلال النصف الثاني من عام 1914 كان الموسيقي الفرنسي كلود ديبوسي (1862 - 1918) يعيش الأعوام الأخيرة من عمره. صحيح أنه قبل ذلك كان قد أعلن وبقدر لا بأس به من الوضوح، أنه لا يؤيد دخول بلاده حرباً لن تسفر إلا عن الخراب والدمار، لكن وطنيته سرعان ما حركته بعد ذلك ليجد نفسه، ومنذ العام التالي لتلك الحرب التي لم يكن العالم كله قد عرف من قبلها مجازر جماعية تدنو من تلك التي راحت تتتابع ولا سيما في فرنسا ومن حولها، حتى قرر أن يقول ما كان يتوقع أن يكون مساهماته الأخيرة في خدمة بلاده، وأن يقوله باللغة التي يتقنها أكثر من أية لغة أخرى ويتقنها هو بأفضل مما يتقنها الآخرون: لغة الفن الموسيقي. وهكذا وجدناه ينكب خلال شهور عدة راحت خلالها الأحاسيس تتآكله، على كتابة تلك الألحان الثلاثة التي سوف يكتمل إنجازه إياها في عام 1915. وقد آثر أن يجعلها مقطوعات بسيطة سهلة العزف تكفي آلتي بيانو لتقديمها. ومع ذلك على رغم بساطة تلك المقطوعات وسرعة استيلاء جملها الموسيقية على الأفئدة، سيجمع النقاد والمؤرخون على اعتبارها وإن بمقادير متفاوتة "أهم ما كتبه المعلم الكبير في الأعوام الأخيرة من حياته ومن أكثر مؤلفاته الموسيقية تأثيراً وتسللاً إلى أفئدة المستمعين". ولعل اللافت في المقام الأول هو أن ديبوسي قد حرص على أن تكون المقطوعات الثلاث التي يتألف منها العمل من النوع الذي يعزف بأربع أيدٍ على آلتي البيانو، بل سيقول المؤرخون حتى، إن تلك المقطوعات الثلاث وبعد أن قدمت خلال الحرب مرات عدة بتلك الصياغة الأولية، انتقل ديبوسي إلى مستوى آخر من التعامل معها، حين راح يشتغل على اقتباسها أوركسترالياً، معلناً أنها ستكون بداية جديدة لخط تلحيني مختلف يزمع سلوكه. لكن الموت فاجأه قبل أن يفعل ذلك أو يوضحه حقاً، ومن ثم كان العمل المعنون "بالأبيض والأسود" في صيغته المنشودة، آخر إنجازات ديبوسي في مجاله الفني.
تأثيرات الموسيقى الجديدة
يرى المؤرخون على أية حال، ومن خلال تحليلهم المقطوعات الثلاث كما قدمت في حياة ديبوسي بالفعل، أن التطورات التي كان يريد إدخالها تبدو متأثرة بالتيارات الموسيقية الجديدة التي كانت قد بدأت بالحضور قبل ذلك بزمن وقابلها هو أول الأمر بشيء من التجاهل. والمرجح أن موسيقى رافيل وسترافنسكي كانت قد بدأت تشغل باله منذ زمن جاعلة إياه يسعى وبشكل خفي، إلى الابتعاد عن تلك الملامح الرومانسية التي وصفت حينها بالانطباعية، وجعلت موسيقاه تبدو متأثرة بملامح غامضة بعض الشيء ولا سيما من خلال لجوئه إليها في بعض لحظات عمله الكبير "بالياس وميليزاند" حتى وإن كان سيصرح دائماً بأن ذلك اللجوء لم يكن مريحاً له. ويبدو أنه أدرك فيما كان يصغي، ولو خفية، إلى موسيقى سترافنسكي ولا سيما رافيل، أين هي النقاط التي لم تكن مريحة له. ومن هنا نراه يجرب في "بالأبيض والأسود" تعديلات جديدة تحدد أطر الجمل اللحنية التي كانت في العمل السابق المشار إليه غائبة إلى حد كبير، مما جعل للمقاطع الأساس في الثلاثية الجديدة ثقلاً فيزيائياً حقيقياً، ربما كان يريد منه أن يكون عنواناً لموسيقى جديدة لم يمهله الموت حتى يحققها. غير أن تلك الملاحظات التقنية على إيجازها تبقى أقل أهمية في السياق الذي نتناول فيه هذا العمل هنا، من الأهمية التاريخية بل حتى السياسية لذلك العمل، "بالأبيض والأسود". ومن هنا نتوقف عند هذا العمل لنشير مع مؤرخي حياة ديبوسي وأعماله إلى أن مقطوعتيها الأولى والثالثة يمكن احتسابهما كنموذجين على ما كان ديبوسي يريد للموسيقى أن تكون عليه منذ ذلك الحين.
دور أساس للحرب
ولعل في وسعنا أن نقول هنا إن أولى السمات التي تطبع هاتين المقطوعتين هي ارتباطهما المباشر بالحرب، تلك الحرب التي كانت قد تحولت لتضحى أهم ما يشغل بال ديبوسي. ومن المؤكد أن الموسيقي قد أوضح ذلك بنفسه وبكل بساطة حين نجده يضع مقدمة صغيرة تتألف من أربعة أسطر شعرية للمقطوعة الأولى مستعارة من النص الأوبرالي الذي وضعه مواطنه الموسيقي شارل غونو لأوبراه "روميو وجولييت"، وتقول ما معناه: "من يبقى في الساحة/ من دون أن يشارك في الرقص/ يبقى ذليلاً ويعترف بذله/ بصوت خفيض". ولا ريب أن هذا الكلام موجه من ديبوسي إلى "أولئك الذين يبقون ملتزمين بيوتهم فيما الرجال الحقيقيون يقاتلون العدو على الجبهة". ويلفت النظر هنا كيف أن الموسيقى تلي هذه المقدمة في انسياب مع حركة فالس متتابعة تقطعها شطحات ميلودرامية حادة، وسط مناخ يهيمن عليه القلق وقدر كبير من الاضطراب.
الشعر مرة أخرى
ويلي ذلك المقطوعة الثانية، التي يراها عدد كبير من النقاد أقل جمالاً وقوة من المقطوعتين الأخريين، التي يبدأها ديبوسي بمقطع شعري مقتبس من قصيدة معروفة للشاعر فرانسوا فيون، يوجه شاعر الزمن الفرنسي القديم الخطاب فيها إلى أعداء بلاده الفرنسية، قائلاً فيها إن كرامة المرء ليست في تغنيه بامتياز بالفضيلة واتباعه لها، بل في تصديه لكل من يحاول أن يمس تراب ديار الوطن. ويضيف ديبوسي إلى هذا الشعر إهداءه المقطوعة إلى ضابط فرنسي شاب كان لتوه قد سقط خلال المعارك الأولى للحرب. وهو، ولو من خارج الزمن الموسيقي نفسه الذي يسم تلك المقطوعة، يعطي هذه الأخيرة قيمة وطنية وسياسية قد تتسم بقدر ما من الديماغوجية لكنها تفعل فعلها أيضاً، مضفية معنى غير متوقع على ذلك الدفق الموسيقي الذي يعبر المقطوعة بعنف يبدو في نهاية الأمر متناقضاً مع النشيد الكورالي اللوثري الذي يرمز إلى ذلك الشعب (الشعب الألماني الذي يدين بمذهب لوثر ويخوض اليوم حرباً ظالمة ضد الفرنسيين). من الواضح أن السياسة تطغى على هذه المقطوعة بمباشرتها التي تفقدها رونقها، جاعلة النقاد يضعونها في مقام أدنى من المقطوعتين الأخريين كما أشرنا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مقطوعة أخيرة لمسك الختام
ويبقى لدينا من هذا العمل الذي لم يكن ديبوسي (1861 - 1918) يخمن على الإطلاق، أنه سيختم به حياته الموسيقية وحياته بالمعنى الحرفي للكلمة، ذلك المقطع الثالث والأخير الذي سيجمع مؤرخو حياته على أنه أوصل فيه موسيقاه إلى ذروة غير مسبوقة في الإبداع الموسيقي في بلاده عند بدايات القرن الـ20. وديبوسي على عادته في المقطعين السابقين من هذا العمل - الوصية، افتتح ذلك المقطع الأخير أيضاً ببيتين من الشعر الوطني القديم يعلن عبرهما عودته المطلقة إلى أحضان الوطن انطلاقاً من شعار "وطني دائماً على حق"، موجهاً الخطاب إلى كل من يعادي ذلك الوطن، واصفاً إياه بأنه ليس أكثر من نذل حقير. ولئن بدا لنا هذا القول هنا مبتذلاً، فإن الموسيقى التي تأتي من بعده تتسم بقدر لافت من الإبداع الرهيف، بحيث إن كثراً من النقاد نظروا إليها، حتى من قبل رحيل مبدعها، بأنها من نوع موسيقى البيانو التي يصعب على مبدعها أن يجد ما يضيف إلى فنه من بعدها.