Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإعلام في إسرائيل... ما تطلبه "الدولة"

يملك الرقيب صلاحيات واسعة لمعاقبة أية جهة تنشر معلومات محظورة وإغلاق مؤسسات وإلغاء تصاريح من دون إبداء أسباب

شكل قانون "سلطة البث" مزيداً من القيود على وسائل الإعلام الإسرائيلية (الجيش الإسرائيلي)

ملخص

لم يكتف الصحافي النمسوي اليهودي ثيودور هرتزل بتنظيم المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا في أغسطس (آب) عام 1897، والترويج لمشروع "إقامة دولة لليهود"، بل أسس لصحيفة "دي وولت" الأسبوعية للحركة الصهيونية، وكتب في افتتاحية العدد الأول منها في الثالث من يونيو (حزيران) من عام 1897 "على هذه الصحيفة أن تتحول درعاً حامية للشعب اليهودي، وتكون سلاحاً ضد أعدائه".

على رغم النفوذ السياسي المتعاظم لصناع القرار في إسرائيل، والتطور التكنولوجي العالمي المتمثل في ثورة الاتصالات، وظهور الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، يدرك كثيرون أن الإعلام في إسرائيل بمختلف أشكاله المرئية والمسموعة وبمختلف قنواته، كان ولا يزال أداة من الأدوات الأيديولوجية المركزية التي تتصدر عملية بناء الروح الجماعية وتوجيه التصورات والرؤى والمواقف القومية للإسرائيليين.

وبقدر ما حمل هذا التحول من إيجابيات لجهاز الإعلام، ظلت الصحافة الإسرائيلية منذ نشأتها قبل سبعة عقود، ملتزمة بما يخدم ولا يمس الأمن القومي الإسرائيلي، فغداة إعلان دولة إسرائيل عام 1948 وإدراك رئيس وزرائها آنذاك ديفيد بن غوريون وجود درجة عالية من الحساسية والوعي بأهمية هذا المجال، سارع بتأسيس عدد من الهيئات والمنظمات، رأى أنها ضرورية وحيوية لتعزيز الدولة الوليدة، التي تعيش في محيط من العداء، إذ شكلت لجنة "هيئة رؤساء تحرير الصحف" التي ضمت ممثلين عن وسائل الإعلام المتعددة، بعد أن تعهدوا بعدم إفشاء أي أسرار للرأي العام من شأنها المساس بأمن الدولة، في مقابل حصولهم على معلومات وإحاطات صحافية من كبار المسؤولين.

في بدايات القرن الـ20، عملت الحركة الصهيونية على أن تحظى بود الصحف الكبرى في بريطانيا وفرنسا ولاحقاً في الولايات المتحدة، ولم يكن من أهم أهدافها حينها وضع القضية اليهودية على أجندة الدول المهيمنة آنذاك فقط، وإنما كان همها الأكبر تهيئة الرأي العام العالمي وتأطير القضية اليهودية بصورة تدعم نجاحها واستمراريتها. ولم يكتف الصحافي النمسوي اليهودي ثيودور هرتزل بتنظيم المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا في أغسطس (آب) عام 1897، والترويج لمشروع "إقامة دولة لليهود"، بل أسس لصحيفة "دي وولت" الأسبوعية للحركة الصهيونية، وكتب في افتتاحية العدد الأول منها في الثالث من يونيو (حزيران) من عام 1897 "على هذه الصحيفة أن تتحول درعاً حامية للشعب اليهودي، وتكون سلاحاً ضد أعدائه".

سلطة البث

بدأ ثقل الصحافة اليومية يأخذ دوره في توجيه الرأي العام، مع إنشاء الحركة الصهيونية إذاعة "صوت إسرائيل" عام 1940 التي أخذت تطبع 14 صحيفة، ومنذ نشأتها أصدرت إسرائيل 85 صحيفة يومية (10 منها باللغة العربية، وسبع باللغة الإنجليزية، وخمس باللغة الروسية، وخمس باللغة الفرنسية)، منها 24 صحيفة صدرت في العقد الأول لتأسيسها، وكانت تصدر فيها حتى عام 1948 نحو 13 صحيفة يومية، منها ثمانية حزبية والبقية تجارية، كصحف "هآرتس" و"يديعوت أحرونوت" و"معاريف" و"Jerusalem Post" و"الاتحاد" (باللغة العربية متحدثة باسم الحزب الشيوعي الإسرائيلي)، ولا تزال هذه الصحف الخمس مستمرة حتى يومنا هذا.

ومع تراجع الصحافة الحزبية وإغلاق عدد منها، سيطرت صحف "يديعوت أحرونوت" و"معاريف" و"هآرتس" على الشارع الإعلامي في إسرائيل، وبلغ التنافس بينها أوجه، وهي مملوكة لعدد من العائلات الكبيرة في إسرائيل. وفي يوليو (تموز) عام 1967 سرعان ما صار بث التلفزيون الحكومي الأول بالنسبة إلى المجتمع الإسرائيلي، واستمرت القناة الأولى الإسرائيلية الرسمية مصدر المعلومات الأساسي والوحيد للمشاهد الإسرائيلي، حتى تم إنشاء القناة الثانية (خاصة) بداية التسعينيات.

وتشغل هيئة البث العام الإسرائيلي التي حلت مكان سلطة البث الرسمي وتعمل تحت الاسم المختصر كان (Kan) بالعبرية، ومكان (Makan) بالعربية، ثلاث محطات تلفزة، إحداها تبث باللغة العربية، وثماني محطات إذاعة تابعة لصوت إسرائيل تبث أيضاً بالنظام الرقمي (ديجيتال)، واحدة منها باللغة العربية. وتشرف سلطة البث الثانية للإذاعة والتلفزيون على ثماني محطات تلفزة تجارية وخاصة، من بينها القنوات 12 و13 و20 و9 بالروسية و24 وموسيقى وموريشت وتراث وهلا بالعربية وi24News باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، إضافة إلى 14 محطة إذاعة محلية وقطرية.

وتعمل في إسرائيل ست شركات تنقل وتوزع وتبيع البث كخدمات تلفزيونية متعددة القنوات للمستهلكين، ويزيد عدد المشاركين فيها من المنازل على 90­ في المئة. وبحسب استطلاع سابق لمركز "هرتسوغ للإعلام والمجتمع والسياسة"، فإن 40 في المئة من الإسرائيليين يقرأون صحيفة يومية بصورة يومية، في حين أن 65 في المئة من الإسرائيليين يشاهدون الأخبار في التلفزيون بصورة يومية، فيما يفضل 40 في المئة الاستماع للأخبار في الإذاعات مرات عدة في اليوم.

رقابة عسكرية

وعلى رغم أن المحطات والإذاعات الرسمية والصحف أعطيت خصوصية واستقلالية مهنية، إلا أنها قيدت باتباع أحكام أنظمة الدفاع في حالات الطوارئ لعام 1945، التي دمجت في أنظمة الطوارئ بعد تأسيس إسرائيل عام 1948 لتصبح كل وسائل الإعلام الإسرائيلية بمختلف أشكالها خاضعة لجهاز الرقابة العسكرية التابع لاستخبارات الجيش الإسرائيلي (أمان)، ويطلق على رئيسها صفة "المراقب العسكري الإسرائيلي" الذي يعين من وزير الدفاع غير أنه ليس تابعاً له، ووفقاً للأنظمة، فإنه يشترط على وسائل الإعلام من أجل نشر محتوى يتعلق بالشؤون العسكرية والأمنية أن تخضع المحتوى لموافقة الرقابة العسكرية قبل النشر، كما أن الرقابة العسكرية تقوم بنفسها بشطب ومنع نشر أية معلومات ترى أنها تمس أمن الدولة أو سلامة الجمهور والنظام العام، إذ مكنتها هذه المصطلحات المطاطة من التدخل في نصوص ما ينشر من معلومات وتقارير مطبوعة ومذاعة ومتلفزة، كيف لا وهي تصف وظيفتها بأنها "العمل على إيجاد التوازن بين حق الجمهور في المعرفة وحرية التعبير من جهة، والمصلحة الأمنية من جهة أخرى".

وبدلاً من إرسال المواد ذات المواضيع الحساسة لمراقبتها، عين الجيش مندوباً عن الرقيب في كل صحيفة يعطي رأيه وموقفه حول النشر فورياً. وتمنع الرقابة العسكرية على الناشر الإشارة إلى أن المحتوى رفض، كما يحظر عليهم ترك أسطر فارغة في المحتوى الذي يعدل بما يكشف عن خضوعه للرقابة. ويستطيع الرقيب بحكم منصبه الرسمي حظر مادة إعلامية قبل أو بعد نشرها، ويملك صلاحيات واسعة لمعاقبة أية جهة تنشر معلومات محظورة، بما في ذلك إغلاق تلك المؤسسات الإعلامية ومصادرة معداتها، أو إلغاء تصاريحها الإعلامية من دون إبداء أسباب. إلا أن محكمة العدل العليا في إسرائيل، قضت في عام 1989 بأنه لا يمكن فرض الرقابة على المعلومات، إلا إذا كان هناك "يقين وثيق بأن الضرر الفعلي واقع على أمن الدولة".

وكشفت البيانات التي أفصحت عنها الرقابة العسكرية بطلب حركة حرية المعلومات مع موقع "شيشاه مكوميت" في إسرائيل، أن الرقابة العسكرية الإسرائيلية شطبت في الفترة الممتدة ما بين عامي 2011 و2016 نحو ألفي تقرير وخبر، ومنعت نشرها. كما تدخلت في نصوص 14 ألف خبر، وهو ما يساوي 20­ في المئة من مجمل الأخبار التي وصلتها وراجعتها قبل نشرها، فيما وصل نفوذها إلى منصات التواصل الاجتماعي، إذ ألزمت الناشرين وبعض المدونين المؤثرين (Blogger) بتقديم النصوص للرقابة قبل النشر. كما عمدت أيضاً إلى تعزيز الرقابة على منصات التواصل الاجتماعي من خلال الحصول على إذن المحكمة في إزالة أي منشور ضار بالدولة أو الاقتصاد، إضافة إلى منع المحتوى من الظهور في نتائج محركات البحث وبخاصة "غوغل" (Google). وكشف موقع "972+" الإسرائيلي في عام 2016 عن اعتماد السلطات الإسرائيلية سياسة أوامر المحكمة لتقييد عمليات النشر في إسرائيل، في خطوة اعتبرها إسرائيليون مكملة للرقابة العسكرية للتحكم في المعلومات المتدفقة إلى داخل إسرائيل من الخارج.

قوانين وأنظمة

إلى جانب أنظمة الطوارئ، والرقابة العسكرية، شكل قانون "سلطة البث" الذي صدر في الثامن من مارس (آذار) 1965 مزيداً من القيود على وسائل الإعلام الإسرائيلية، بخاصة أن إطار توجيهات "سلطة الإذاعة" يتكون من 31 عضواً يعينهم رئيس الدولة، 30 منهم بتوصية من الحكومة فيما تعين الوكالة اليهودية عضواً واحداً. وبهدف ضبط العلاقة وتقليص الاحتكاك المستمر بين وسائل الإعلام والجيش أبرم الجانبان عام 1966 ما عرف بـ"اتفاق الرقابة" التي تعهدت بموجبها وسائل الإعلام بالامتثال لتعليمات الرقابة العسكرية، ومنع نشر معلومات أمنية قد تضر بأمن إسرائيل بينما التزمت المؤسسة الأمنية بعدم إساءة استخدام الرقابة العسكرية وإبلاغ الصحافة مسبقاً بالمواضيع التي تتطلب الموافقة عليها.

وخلال حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، تميز الإعلام الإسرائيلي في ذلك الوقت بالطاعة الكبيرة للمؤسسات السياسية والأمنية العسكرية، ولم يشكل تحدياً حقيقياً لصانعي القرار والسياسيين. في تلك الحقبة، سيطر حزب "مباي" بصورة كاملة على الإذاعة وبعد ذلك على التلفزيون أيضاً. وكانت وسائل الإعلام المكتوبة تابعة بصورة أساس للحزب الحاكم، وظهر ذلك بوضوح في تسلمها للمعلومات الأمنية والعسكرية وتبنيها للخطاب السياسي الذي كان يهيمن عليه الحزب آنذاك.

 

وحتى العقد الأول من القرن الـ21، كانت الأخبار التلفزيونية السائدة تعد معقلاً للنخبة الإسرائيلية الليبرالية العلمانية المسيطرة على محطات البث العامة الممولة من الحكومة، التي كانت تحتكر البث حتى التسعينيات، ثم أصبحت بعد ذلك مملوكة للقطاع الخاص الذي نادراً ما كان يتحدى الجيش، أو حركة المستوطنين، أو أخطاء قوى الأمن، إذ استهدفت تلك القنوات بصورة عامة الجمهور الوسطي الإسرائيلي، وظلت إعلاماً فتاكاً في الشأن الداخلي الإسرائيلي على النحو الذي يخدم الكل الإسرائيلي، خصوصاً عند الإبلاغ عن قضايا الفساد الحكومي والمساواة بين الجنسين، وحقوق المثليين وغيرها من القضايا المثيرة للجدل، وهو ما جعل بنيامين نتنياهو منذ ولايته الأولى كرئيس للوزراء في التسعينيات يوجه انتقاداً حاداً لوسائل الإعلام الرئيسة، واصفاً إياها بأنها مصدر معلومات يساري متطرف وغير جدير بالثقة، مما دفعه إلى إنشاء منبره الخاص، ففي عام 2007 زعم نتنياهو إقناع رجل الأعمال الأميركي شيلدون أديلسون بتأسيس صحيفة يومية مجانية عرفت في ما بعد باسم "إسرائيل هيوم"، التي أصبحت تدريجاً الصحيفة الأكثر قراءة على نطاق واسع في إسرائيل، والمعروفة بميلها الشديد بلا كلل مع نتنياهو. إلا أن الأخير لم يكتف بذلك بل سعى بشدة إلى إعادة تشكيل النظام البيئي الإخباري التلفزيوني، لقناعته بالدور المهم في التأثير في المشاعر العامة.

وتحت سيطرة حزبه "الليكود" روجت وزارة الاتصالات لإجراء تغييرات تنظيمية سمحت للقناة "14" الإسرائيلية تحويل نفسها من قناة مرخصة لبث برامج عن التراث اليهودي، إلى قناة إخبارية كاملة توفر ساعات من التغطية يومياً، مما جعلها بالمرتبة الثانية بعد القناة "12" من حيث نسب المشاهدة بين الإسرائيليين.

تعتيم إعلامي

صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى سدة الحكم، الذي امتد تأثيره إلى المشهد الإعلامي في إسرائيل، أسهم في تراجعها عن ترتيبها عالمياً وفقاً لمؤشر حرية الصحافة، إذ هبطت من المرتبة 86 في عام 2021 إلى 97 في عام 2022 ثم في 2023 إلى الترتيب 101 من بين 180 بلداً على مستوى العالم. وأظهر مؤشر حرية الصحافة لعام 2024 الذي يصدر عن منظمة "مراسلون بلا حدود" تأثيراً واسعاً للحرب على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 في ما يتعلق بحرية العمل الصحافي داخل إسرائيل وتزايدت الضغوط على الصحافيين فيها.

كما ارتفع مستوى حملات التضليل وتصاعدت القوانين التي تقمع حرية العمل الصحافي، إذ يعتمد الوضع الحالي في نقل الأحداث والسرد والتحليل اعتماداً كبيراً على الإعلام العسكري، حتى في بلاغات المحللين العسكريين على القنوات الإسرائيلية التجارية والحكومية. فالإدارة الإسرائيلية في زمن الحرب تلجأ إلى خطة التعتيم الإعلامي على الأضرار، وسط رقابة عسكرية صارمة جداً تقيد الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي من الوصول إلى المعلومات.

 

ووفقاً لما نشره موقع "إنترسبت" الأميركي نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2023، أصدرت الرقابة العسكرية الإسرائيلية وثيقة "غير مسبوقة" تكشف عن توجيه إعلامي بحظر تغطية ثمانية مواضيع من دون موافقة مسبقة من الرقابة العسكرية، تتضمن حظر الحديث عن المحتجزين الإسرائيليين في غزة وتفاصيل العمليات العسكرية والاستخبارية، والمعلومات الاستخبارية المتعلقة بنوايا الفصائل الفلسطينية وعملياتها، والهجمات الصاروخية التي ضربت البنية التحتية الاستراتيجية، والهجمات السيبرانية ضد الحكومة أو التي تنفذها إسرائيل ضد خصومها. إلى جانب حظرها الحديث عن الزيارات من المسؤولين إلى مناطق القتال وتفاصيل اجتماعات مجلس الوزراء وتفاصيل الأسلحة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي، بما في ذلك التي استولت عليها الفصائل الفلسطينية.

وتشير تقديرات إلى أن الرقابة العسكرية في إسرائيل وصلت إلى المساهمة في تجريد السكان الفلسطينيين في قطاع غزة من إنسانيتهم من خلال التجاهل التام في التغطية الإعلامية. ووفقاً لتقرير حركة حرية الإعلام مع "سيشاه كوميتيم" الصادر في الـ15 من مايو (أيار) 2024، منعت الرقابة العسكرية نشر 613 مقالة خلال عام 2023، وهو ما يقرب من أربعة أضعاف ما كان عليه في عام 2022، كما تدخلت وحذفت أجزاء في 2703 قصص إخبارية إضافية، أي ما يقارب ثلاثة أضعاف العام الذي سبقه.

وأشارت مقالة نشر في موقع "العين السابعة" كتبه عيدان رينغ وشوكي تاوسيغ، إلى أن التجاهل وإخفاء المعلومات المتعلقة بما يجري في غزة "لهما آثار كبيرة في صفقات التبادل والنضال الشعبي الخاص بأهالي المختطفين"، في حين ترى رئيسة الهيئة الإدارية لمنظمة "بتسليم" أورلي نوى أن الإعلام يتخذ القرار بعدم بث خطابات زعماء آخرين بزعم أنها بروباغندا، ويمتنع عن نشر فيديوهات المختطفين بحجة أنها جزء من حرب نفسية تشنها "حماس"، مؤكدة أن هذه السياسة تصادر حق الجمهور الإسرائيلي في أن يعلم ويتخذ قراراته.

خارج السرب

من خلال تفعيل تشريعات سابقة أو استحداث أخرى جديدة خلال الحرب على قطاع غزة، صعدت تل أبيب في منحنى الاستهداف الممنهج لحرية العمل الصحافي في إسرائيل، وأظهرت تلك التشريعات توجهاً إسرائيلياً نحو قمع الرواية المناهضة لروايتها المتعلقة بالحرب في قطاع غزة. وكان من أبرز تلك التشريعات إقرار الكنيست في أبريل (نيسان (2024 قانوناً يمنح الحكومة الإسرائيلية صلاحية إغلاق وسائل الإعلام الأجنبية ومصادرة معداتها، وحجب مواقعها الإلكترونية إذا كانت تعد تهديداً للأمن القومي، ويسمح القانون بسريان إجراء الإغلاق لمدة 45 يوماً قابلة للتمديد. وعلى رغم أن صحيفة "هآرتس" اليسارية تصطف إجمالاً في خندق وسائل الإعلام الإسرائيلية الأخرى، إلا أن باب النقد الذي تتركه مفتوحاً لكتاب المقالات على غرار جدعون ليفي وضعها خارج السرب، فقد قررت الحكومة الإسرائيلية بالإجماع في الـ25 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي المصادقة على قرار مقاطعة صحيفة "هآرتس" بزعم أنها "تسيء لإسرائيل" في أخبارها ومقالاتها التي تنشر باللغتين العبرية والإنجليزية، ويشمل القرار حث وزارات الحكومة المختلفة على عدم إجراء أي اتصال مع الصحيفة، وعدم وضع أية إعلانات أو مناقصات على صفحاتها ومواقعها.

ويأتي قرار المقاطعة أيضاً بسبب افتتاحيات الصحيفة التي تعتبرها الحكومة "مضرة بشرعية إسرائيل عالمياً"، التي غالباً ما تتخذ مواقف نقدية تجاه الحكومة الإسرائيلية وسياساتها، وبخاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وحقوق الإنسان. ووصف ناشرها عاموس شوكان خلال مؤتمر في لندن قبل نحو شهر الفلسطينيين بأنهم "مقاتلون من أجل الحرية"، مما أثار غضب الوزارات الإسرائيلية. وأشار شوكان إلى أن الأذى المتعمد للمدنيين "غير مشروع"، وأن العنف لتحقيق أهداف سياسية أو أيديولوجية هو "إرهاب".

 

وتصف "هآرتس" القرار بمقاطعتها بأنه خطوة أخرى باتجاه تفكيك الديمقراطية الإسرائيلية، مشيرة إلى أن نتنياهو يحاول إسكاتها لأنها مستقلة ناقدة، مؤكدة أنها تسعى إلى تقديم التماس إلى المحكمة العليا لمواجهة قرار الحكومة، وأنها لن تتراجع عن نهجها. وترى مديرة قسم حرية الصحافة في نقابة الصحافيين في إسرائيل انات ساراغوستي، أن الحكومة "تهدف إلى إضعاف وتدمير الإعلام المستقل وإغلاق البث العام لتقليص التمويل وفرض السيطرة السياسية"، كاشفة عن أن الصحافيين الذين يتابعون محاكمة نتنياهو يتعرضون للهجوم على مواقع التواصل الاجتماعي.

وعلى رغم أن صحيفة "هآرتس" التي تأسست عام 1919 تملك جمهوراً صغيراً نسبياً في إسرائيل لا يتجاوز خمسة في المئة من قراء الصحف المحلية، إلا أنها تحظى بتأثير كبير في الوسط السياسي والأكاديمي والإعلامي، إذ تأتي في المرتبة الثالثة بعد صحيفتي "يديعوت أحرونوت" و"معاريف" من حيث الانتشار. وبين استطلاع للرأي أجرته الجامعة العبرية، أنه منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تضاعف استهلاك الأخبار في وسائل الإعلام الرئيسة. كما زاد التعرض لجميع شبكات الأخبار الرئيسة، وارتفعت شعبية القناة "12" بين السكان اليهود بصورة كبيرة، بخاصة بين المشاهدين المنتمين إلى الكتلة المناهضة لنتنياهو.

 ويرى مراقبون أنه على رغم كل التحولات الديناميكية التي عصفت بالإعلام الإسرائيلي منذ نشأته حتى اليوم، ظل متجنداً بصورة طوعية لصالح الأيديولوجيا القومية والدفاع المستميت عما تقوم به الدولة وأجهزتها بخاصة في حالات المواجهة، على خلاف الإعلام في الأنظمة القمعية الذي يفرض عليه بالقوة والملاحقة والتضييق.

المزيد من تقارير