ملخص
ماذا لو أن الإنسان بلا ذاكرة، ولا يملك خططاً لأي شيء حاضر، ولا خطوات محسوبة لأي تحرّك مستقبلي؟ هي لحظة مرتبكة بامتياز، يفرزها مصنع القسوة في هذا العالم الجافّ، ويستحضرها الشاعر محمد السيد إسماعيل في ديوانه الجديد، منغمساً في أعماق ذاته المنعزلة، ومنفتحاً على جماليّات الوحشة والسراب والتبدد، التي تعنى بها قصيدة النثر المصرية والعربية الراهنة.
في مجموعته الشعرية الجديدة "أكثر من متاهة لكائن وحيد"، الصادرة عن دار الأدهم في القاهرة (2025)، يواصل الشاعر المصري محمد السيد إسماعيل تأسيس تمارينه الخاصة، البدنية والروحية، وفق كتالوج التريّض اللياقي الذي افتتحه في وقت سابق بديوانه "تدريبات يومية".
عبر شذرات انفجارية مكثفة من القصائد القصيرة، وقصيرة القصيرة، يعلن الشاعر رفضه قوانين الثبات والدائرية والديمومة، وميكانيكا الحركة الكونية المنتظمة، ويحتج على الأشباح السوداء القاتلة التي تحضر بالضرورة في موعدها المقدس "أعلم أن كل شىء قاتل: أشباح آخر الليل، الخطوات الثقيلة المنتظمة". ومن أجل حلحلة هذا المشهد الصخري، ولو افتراضيّاً، يقترح الشاعر سلسلة من الشطحات والانتفاضات والانزياحات الارتجالية والعشوائية، تبدأ جميعها من نقطة الصفر، وتقود من دون بوصلة هادية إلى وجهات متنوعة مجهولة في الفراغ الكائن "لا أحد سوف ينتظرك عند الشاطئ، كما كنت تظن/ والمرأة البعيدة، التى ظللت تحبها عشرين عاماً، أصبحت تهش الوحدة، والغياب، والعدم، كما تهش حيوانات ضالة".
الإبحار كغاية
في هذه الفلسفة الشعرية، القائمة على تكرار تجارب الانفلات الخاطف من قبضة الروتين الآلي السائد، لا يبدو الوصول إلى مكان ما أو بلوغ زمان ما هو الهدف، فلا محطة مستقرة أصلاً تنتظر اللاجئ الحائر. تنحصر الغاية في محاولة الإبحار فقط، كفعل لإثبات الإرادة، وإعادة ترتيب الأوراق على أكثر تقدير، في الهوامش والمنافي النائية "عندئذ سأكون قادراً على ترتيب المكان، أصنع غرفة متواضعة على أطراف المدينة، ولا أبرحها".
انعدام الوجهة هو استكمال لامّحاء الذاكرة "لم أعد أتذكر شيئاً/ وأنا سائر في الطريق". وهذا الكائن الوحيد، الذي يلاقي أكثر من متاهة في خريطته، وفق عنوان الديوان، لا يزعجه أن يخوض تلك المغامرات الاستكشافية العجائبية، التي تمنحه نفاذاً أعمق في ذاته المنفصمة، وتلصقه أكثر بأراجيح السراب، فآلام التعثر والضلال والوحشة والتبدد أخفّ وطأة من الإقامة الباردة المحنطة في وجود مكتمل الموات "تأكد أن هذه فرصتك الأخيرة، لكي تجرب مرة واحدة، أن تكون بلا فكرة، تحميك من عماء الطبيعة/ بينما آلاف الأشياء تشتعل حولك في هدوء".
ألاعيب الطفولة والغياب
هو مسرح للعبث، لا مجال فيه لحبكة واضحة تصلح كحل منطقي للمأزق المعقد في الحياة الصغيرة، الأشبه بقبضة في الهواء. ومن ثم، تلهو الذات الشاعرة بألاعيبها الطفولية، وقد استشعرتْ أن الحياة في معناها الحقيقي الكامن ما هي إلا لعبة مجنونة، يمكن أن يفصح الألم عن أسرارها في اعترافاته المتوددة "يقول لي الألم: لن تجد صدراً حانياً مثل صدري، فما الذي يغريك هكذا دائماً في لعبة الحياة؟". وهناك ألاعيب أخرى تمارسها الذات الشاعرة، أو هي مراسم تقيمها، من أجل بلورة الغياب المدهش، والتكريس له بطلاً للحالة. تجد الذات حضورها، ببساطة، في غيابها المؤثر، وفي عدم نسيانها هذا الغياب، وعدم نسيانها الوحدة، في أي موقف عابر أو أية لحظة اعتيادية "اعتمد على ذراعيك، وسط كل ذلك الفراغ، من دون أن تنسى أبداً، ولو لمرة واحدة، أنك وحيد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا الغياب الفعّال هو حصيلة الرحلة كلها، بمتاهاتها المتعددة التي يسلكها الكائن الوحيد. وهذه الفعالية يتصف بها الغياب، لأنه غياب استثنائي، إذ يعني في المقام الأول خلق وضعية جديدة متمردة على الأمر المفروض، كما أنه يعني المضي قدماً مهما تكن الظروف، ويعني عدم الموافقة على الرجوع الاستسلامي إلى الوراء الماضوي الكابوسي "يمر الجميع من أمامي، متعجبين من حيرتي، من دون أن يدرك أحد أنني قد جهلت، من دون أسباب واضحة، الرجوع إلى البيت".
نداءات خفية
تبقى إشارة أخيرة في ديوان "أكثر من متاهة لكائن وحيد"، للشاعر محمد السيد إسماعيل، إلى تلك النداءات الخفية التي تلاحق الذات الشاعرة الحائرة، وتضفي طابعاً سحريّاً على رحلاتها المكوكية. هذه النداءات، تتعلق إما بهالات الأنثى الممكنة، أو بأطياف الأحلام المستحيلة، وهي نداءات جادة ومتفاعلة في الحالتين مع الأنا الشعرية الراغبة في التحرك والتحرر والتغيير.
تخلخل هذه النداءات البنية المونولوجية الأحادية للنصوص الشعرية، الممتدة على طول الخط، مفسحة المجال لسرديات وحوارات حية تخلقها التعددية الخارجية (الشخوص)، والتعددية الداخلية (انقسام الذات). ومثلما ترتقي الأحلام فوق حيز الواقع الأرضي، فإن الأنثى تسمو أحياناً إلى درجة الأميرة "لم تكن الأميرة مجرد نجمة تائهة، ولا طيفاً عابراً طرق بابكَ الصغير/ كانت أشبه بكلمة الرب التي تقول للشيء: كن فيكون".
ولا تكاد تختلف نداءات الأنثى ونداءات الأحلام في طبيعتها ونتيجتها، فصوت الأنثى محمّل بوعوده الدافئة "اكتبي اسمكِ هنا على هذا الحجر، لكي تتذكريه مرة أخرى، بعد أن تقومي من رمادك/ يالجسمكِ الأبيض، جسمكِ الذي تنعكس عليه أشعة الشمس، فيرسل برقه ورعده وأمطاره الدافئة"، وصوت الأحلام مشحون بوعوده المعلّقة "حلمتُ بأنني قذفت بجسدي من النافذة، فلم أسقط، وظللت معلقاً ما بين الأرض والسماء، أراقب الكائنات التي تمر من تحتي، والطيور الكثيرة التي تحلق في الفضاء".