ملخص
دانت قوى سياسية ومجتمعية ونقابية الانتهاكات التي ارتكبت في ود مدني من قتل ممنهج باعتبارها ممارسات تمثل انتهاكاً صارخاً للكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، وتتعارض مع القوانين الوطنية والمواثيق الدولية التي تكفل الحماية للمدنيين، فضلاً عن أنها تضاعف من تمزيق النسيج الاجتماعي الذي تفتت بسبب هذه الحرب.
في وقت تفاءل كثير من السودانيين بتحرير مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة السبت الماضي من قبضة "الدعم السريع" التي سيطرت عليها لأكثر من عام بأن يكون نهاية لمعاناة سكان هذه المدينة، لكن سرعان ما تزايدت المخاوف بسبب ما حدث من حملات انتقامية نفذها عناصر مسلحون يرتدون زي الجيش السوداني لدى دخولهم المدينة ضد أفراد مدنيين بداعي تعاونهم مع "الدعم السريع".
وأظهرت مقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي اقتياد مسلحين لمواطنين معصوبي الأعين وقتل بعضهم بوحشية، فضلاً عن تناثر جثث القتلى ملقاة على الأرض، وغيرها من الانتهاكات الجسيمة.
وكانت عناصر داعمة للجيش توعدت بتصفية من وصفتهم بالمتعاونين مع قوات "الدعم السريع" في مدينة ود مدني بالقتل، والتخلص من جثثهم في نهر النيل.
وقال أحد تلك العناصر في مقطع فيديو إن "لديه قائمة بأسماء أكثر من 6 آلاف شخص تعاونوا مع قوات الميليشيات، خلال سيطرتها على عاصمة ولاية الجزيرة".
لكن القوات المسلحة السودانية وصفت ما حدث من انتهاكات في بعض المناطق بولاية الجزيرة عقب تطهير ود مدني بالتجاوزات الفردية، مؤكدة تقيدها الصارم بالقانون الدولي، وحرصها على محاسبة كل من يتورط في أي تجاوزات تطاول أي شخص بكنابي وقرى الولاية طبقاً للقانون.
وقالت في بيان لها "نتابع بصورة لصيقة الحالة الأمنية في المنطقة بالتنسيق مع لجنة أمن ولاية الجزيرة، وذلك لتأمين المناطق كافة، وتفويت الفرصة على الجهات المتربصة بالبلاد التي تحاول استغلال أي تجاوزات فردية لإلصاقها بالقوات المسلحة والقوات المساندة لها، في وقت تلوذ فيه بالصمت حيال جرائم الحرب المستمرة والمروعة التي ترتكبها ميليشيات ’الدعم السريع‘ الإرهابية حيال المدنيين".
فيما أشار مستشار قوات "الدعم السريع" الباشا طبيق إلى أن "الحملات الانتقامية التي يقوم بها الجيش وكتائب البراء الإرهابية والمستنفرين والحركات المرتزقة في مدينة ود مدني بتصفية وقتل مجموعات عرقية محددة، يؤكد وحشية وبربرية هذه المليشيات الإرهابية المتطرفة".
وذكر في تغريدة له عبر منصة "إكس" أن "الانتهاكات تعبر عن الهدف الحقيقي لهذه الحرب العبثية التي أشعلها الجيش بتوجيه من الحركة الإسلامية بقيادة علي كرتي"، منوهاً بأن مدينة ود مدني ستشهد مزيداً من القتل والتصفيات والإبادة الجماعية للمدنيين.
ودانت قوى سياسية ومجتمعية ونقابية الانتهاكات التي ارتكبت في ود مدني من قتل ممنهج باعتبارها ممارسات تمثل انتهاكاً صارخاً للكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، وتتعارض مع القوانين الوطنية والمواثيق الدولية التي تكفل الحماية للمدنيين، فضلاً عن أنها تضاعف من تمزيق النسيج الاجتماعي الذي تفتت بسبب هذه الحرب، داعية طرفي الحرب إلى عدم الانجراف نحو دعوات الانتقام ضد المواطنين العزل الذين لا خيارات لهم سوى التعايش مع أي ظرف من الظروف.
ضغط إعلامي
يقول عضو "تحالف المحامين الديمقراطيين في السودان" المعز حضرة إنه "منذ اندلاع هذه الحرب البغيضة قبل 21 شهراً تزايدت الانتهاكات ضد المدنيين من كل أطراف الحرب، وهي جرائم ضد الانسانية وأخرى تتعلق بالتهجير القسري والقتل خارج القانون وتعذيب الأسرى، وللأسف أنه تم توثيق هذه الجرائم من طرفي النزاع أنفسهما، وعندما زاد الضغط الإعلامي عليهما قاما بإصدار بيانات تفيد بتقديم الجناة إلى محاكم لمحاسبتهما، معللين بأن ما حدث من انتهاكات مجرد تصرف فردي وهذا أمر غريب، إذ لا يوجد أي تصرف فردي في حال انتهاك القانون، فما يحدث يقع تحت مسؤولية قيادتي تلك القوات".
وأضاف "هذه اعتداءات على مدنيين، فإذا كان القضاء في المناطق التي يسيطر عليها الجيش يقوم بمحاكمة من يجدون لديهم رسائل أو صوراً في أجهزتهم المحمولة أو لمجرد الاشتباه بتعاونهم مع ’الدعم السريع‘ بالإعدام فمن باب أولى لهذا القضاء إن كان جاداً وعادلاً أن يقوم بمحاكمة هؤلاء العسكريين أو المستنفرين الذين قاموا بقتل المدنيين، لأن الاختصاص هنا ليس للمحاكم العسكرية فهو يخص المحاكم المدنية الجنائية، لكن خلال سنتين لم يقدم أي شخص من هؤلاء المعتدين إلى محاكمة".
وأردف حضرة "طرفا النزاع ارتكبا كثيراً من الانتهاكات، وفي الحقيقة لا توجد الآن دولة قانون ولا مؤسسة عدلية يوثق فيها، لذلك ظللنا نطالب بتوسيع اختصاصات لجنة التحقيق الدولية التي كونها مجلس حقوق الإنسان، لكن حكومة الأمر الواقع في بورتسودان ناهضت هذه الخطوة".
وطالب المتحدث بصدور قرار من مجلس الأمن باعتباره أعلى سلطة دولية بالسماح لهذه اللجنة بالتحقيق في تلك الانتهاكات، فضلاً عن المساعدة في عدم الإفلات من العقاب كما حدث في جرائم حرب دارفور 2003 و2004 وتقديم المتهمين أو الذين ارتكبوا هذه الجرائم إلى محاكم دولية أو خليط متفق عليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع حضرة "لقد تراجعت الثقة الآن في النظام القضائي السوداني لأنه أصبح مسيساً بالكامل ولم يفعل شيئاً طوال فترة الحرب، وكلما استمرت الحرب تزداد وحشية الانتهاكات والجرائم، كما أنه لا توجد أية آليات لتحقيق المساءلة القانونية، صحيح هناك جهات حقوقية سودانية تقوم برصد بعض الانتهاكات، لكنها تعمل في ظل ظروف صعبة للغاية، إذ يتعرض المحامون الذين يتولون مهمات الدفاع عن المتهمين إلى الملاحقة، بالتالي لا توجد ضمانات وهو ما يفرض الحاجة إلى تدخل آليات العدالة الدولية لوقف هذه الانتهاكات".
ولفت عضو "تحالف المحامين الديمقراطيين في السودان" إلى أنه "في ظل هذا الواقع فإنه لا رجاء من طرفي الحرب بأن يقدما شيئاً من أجل مناصرة العدالة، لأن أياً منهما لم يقدم أياً من الذين قاموا بجرائم لمحاكمات حتى يتم إيقاف مهزلة الإفلات من العقاب".
آليات ناجزة
من جانبه يرى رئيس مجلس أمناء هيئة محامي دارفور المكلف الصادق علي حسن أن "الجرائم المرتكبة بواسطة طرفي الحرب الجيش و’الدعم السريع‘ لم يشهد لها مثيل في تاريخ الإنسانية، فالجرائم السابقة التي ترسخت في الأذهان بفعل أدواتها وأسلحتها التقليدية في ذلك الزمن من حراب ورماح وعصي، لم تكن بمثل فداحة وجسامة الجرائم التي تشهدها البلاد الآن من قتل جزافي بالأدوات كافة، وقطع الرؤوس وبقر البطون والقتل الانتقامي بسبب المنطقة والقبيلة والعرق والاشتباه، وكذلك القصف الجوي العشوائي بالبراميل المتفجرة بواسطة الجيش والقصف المدفعي العشوائي بواسطة ’الدعم السريع‘ وبالدانات من المسافات البعيدة، وقطعاً سيسجل التاريخ أن هذه الحرب هي الأكثر بشاعة في تاريخ الشعوب والأمم".
وتابع حسن "في تقديري أن ضمانات المساءلة ينتجها الشعب السوداني الذي لاقى الأمرين، فالانتهاكات والجرائم المرتكبة تحتاج إلى آليات ناجزة وفاعلة وليست الآليات التقليدية المعروفة، إذ إن الأجهزة العدلية السودانية بصورتها الحالية من شرطة جنائية ونيابة وقضاة غير مؤهلة، كذلك نجد أن القضاء التكميلي الدولي وتجربة المحكمة الجنائية الدولية عاجزة أيضاً، فخلال عقدين لم يقبض على الجناة الذين مارسوا القتل والتهجير القسري في دارفور على رغم صدور أوامر القبض الصادرة منها في مواجهتهم مثل الرئيس المعزول عمر البشير وآخرين، مع أن هذه الجرائم ارتكبت في مناطق عدة وطاولت آلافاً من الضحايا والمهجرين قسرياً، وبالتالي فإن آلية المحاكمات الدولية نفسها بحاجة إلى مراجعات حقيقية وإلا لن تكون صالحة لتحقيق العدالة".
وواصل المتحدث "المطلوب الآن توثيق الجرائم المرتكبة وحفظ البينات كما حدث في جرائم يوغسلافيا السابقة، ودراسة النماذج والاستفادة من الدروس لتكوين أجهزة ذات كفاءة عالية وناجزة عقب نهاية الحرب لملاحقة كل مرتكبي هذه الجرائم لأن فيها حقوقاً عامة وخاصة، وكما هو معروف الحقوق العامة لا يجوز التصرف فيها إلا بإرادة أصحاب الحقوق الخاصة، كما يجب عدم التساهل في الحقوق العامة وإخضاعها للمصالح الذاتية من أجل تحقيق مصالح لا علاقة لها بالمصلحة العامة وتسويات ومحاصصات السلطة السياسية".
ومضى رئيس مجلس أمناء هيئة محامي دارفور المكلف في القول "على أجهزة الدولة العدلية أن تلتزم بالقانون وألا تصبح أداة من أدوات السلطة التنفيذية وتابعة لها واستخدامها في تغطية الجرائم لصالح الجيش وأعوانه، أما بالنسبة إلى ’الدعم السريع‘ فعليه احترام حقوق الإنسان وإيقاف الانتهاكات المرتكبة بواسطة أعوانه، وعلى الطرفين معاً العمل على وقف الحرب واتخاذ التدابير اللازمة لاحترام حقوق الإنسان، وقد تكون هناك صعوبة لتحقيق ذلك، بسبب أن قيادتي الطرفين هي التي تباشر ارتكاب الجرائم والتستر على معاونيها من الملاحقات الجنائية وأخذ القانون بفوة البندقية".
نظام روما
في السياق أوضح المتخصص في مجال القانون عبدالعزيز عثمان سام أن "الجيش السوداني أخطأ خطأ كبيراً خلال السنوات الأخيرة التي سبقت اندلاع الحرب بإسناده مهمة قوات المشاة المناط بها حماية البلاد التي كان غالبية أفرادها من مناطق دارفور وجنوب كردفان والانقسنا إلى ’الدعم السريع‘، وبالتالي كانت الأخيرة مهيمنة على كل الأراضي السودانية، وكذلك على الإنسان السوداني وممتلكاته، لذلك نكلت هذه القوات بالمدنيين بصورة لم تحصل في التاريخ قتلاً وتعذيباً واغتصاباً وتهجيراً، فضلاً عن نهب الأموال العامة".
وأردف سام "هذه الحرب مورست فيها أفظع الانتهاكات خصوصاً جرائم الإبادة، والأخطر أنه لا يوجد من يحميك كشخص مدني، والحقيقة أنه ليس هناك في الأساس حرب بين الجيش وقوات ’الدعم السريع‘، فاستهداف المدنيين هو الهدف الأبرز، صحيح حصلت تجاوزات من الجيش لكنها فردية، ولا يمكن وضع القوتين في كفة واحدة من ناحية الانتهاكات".
واستطرد المتخصص في القانون "آليات المحاسبة التي تضمن الإنصاف يجب أن تكون محلية وإقليمية ودولية، ولا بد من عدم إفلات أي شخص قام بانتهاك من العقاب، خصوصاً وأن حكومة السودان صادقت على نظام روما الخاص بالمحكمة الجنائية في 2021، وهو يمثل إحدى الآليات التي يمكن أن تحقق العدالة، وبالتالي هناك حاجة إلى الاختصاص التكميلي للمحكمة الجنائية، لأن القانون الجنائي السوداني لا يغطي كل الجرائم خصوصاً الانتهاكات الكبيرة".