ملخص
تصعيد فرنسي - جزائري متبادل يبرز كثيراً من الأسئلة التي تستدعي فحص تأثير تصريحات ماكرون في العلاقات الثنائية، وخصوصاً في ظل التحولات الإقليمية والدولية التي تفرض تحديات جديدة على الطرفين.
في وقت تزداد العلاقات بين الجزائر وفرنسا تعقيداً، ظهرت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول اعتقال الكاتب الفرنسي - الجزائري بوعلام صنصال مثل شرارة جديدة لنيران التوترات السياسية بين البلدين، وتزامنت إدانة الجزائر لتصريحات ماكرون التي اعتبرتها تدخلاً في شؤونها الداخلية مع تصاعد الجدل حول القضايا الحساسة التي تؤثر في العلاقات الثنائية.
في الأثناء أوقفت السلطات الفرنسية أخيراً ثلاثة مؤثرين جزائريين بتهم التحريض على الإرهاب وأعمال العنف ضد معارضي النظام الجزائري المقيمين في فرنسا، وأحد هؤلاء والمعروف بلقب "بوعلام" جرى اعتقاله في مدينة مونبلييه الجنوبية حيث ألغت السلطات الفرنسية تصريح إقامته قبل أن ترحله إلى الجزائر التي رفضت سلطاتها دخوله البلاد ليعاد إلى الأراضي الفرنسية من جديد، ومع هذه التصعيدات المتتالية تبرز كثير من الأسئلة الحاسمة التي تستدعي فحص تأثير تصريحات ماكرون في العلاقات الثنائية، وخصوصاً في ظل التحولات الإقليمية والدولية التي تفرض تحديات جديدة على الطرفين.
تصعيد متبادل
وفي هذا السياق يشير الباحث في الشأن الفرنسي نبيل شوفان في تصريح خاص إلى أن الأمر ليس على قدم المساواة في ما يتعلق بوجهات النظر، فمن وجهة نظر فرنسية وحقوقية تعبر هذه التصريحات عن موقف حقوقي ودفاع عن اعتداء على حرية التعبير لمواطن فرنسي كاتب ومفكر وثمانيني جرى اعتقاله تعسفياً، ويتابع قائلاً إن "تعرّض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى اللوم والانتقاد سببه تأخره في اتخاذ موقف حازم في شأن قضية بوعلام صنصال، فبفضل قلمه الثاقب واستقلاليته العقلية وكفاحه المستمر من أجل حرية الفكر يعتبر صنصال شخصية فريدة عالمياً، فلقد رفع عالياً القيم العالمية للحرية والكرامة، ومن الطبيعي أن يتضامن الجميع ويطالب بالإفراج الفوري وغير المشروط عنه، بخاصة أنه سُجن بسبب أفكاره".
ويوضح شوفان أن تصريحات الرئيس ماكرون، من وجهة نظر الجزائر، تُعتبر تدخلاً في شؤونها الداخلية، إذ تُدرج قضية صنصال ضمن إطار قانون دولة ذات سيادة ومستقلة، وتؤكد الجزائر أن القضية تتعلق في المقام الأول بالمساس بوحدة أراضي البلاد، وهو أمر يُعتبر جريمة يعاقب عليها القانون الجزائري. ويعتقد الباحث أن فرنسا ليست الوحيدة التي تفقد نفوذها في أفريقيا، وبإلقاء نظرة دقيقة على الوضع يتبين أن الجزائر هي الأخرى بدأت تفقد نفوذها الإقليمي منذ أكثر من 10 أعوام، ومن هنا يشعر المسؤولون الجزائريون بالقلق من احتمال تصنيف الولايات المتحدة الأميركية، تحت قيادة دونالد ترمب، جبهة الـ "بوليساريو" كمنظمة إرهابية، فضلاً عن دفعها نحو موجة ثانية من السلام مع إسرائيل، ناهيك عن احتمال أن تعترف الصين التي تعتبرها الجزائر حليفة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية كما يُتداول، وفي هذا السياق فمن الطبيعي أن تثير مثل هذه القضايا المرتبطة بسلامة أراضي الجزائر وعدم المساس بحدودها غضبها الشديد.
وفي ما يتعلق بمحاولات الرئيس ماكرون فهم طبيعة عمل السلطات الجزائرية، يؤكد شوفان أن ماكرون راهن على الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي يمثل المحاور المثالي لفرنسا، كونه ينتمي إلى جيل لم يشارك في حرب التحرير لكنه متأثر بإرثها التاريخي، كما أنه يبقى أول رئيس جزائري منذ عام 1962 لا ينتمي إلى "جيل المجاهدين".
ويرى شوفان أنه على رغم أن بعض الجزائريين يعتبرون أن ماكرون "يسعى إلى استغلال الفرص"، فإنه يظل الرئيس الفرنسي الأكثر إدراكاً لصدمة الجزائر التاريخية، وهو يحلم بمصالحة كبيرة بين فرنسا والجزائر من خلال ملف الذاكرة، ولعل الزعيمين ماكرون وتبون يشتركان في صراحتهما واستعدادهما للإفصاح عن مواقف صادقة على رغم وقوعهما أحياناً في زلات لسان يجرى استغلالها من قبل خصومهم أو "الشعبويين".
يضيف شوفان أن "ماكرون وقع في فخ جعل العلاقات الثنائية مشروطة بقضية لم يجر حلها بعد، مما أدى إلى سباق بين الاعتراف بالمسؤولية والرمزية في التصرفات، بينما أصرت الجزائر على مطالبها مما أطال أمد المشكلة على رغم الجهود الكبيرة التي بذلها المؤرخ بنيامين ستورا، وهذا قد يكون ما جرّ السلطات الجزائرية إلى عملية شاقة لم تكن ترغب فيها".
وعلى رغم ذلك يشيد شوفان بالاعتراف الأخير من ماكرون بمسؤولية الدولة الفرنسية عن اغتيال العربي بن مهيدي، وهي مبادرة لافتة تزامنت مع الذكرى الـ 70 لاندلاع حرب الاستقلال، لكن شوفان يرى أن هذه اللفتة جاءت بعد أيام قليلة فقط من خطاب الرئيس الفرنسي في المغرب، والذي أكد فيه أن "حاضر ومستقبل الصحراء الغربية يندرج في إطار السيادة المغربية"، مما جعل الصحف والسياسيين في الجزائر يرون في الاعتراف الفرنسي بمسؤوليتها عن اغتيال بن مهيدي تعويضاً عن الاعتراف بمغربية الصحراء.
ويواصل شوفان حديثه بأن "الأمور تفاقمت مع قضية المديرية العامة للأمن الخارجي التي أثرت في أحد أهم أسس العلاقة الثنائية بين البلدين وهو التعاون الأمني، وقد دفعت هذه القضية الجزائر إلى قطع جميع قنوات الاتصال مع باريس، بما في ذلك تلك الخاصة بأجهزة الاستخبارات، في توقيت بالغ الحساسية، إذ كانت فرنسا تعتمد على هذا التعاون لتبادل المعلومات الحساسة ومنع وقوع هجمات محتملة، بخاصة في ظل استعدادها لاستضافة الألعاب الأولمبية". ويضيف، "هنا يتجلى التناقض، إذ إنه من الواضح أن فرنسا لا تسعى إلى زعزعة استقرار الجزائر لأنها ستكون أول من يتحمل تبعات ذلك، لكن الجزائر في المقابل تشكو من حملة إعلامية معادية لها في فرنسا".
وفي ما يتعلق بتأثير هذه التطورات والتصريحات المتبادلة في العلاقات المتوترة بين البلدين، فإن شوفان يتساءل "هل ستقود هذه الأزمة إلى مزيد من التصعيد أم إلى تسوية قريبة؟ وما نراه حتى الآن هو تصاعد في الخطابات المتوترة من الطرفين مما يزيد تعقيد علاقة لم تكن يوماً مستقرة بصورة كاملة".
ويقول شوفان "نحن الآن أمام تصعيد خطابي متبادل بإيقاع يبعث على القلق من كلا الطرفين، وعلى رغم ذلك فإن ما يحدث يمكن اعتباره انتكاسة جديدة في علاقة تاريخية لم تعرف الهدوء التام، ومن المهم أن يتذكر الطرفان أن العلاقات بين فرنسا والجزائر تحمل طابعاً استثنائياً، فهي إما أن تكون جيدة أو سيئة لكنها لا يمكن أن تكون عابرة بأي حال من الأحوال، وهذا ما عبّر عنه الرئيس الجزائري السابق هواري بومدين عام 1974 حين وضع إطاراً دقيقاً لفهم طبيعة علاقة البلدين". ويتابع "الجزائر أمام تحديات جديدة في علاقاتها مع فرنسا في ظل تصاعد اليمين المتطرف والتقلبات السياسية، إذ تبدو الجزائر اليوم كياناً غامضاً غير قابل للفهم الكامل، إذ تُستمد المعلومات المتاحة حولها أساساً من وسائل الإعلام الرسمية وشبكات التواصل الاجتماعي والمعارضين في الخارج الذين غالباً ما تكون دوافعهم محل تساؤل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويفاقم هذه الضبابية الاعتماد على قوالب نمطية شائعة لدى بعض التيارات السياسية الفرنسية التي تصف الجزائر بأنها في "طور التكوين ومجتمع جامد وأحادي غارق في الإسلاموية ويحكمه العسكر، مما يزيد التعتيم الذي تمارسه أحزاب فرنسية متطرفة على الوضع الجزائري، في حين يتطلب الوضع في الجزائر جهداً تحليلياً كبيراً بعيداً مما يجرى تناقله لفهم التعقيد المنطقي لموازين القوى في الجزائر بعد عهد بوتفليقة".
وبحسب شوفان فإن "فرنسا بحاجة إلى تعزيز علاقاتها مع الجزائر التي تعد أكبر دولة في المغرب العربي ولها دور إقليمي بارز في مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وعلى رغم ذلك يجرى اتهام المهاجرين الجزائريين بأنهم السبب في كل مشكلات فرنسا مرة أخرى، إذ نسمع بصورة متواترة اليمين واليمين المتطرف يتحدثون في كل مناسبة عن اتفاق 1968 ويطالبون بمراجعته بحجة أنه في مصلحة الجزائريين".
ويعتبر شوفان أن الوضع الحالي يعكس التحديات التي قد تواجه الجزائر في حال وصل اليمين المتطرف إلى السلطة في فرنسا عام 2027، ومن هذا المنظور تشدد الجزائر على ضرورة التعاون مع الرئيس ماكرون لتهدئة التوترات، وربما تستجيب للدعوة الفرنسية المنفتحة الأطلسية التي أطلقها من الرباط، وفي هذا السياق ينبغي أن تكون علاقة الجزائر بالمغرب بناءة لا تتأثر بالتوجه الفرنسي واستمالة أحد الطرفين على حساب الآخر، كما يجب أن تعزز هذه العلاقة بعيداً من تقلباتها الحالية مع بدء إصلاحها الفوري وتجنب اتخاذ إجراءات انتقامية قد تؤدي إلى تفاقم الأزمة، كما أن الإعلام الجزائري لم يشرع بعد في شن حملة ضد فرنسا، فهو لا يرغب في فتح جبهة جديدة مع باريس وبخاصة في ظل التحديات الكبرى التي تطرأ على الساحة العالمية.
"سياسة استعمارية ناعمة"
أما الباحث الجزائري في العلاقات الدولية سيف الدين قداش فقد أكد أن "التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في شأن اعتقال صنصال تمثل جزءاً من نهج مستمر تتبعه فرنسا للتدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة، وعلى رأسها الجزائر"، مضيفاً أن "تصريحات الرئيس الفرنسي تأتي في إطار سلسلة من المواقف المتناقضة المرتبطة بتاريخ فرنسا الاستعماري ومصالحها الجيوسياسية في المنطقة، وهو ما يكشف عن أجندة مزدوجة وأهداف بعيدة من القيم وحرية التعبير"، وأشار قداش إلى ملف وقضية الصحراء الغربية كدليل على هذه التناقضات، موضحاً أن "فرنسا دعمت المصالح على حساب الشرعية الدولية مما يعكس ازدواجية السياسة الفرنسية بصورة واضح".
وفي هذا السياق أكد سيف الدين قداش أن "سياسة فرنسا التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان تتسم بازدواجية صارخة، إذ تدعم أنظمة سياسية تنتهك حقوق الإنسان بوضوح، سواء في أفريقيا أو الشرق الأوسط"، متابعاً أن "فرنسا قدمت لعقود دعماً لأنظمة قمعية من أجل الحفاظ على نفوذها داخل مستعمراتها السابقة، وهناك أمثلة واضحة تشمل علاقتها مع أنظمة تعرقل الديمقراطية وتنتهك حقوق الإنسان في أفريقيا، حيث تستمر في استغلال الموارد الطبيعية لهذه الدول في مقابل دعم هذه الأنظمة".
وتعليقاً على الموقف الفرنسي أكد الباحث نفسه أن "فرنسا بينما تنتقد الجزائر بحجة الدفاع عن حرية التعبير تغض الطرف عن انتهاكات خطرة في دول أخرى ترتبط بمصالحها"، وتساءل "أين الديمقراطية مما حدث في ساحل العاج والغابون والنيجر وغيرها؟ فهذه دول كانت فرنسا تنهب خيراتها من نفط ووقود نووي، ودعمت أنظمتها عندما كانت تخدم المصالح الفرنسية". وأشار قداش إلى أن "الإطار العام لتصريحات ماكرون يأتي في سياق تاريخ استعماري لا تزال الجزائر وشعبها يعانيان آثاره، فقد استعمرت فرنسا الجزائر لـ 132 عاماً". وأضاف أن "التجارب النووية في الصحراء الجزائرية تعد من أبشع الجرائم التي ارتكبتها فرنسا، فقد أجرت تفجيرات نووية خلال الستينيات خلفت آثاراً بيئية وصحية مدمرة لا تزال قائمة حتى اليوم، من دون أن تتحمل مسؤوليتها في حماية البيئة، وهذا من المفارقات إذ إن فرنسا هي الدولة التي وُقع فيها 'اتفاق باريس' للمناخ".
ولفت قداش إلى أن الرئيس ماكرون كرّم "الحركى" الذين خدموا الجيش الفرنسي خلال حرب التحرير وأدلى بتصريحات مهينة لتاريخ الجزائر، وقال إن "ماكرون يتصرف بطريقة تناقض أية محاولة جادة لطي صفحة الماضي ومعالجة آثاره".
"تشويه التاريخ"
وفي السياق ذاته اعتبر قداش أن "ماكرون أهان ذاكرة الجزائر بتصريحاته المثيرة للجدل حين زعم أن الجزائر لم تكن أمة قبل الاستعمار، في تجاهل لتاريخ الدولة الجزائرية"، مضيفاً أن "هذه التصريحات أثارت استياء واسعاً وأظهرت افتقاراً إى احترام الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري". وأشار إلى أن "تصريحات ماكرون تغذي أطروحات اليمين المتطرف في فرنسا الذي ينظر إلى الجزائر كمصدر تهديد دائم ويُروج لفكرة استعادة النفوذ الفرنسي في المنطقة، وهذا الموقف يعكس تماهياً مع الخطاب اليميني المتصاعد الذي يسعى إلى إحياء سياسات استعمارية بطرق مختلفة".
وبخصوص رد الجزائر الرسمي على تصريحات ماكرون فأكد قداش أن الرد يعكس التزام الجزائر بالدفاع عن سيادتها الوطنية ورفض أي تدخل خارجي، موضحاً أن بلاده رفضت "محاولات الابتزاز الفرنسي مؤكدة أنها دولة ذات سيادة، وأن قضاياها الداخلية مثل الوحدة الوطنية غير قابلة للمساومة"، وأشار إلى أن "احتضان فرنسا لناشطين تعتبرهم الجزائر إرهابيين، يمثل تحدياً للجزائر وموقفها السيادي". وتابع أن الجزائر تسعى إلى تنويع شركائها الدوليين متجهة نحو قوى صديقة ومنظمات جديدة في إطار تقليل الاعتماد على فرنسا وتوسيع مجال تحالفاتها، بما يعزز استقلاليتها السياسية والاقتصادية على الساحة الدولية.
وتعليقاً على الموقف الفرنسي رأى قداش أن "تصريحات ماكرون ليست سوى امتداد لسياسة استعمارية ناعمة تمارسها فرنسا وتسعى من خلالها إلى التدخل في الشؤون الجزائرية تحت غطاء الدفاع عن القيم الإنسانية". وقال أيضاً "بينما تحاول فرنسا استغلال ملفات مثل قضية بوعلام صنصال كوسيلة للضغط السياسي، فإن الجزائر ترد بقوة مدافعة عن سيادتها ومصالحها الوطنية من دون أي تنازل".
وتعكس تصريحات الرئيس الفرنسي، كما رأى الباحث سيف الدين قداش، "استمرار سياسة التدخل في الشؤون الداخلية للجزائر تحت شعار الدفاع عن القيم الإنسانية، وهو تصعيد يكشف عن التوتر المستمر بين البلدين، إذ تواصل الجزائر الدفاع عن سيادتها من خلال تعزيز استقلالها وتنويع تحالفاتها الدولية، وفي الوقت نفسه تظل التحديات المتعلقة بالماضي الاستعماري حاضرة مما يجعل التوصل إلى تفاهم بين الجانبين أمراً معقداً"، فهل ستظل الجزائر وفرنسا أسرى توتراتهما التاريخية؟ أم ستفتحان صفحة جديدة في علاقاتهما؟